الصفحات

الأربعاء، 8 أغسطس 2012



المسجد والصياد ..! قصة حقيقية ..

كتبتها الأخت : أميرة الجلباب من منتدى التوحيد فتقول :

هذه قصة حقيقية تأثرتُ بها جدا.. حدثت منذ عدة سنوات.. وكنتُ طرفا في جزء منها.. أرويها لكم مع تغيير الأسماء ...
----- 

في هذه الليلة الهادئة التي لا تُنسى طلب الشاب "أحمد" من أمه العجوز أن تجلس معه على غير عادتهما ليتبادل معها أطراف الحديث..
وكان الوقتُ متأخرا.. وكانت نبرة صوته مختلفة يتخللها شيء من الخشوع..
تحدث طويلا .. ومن ضمن كلامه حدثها عن فتاة جميلة وأخذ يصفها لها.. واسترسل في الحديث!
انتبهت الأم وقالت مبتسمة : من هذه الفتاة يا بني.. حتى أخطبها لك؟


فتنهد قليلا.. ثم قال لها كأنه يتحدث من عالم آخر:


إنها ليست في الدنيا يا أمي..! بل هي من الحور العين!! 


قال هذه الكلمة ولم يعلم بعدها أنها أضحت مقولة تسري في أرجاء البلدة الصغيرة.. يلفها الغموض.. ويتملك سامعيها العجب..
*** 


مرت الأيام حتى تم حولان على هذا الحدث..


ثم كان أن انتدبتني شيختى ومعلمتي يوما لمسجد لأقوم بتحفيظ القرآن.. مسجد جديد نسبيا ليس فيه نشاط ويحتاج لمعلمة.. فوافقت..


هناك في مكان لا يبعد عن ساحل البحر كثيرا.. مسجد بسيط من طابقين جدرانه بيضاء من الداخل والخارج.. الطابق العلوي للنساء.. نوافذه ينفذ منها ضوء الشمس ليغمر المكان بالدفء أيام الشتاء .. يُطل من إحدى الجهات على الطريق وفي مقابله منزل صغير.. ومن الجهة الأخرى أرض فضاء يليها بعض البيوت الصغيرة المتناثرة..


بدأت دعوتي هناك بهمة ونشاط..
لكنى لاحظت أن الحضور كان قليلا من قِبل النساء!.. وسائني ذلك..

شرعت في العمل.. وأخذت أستحث النسوة على دعوة من حولهن إلى المسجد.. لكن الاستجابة كانت ضعيفة..

وبعد مدة بدأت أشعر ببعض الرتابة والملل! .. أسررت في نفسي قولا: "أريد أن أستغل جهدي في مكان آخر!".. ولكن!..
أستغفرك ربي هذا أمرٌ لا ينبغي .. حدثتني نفسي أن أترك المكان إلى غيره مما أظنه أولى .. ولكن!..
لابد أن أتحلى بالصبر.. لا ينبغي أن يتخلل اليأس سريعا.. لعلي على الأقل أن أخرج من هنا بفائدة..! 
ثم إني استشعرت لهذا المكان سحرا خاصا دخل قلبي وفيه سكينة محببة..فهذا المسجد بجدرانه البيضاء كأنه يوشك أن يفضي لي بسر يكتمه!

كان معنا في الحلقة الحاجة "أم أحمد" 
امرأة عجوز أكبرت فيها حرصها على التعلم رغم الكبر.. ألمح في عينيها مسحة من الحزن ظاهرة لا أعرف كنهها..
ومعها ابنتها الأخت "أم هدى" مطلقة ومعها طفلتها الصغيرة.. أما منزلهم فهو ذاك المنزل المطل على المسجد من الجهة المقابلة..
في يوم من الأيام
وأنا عائدة من مسجد شيختى صاحبتني الأخت أم هدى في الطريق .. ووجدتها تخبرني أنها تودعني فقد تم عقد قرانها وسوف تسافر غدا..
باركت لها وهنئتها..

ثم ركبنا معا.. فذكّرتها بدعاء الركوب فأخذت تلقنه لابنتها الصغيرة.. سكتنا قليلا ثم أردت أن أقطع الطريق بالحديث معها ولم أكن أعرفها من قبل كثيرا.. 

وقلت في نفسي خير ما نقطع به الطريق "دعوة إلى الله"..
بدأت الحديث .. وأوصيتها أن تستمر في حلقات العلم في أي مكان تسافر إليه وألا تنقطع عن حفظ القرآن ومراجعته حتى لا تنسى.. ثم خطر لي أن أعطيها شيئا كذكرى طيبة.. فنظرت في حقيبتي وأخرجت رسالة دعوية مطبوعة من ثلاث أوراق بعنوان "رسالة إلى غريق"، أوصيتها أن تقرأها، وأن توزعها على من تعرفه ومن تناسبه، وذكرتها بأهمية الدعوة إلى الله في أي مكان تذهب إليه.. واستطردت قليلا قائلة: إن علينا أن نبذل وسعنا في الدعوة ونتوكل على الله ونصبر.. وألا نخاف وإن ضيّقوا علينا..!


وكانت هذه الكلمات القليلة مفتاحا لقصة طويلة..
----------
لما تحدثت مع الأخت أم هدى عن أهمية الدعوة إلى الله وأن على الواحد منا أن يصبر على ما يصيبه في سبيل دعوته.. كنت بهذه الكلمات التي ألهمنيها ربي كأني أفتح بابا بيني وبينها لأتعرف منه على قصتها.. 
وكانت المطوية "رسالة إلى غريق" التي أعطيتها تتحدث عن الاختلاط.. وأخبرتها أن هذه الرسالة جيدة ومناسبة لطلبة الجامعة وممكن مثلا أن نعطيها لفتى وفتاة يتصاحبان دائما أو إذا شاهدناهما يجلسان معا وهكذا..


فأخذت الورقة وشكرتني وقالت أنها كانت تعمل في الإدارة التعليمية للجامعة ومرت بمواقف كهذه، وأضافت: إن عدتُ للعمل هناك طبعتها ووزعتها وعلقتها في مسجد الجامعة.. 


قلت مستفسرة: هل تعني أنكِ تركتِ العمل الآن؟


قالت: نعم تركته منذ لبستُ النقاب!.. فهم لا يقبلون المنتقبات.. ومن العجيب أنني بعد أن تركته وجدتهم يلحون عليّ أن أعود للعمل بنقابي كما أريد ولكن اشترطوا ألا يكون لي نشاط!

فكرت قليلا ولم أكن أعلم عن أمرها الكثير.. وكان يخطر في بالي أحيانا تساؤل: لماذا هي مطلقة رغم أنها لا شيء يعيبها كما يقولون..!


فلما تكلمنا.. أتت في سياق حديثها على ما كنتُ أضمرته في نفسي من تساؤل، وقالت: أنها طُلقت بسبب نقابها!


صدمتني الكلمة.. وقلت متعجبة: طلقتِ بسبب نقابك؟!.. كيف؟!


قالت مؤكدة: نعم!


معقول ؟ أمِن أجل النقاب فقط ؟!..


- نعم.. ولأني أردت ترك العمل في الجامعة حيث لا يقبلون المنتقبات.. 


أما كان هناك من حل آخر؟

كان يضربني ويعذبني بعد لبس النقاب وربما هددني بالضرب حتى أصبحت حياتي معه مستحيلة!
هددك بالضرب!!نعم وبالطرد من البيت أيضا.. وكان أهله معه ضدي.فأشرتُ إلى ابنتها الصغيرة، وقلت: وهانت عليه ابنته؟!

قالت: لم يهتم بذلك.. ثم أردفت وكأنها تتذكر شيئا مؤسفا: كان رجلا لا خير فيه!
كنتُ أنزل من وراءه بالنقاب.. ولمّا عرف بذلك وكنا معا في دولة عربية هددني بالضرب بالعصا وبآلة حادة إن لم أخلعه!!.. وفي المطار أمرني بخلعه ولكني لم أخلعه..
كنت معه تحت ضغط شديد وعذاب..

تعجبت وقلت في نفسي: لابد أن في الأمر شيئا.. فهذه التضحية بحياتها الزوجية من أجل أن تلبس النقاب وأن تلتزم به لا تكون سهلة غالبا على امرأة.. بل لابد أن وراءها أمرا..

سألتها : وما الذي ساعدك على هذا الثبات والتضحية؟!

قالت: إنه أخى "أحمد"!

هل تعرفيه..؟

استحييتُ.. وأخذتُ أسترجع الذاكرة برهة لعله شيخ معروف في المنطقة مثلا أو ما شابه..

لقد كانت تظن أني أعرفه وأعرف الذي حصل.. ولكنى في الحقيقة لم أكن أعلم الكثير عن هذه الأخت رغم وجودي كمعلمة معهم في حلقة المسجد ذي الجدران البيضاء منذ ما يقرب من ستة أشهر.. كل ما كنت أعرفه أنها مطلقة وهذه البنت الصغيرة هي ابنتها وهذه العجوز أمها وهذا المنزل المطل على المسجد مباشرة هو منزلهم.. ولم أكن أتدخل فيما لا يعنيني!

قالت: أخي أحمد.. ألا تعرفينه؟!

وعندما لم أجبها.. قالت:

ألم تسمعي عن الشاب الذي مات في البحر؟!

فخطر في ذهني هذا الحادث الذي سمعت عنه منذ عامين .. والذي طار خبره في بلدتنا..!

خرجت مني الكلمة وكأني أتذكر: أهذا الذي قال لأمه (بل الحور العين

قالت: نعم!!

بدهشة: أهذا أنتِ أخته؟!

قالت: نعم!

لم أصدق ما يحدث!.. يا إلهي!.. لقد كنت في شوق لمعرفة قصة هذا الشاب وما سر هذه الكلمة العجيبة التي قالها في آخر حياته!.. ولماذا قالها وما الذي حدث؟.. وما حكايته؟.. منذ عامين وأنا لم أحصل إلا على الجزء الأخير من الخبر.. 
كنت فقط سمعت بآخر سطور الحكاية كما سمعها غيري من الناس منذ ما يقرب من عامين.. ولما سمعتها حينها لم يتح لي معرفة المزيد.. فظل الأمر معلقا عندي بين السماء والأرض.. لكني أدركت أن وراء هذه السطور الأخيرة أو يسبقها قصة حياة فريدة تستحق أن تُعرف.. تستحق أن أبحث عنها! 
كم هي هذه الدنيا صغيرة.. وقصيرة..!

فها أنا الآن أقف أمام أخته وأحدثها.. بل كنت أجالسها من قبل وأنا لا أعلم!يا إلهي!!.. هل يعقل أن أعرفها في آخر يوم ألتقيها فيه!!.. بل وفي آخر لحظة!!.. فها قد أوشكنا على النزول من العربة وسوف نفترق.. 

- أختى.. لكني أريد أن أعرف قصته..

قالت: سأحدثك قبل السفر في الهاتف.. وافترقنا!

نزلت إلى المكان الذي أريد.. وكنت أريد أن أشتري شيئا من السوق.. لكن الدكان مغلق للصلاة فقد حان وقت صلاة الظهر.. فذهبت إلى المسجد المجاور حتى يعود صاحب المحل.. 

وكان كل شيء يسير بقدر!

بعد انقضاء الصلاة وقفت أنتظر على السلم الداخلي للمسجد وأسندت رأسي على يدي أفكر.. وفي ذهني صورا لما مرّ بي هذا اليوم..

وفجأة.. إذا بي أسمع امرأة من ورائي تلقي علي السلام وتلاطفني وهي منتقبة.. ولم أتبين صوتها، فقلتُ: من؟.. قالت مداعبة: واحدة تحبك!.. قلت: أريني وجهك!.. 

فكشفت نقابها فإذا بها أمُّ هذا الشاب الذي وقفت أفكر في قصته!!.. إنها (أم أحمد)!

فقلت متلهفة : أخبريني عن ولدك يا أماه.. فوالله لم أعرف أنكِ أمه إلا اليوم.. عرفت هذا من ابنتك منذ قليل!

انتبهتُ لنفسي فجأة.. إني أتحدث مع ثكلى!.. وطلبي هذا ربما يستثير دمعها أو يفتق جرحها المكلوم.. 
ها قد أدركت الآن سر هالة الحزن التي كنت أراها على وجهها..غير أن شيئا مما توقعته لم يحدث!!بل انطلقت أسارير وجهها مستبشرة.. ورفعت عينيها لأعلى كأنها تتذكر أجمل ذكريات عمرها وأحلى لحظات الحياة.. وبدأت تحكي لي الحكاية.. وبدأت من آخرها...!! 
----------- 

وبدأت من آخرها..

حكت أمه أحداثا كثيرة متفرقة وكذلك فعلت أخته.. وأمدتني ببعض الأوراق التي كتبتها بنفسها مع أوراق أخرى كتبها بنفسه..

قالت أمه: كان عندي جوهرة ولكني لم أعلم قدرها إلا بعد أن فقدتها..!

وقالت أخته: كان يردد هذه الكلمة كثيرا في آخر حياته: "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه"!..

وجمعتُ أطراف الحكاية..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، -وذكر ومنهم-: وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد))، أخرجه البخاري.. وفي رواية: (ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه) صحيح الجامع.

ونحسبه كذلك.. شاب نشأ في طاعة الله.. قلبه معلق بالمساجد.. 

كانت البداية مع كتاب الله تعالى.. فقد تعلم "أحمد" القرآن في صغره على يد والده ثم على يد شيخه في مسجد القرية..
في هذا المسجد تلقى الدروس الأولى للحياة..
ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة ساحلية فأكمل تعليمه.. وكان تلميذا نجيبا متفوقا منذ صغره.. يحصل دائما على المراكز الأولى في مدرسته..
هو الثالث بين إخوته في المولد.. لكن الحرص على السبق والأولوية والتفوق كانت من أبرز مكوناته الشخصية..

حصل مرة على الترتيب الثاني فعاد إلى البيت يبكي ويقول: أنا الأول!.. ذهبت الأم إلى المدرسة وراجعت المدرسين فوجدوا خطأ في رصد الدرجات.. وأنه الأول كما قال!

الهمة العالية والتميز في هذه السن المبكرة أول ما يُلفت انتباهك له..

ربما ترى أبواه يجبران إخوتَه على الذهاب لحلقات القرآن.. أما هو فيذهب بنفسه وبكامل رغبته إلى شيخه في المسجد.. حتى ختم القرآن الكريم في الإعدادية ثم أتمه مجودا في المرحلة الثانوية..
كان حرص الوالدان في هذه الأسرة على: أداء الصلوات في جماعة.. وحفظ القرآن.. بجانب التفوق في الدراسة.. يسير في ثلاثة خطوط متوازية..
يبدأ اليوم مع أذان الفجر فيذهب الجميع للصلاة صغارا وكبارا.. الرجال والصبية في المسجد والنساء في البيت.. ثم يجلس الأولاد للمذاكرة ثم الإفطار ثم الذهاب إلى المدرسة ثم الرجوع للمذاكرة ومساعدة الوالدين وأداء الواجبات.. وبعد صلاة العشاء ينام الجميع للاستيقاظ مبكرا..

هكذا مرت أيام الطفولة..

كان طفلا عزيز النفس لا يرضى بالدون.. فمثلا إذا لعب مع إخوته لا يرضى بالهزيمة.. فإذا هزمه أحدهم مرة أصرّ أن يلاعبه مرة أخرى حتى يكون الفوز له.. كان متفوقا على أقرانه في القراءة والذكاء.. وكان أبوه يعتمد عليه في عمله رغم صغره فتعلم الثقة والاعتماد على النفس وعدم الإسراف في إنفاق المال.. ولم يحصل على دروس خصوصية في الثانوية إلا في مادتين تقريبا بعد إلحاح من والده.

وفي الشهادة الثانوية -بتوفيق الله عز وجل- حصل على المركز الثاني على مستوى المحافظة في الثانوية العامة الأزهرية القسم العلمي.. وكان الفارق الذي يفصله عن كلية الهندسة فارق بسيط جدا.. وعندما حان موعد كتابة الرغبات الخاصة بالتقدم للكلية رأى أن يكتبها كما يحب والده.. فاختار له والده كلية التربية.. واختار هو قسم الكيمياء والفيزياء.. قرر أن يقدم رغبة والده على رغبته.. ولم يكن هذا الأمر يؤثر عنده كثيرا لأنه كان على حد قول أخته ناجحا في كل شيء يعمله بفضل الله ..

الحياء خير كله..


تقول أخته: في موسم الحج.. وكان عمره أربع سنوات والجميع نائمون وإذا به يصحو فجأة باكيا لأن لباس الإحرام انكشف عنه أثناء نومه..
كان يتصف بالحياء أكثر من البنات!.. وكان لا يجلس في البيت مع أهله متكشفا أبدا..
أصيب يوما في ركبته إصابة شديدية فذهب إلى الطبيب وكان عليه بنطال ضيق من الأسفل.. فطلب الطبيب منه أن يخلع البنطال ليكشف على ركبته.. فاستحيا ورفض.. وأجل الكشف إلى الغد حتى يستعد بلباس آخر لا يضطره للتكشف.. فتعجب الطبيب منه..
***

المراهقة.. وبركة النشأة في طاعة الله..


مرحلة المراهقة من أخطر المراحل وأشدها تقلبا في حياة الإنسان..

كم من شاب يبلغ هذه المرحلة أو يتخطاها وهو في حيرة من أمره.. لم يفهم بعد ما دوره في الحياة؟.. ولماذا خلقه الله؟.. وما السعادة؟.. ولماذا يعيش؟
فضلا أن يكون ملتزما بالدين..

لكن الله عز وجل يهدي من يشاء ..

في هذه السن الحرجة بدأ يشق طريقه إلى الالتزام..
فأخذ يواظب على حضور الدروس الدينية في المسجد.. متلمسا طريق النجاة..

عرف أن طريق السعادة هو: طريق القرآن والسنة.. علما وعملا..
فاجتهد في القراءة والتعلم وحفظ القرآن ..
حتى ختم المصحف في مرحلة مبكرة على يد شيخه.. وقرأ الكثير عن أمور الدين..

فكانت الثمرة أن تفتحت في قلبه معاني الإيمان.. وبدأ يتنسم روحها.. رويدا رويدا.. ويجد لذة الطاعة والتعلق بالله.. وحلاوة العبادة واقتفاء السنة على هَدي رسول الله صلى الله عليه وسلم..

ثم لم يلبث بعد فترة أن بدأ وجهه يزداد بهاءً ورجولة..

فها هي شعيرات لحيته أخذت تنبت فيه..!


هذه اللحية التي ما إن تشق طريقها في هذا السن حتى يبادر أغلب الشباب إلى استئصال شأفتها كأنها عار أو شنار!

لكن صاحبنا لما عَلِم قدرها ومكانتها في الدين وأثرها في حياته..
وعلاقتها بتوطيد صلته بـ "السنة".. وسلف الأمة..

قرر أن يُسالمها وأن يدعها ..

لتنمو معها رجولته.. ولتنبت معها معاني المروءة والنبل في نفسه.. والتهيأ لتحمل تبعات هذا الدين..

ولم لا؟.. وقد علم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((خالفوا المشركين: وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب))..
((انهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى))..
((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس))..

وهكذا ثمرة الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.. التسليم المطلق لأوامر الله عز وجل واجتناب نواهيه.. والتسليم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مرية أو مراء..
وهو القائل: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به))..
والذي قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).

وأيُّ أمر أحق أن يُحب ويُتبع من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟..


تسليم وقبول.. وحب وانقياد..


وخطوة فارقة على هذا الطريق.. طريق القرآن والسنة بفهم سلف الأمة.. 
وإظهارٌ لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن الغربة.. وغصة في حلوق المجرمين! 
وإعلانٌ باتباعه في كل شؤون الحياة..


لتحقيق معنى "العبودية".. الغاية التي من أجلها خلق البشر.. والهدف من الوجود..!

الغاية من الدنيا وإرسال الرسل وخلق السماوات والأرض.. وأصل "السعادة" ومنتهاها.. 


علم " أحمد" أن ليس له إلا طريق واحد.. طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده.. منهج الإسلام الصافي كما أُنزل أول مرة.. من قبل أن يطرأ عليه أي تحريف أو تأويل أو ابتداع.. 


ثم عليه أن يصبر ولا يحيد.. مهما كلفه ذلك من أمر!

في هذا الوقت الذي بدأ يلتزم فيه بالهَدي الظاهر.. ويرفع فيه شعار السنة.. بدأ من جهة أخرى يتطور في حياته صراع خارجي مع أهله والمحيطين به.. وكان محور الصراع دائما هذه اللحية!..
أو هذه الفكرة التي ترمز إليها اللحية: إحياء السنة في زمن الغربة!
أو هذا "المنهج" أو "العقيدة" التي يحملها في قلبه..

عقيدة صراعها مع العادة والموروث هو شأنها الطبيعي كلما انبعثت فيها الحياة من جديد بين أموات! 

ورغم صلاح الوالدين إلا أنهما كانا يتخوفان من مسألة الالتزام بالهدي الظاهر كحال كثير من الآباء والأمهات..

واجهته المعارضة الشديدة والرفض.. وكثيرا ما كانت تدور المناقشات والمشادات في البيت بين الموقفين:
رفض اللحية.. وإصراره على إطلاقها..
رفض الفكرة.. وإصراره على إحيائها..

لكن من يستطيع أن ينزع لذة الإيمان من القلب.. بعد أن وقر فيه؟!

وما الذي يمكن أن نعوض به لذة الحياة الطيبة.. إذا فقدناها؟!

فلتمضِ إذن يا "أحمد" وليكن ما يكون.. وماذا يضرني إن نالني شيءٌ من الأذى والتضييق!


فليت الذي بيني وبينك عامر... وبيني وبين العالمين خراب.
أذا صح منك الود فلكل هين... وكل الذي فوق التراب تراب.


ومع مرور الأيام.. كان الأمر يتزايد.. وكان التعدي بالقول والفعل..
وكان لابد من الصبر على الأذى فيه!..

المشهد الذي يجمع أهل البيت.. افترق إلى صفين.. وكان وحيدا في صفه ليس معه إلا أخوه
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:
((بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء))..

لم يتوقف الإيذاء ولم يتوقف إصراره العجيب.. فكان أبوه أحيانا يطرده من البيت فيبيت ليلته في الشارع.. فلربما ذهب إلى السيارة لينام فيها أو إلى هذا المسجد المقابل لمنزلهم (المسجد ذي الجدران البيضاء) فيبيت فيه!.. وربما تشفق عليه أمه أو أخته يوما فتسرب له غطاء يلتحف به في الشتاء.. أو شيئا من طعام العشاء.


تنكر لي دهري ولم يدري أنني ... أعزُّ وروعاتُ الخطوب تهونُ
فظل يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبتُّ أريه الصَّبرَ كيف يكونُ


كان إذا سخر منه أحد إخوته أو عنّفه أو وبخه.. ردَّ عليه بهذين البيتين:
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرّجت عنه ... وإن خليته كمدا يموت!


تقول أخته:
لقد حفظت هذين البيتين من كثرة ما سمعتهما منه!.. فقد كان يطبق علينا ما يقرأه ويتعلمه.. فإذا ضايقه أحدنا يرد عليه بهذين البيتين أو يصمت..
فإذا اشتد عليه الأمر قال: (لولا الله لكنتُ..!) ثم يسكت!.. 


كان حليما معنا.. رغم ما كان يسمعه منا من الأذى.. لطيفا لينا في دعوتنا إلى الله.. ويسلك معنا سبل الإقناع والرفق.. رغم ما يلقاه منا من ضد ذلك..!
وتقول: لقد تعاهد نفسه بالتربية بطريقة عجيبة.. ففي أول أمره صام ثلاثة أشهر متواصلة.. ثم كان يصوم بعدها عاما كصيام داوود عليه السلام.. وعاما يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع.. وهكذا..!


وفي آخر أمره لم نكن نعرف صيامه من فطره فقد كان يخرج لعمله بعد الفجر ويعود بعد المغرب..

أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

مرحلة الجامعة..


اتضحت في هذه الفترة ملامح شخصيته أكثر.. شخصية قيادية، ودودة، مرحة، محبة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.. لين الكلام حسن المنطق مع عقل وحكمة..
تقول أخته: حين تسمعه تشعر أنك مع رجل كبير ذي خبرة وحكمة..
التف حوله الكثير من زملائه في الجامعة وفي المدينة الجامعية التي كان يسكن فيها لما لمسوه من طيب الخُلق وحسن المعاملة..
كان هو إمامهم في الصلاة.. ولا عجب!


خلوقا.. عطوفا تهزه المواقف الإنسانية.. 


حصل على إعجاب الجميع حتى من بعض حرس الجامعة.. وربما كان بعض ضباط الحرس يحضرون دروسه التي يلقيها أو يستمعون له..!
كم كان يحب إخوانه في الله.. حتى أنه في أيام العطلة يأتي بهم إلى منزله في القرية ليستريحوا ويغسل ثيابهم معه.. وكانت غرفته لا تغلق أمام حوائج إخوانه في السكن الجامعي.. كان ذا قلب كبير.. فأحبوه..


نظم رحلة لبعض زملائه في الجامعة لمدة أسبوع على نفقته الخاصة..
بعض أصدقائه يرسلون له رسائل مودة.. وآخرون يطلبون منه النصيحة ..

وكان منها هذه الرسالة بتاريخ "6-6- 2002م" من أحد إخوانه:
بسم الله الرحمن الرحيم..
((الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ . يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ))..
وبعد..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أستاذي الفاضل: "أحمد"
جزاك الله عنا خير الجزاء.. وزادك الله من فيض نوره وحكمته.. آمين.
أعلمك أخي أنه حقا نقشت كلماتك في خاطري.. فأرجوك أن تتغمدني بالنصيحة ولو يسيرة كل لقاء.. وبارك الله فيك.
وتقبل هذا الإهداء.. (وكتب أبيات شعر تعبر عن حبه ومودته) اهـ.


يذكر أخوه الأكبر عن بعض أصحابه أنه في فترة الامتحانات الجامعية رأى في المنام أن الامتحان غدا فيه كذا وكذا من الأسئلة.. فأخبر زملائه بها.. فدخلوا اللجنة فوجدوا نفس الأسئلة التي أخبرهم بها.. فأخذوا يتضاحكون في اللجنة.. ويسألونه بعدها عن الامتحان غدا!

يقول أخوه


كان له جهد واضح وعلامة مؤثرة في المدينة الطلابية وكانت صداقاته كثيرة.. حيث كان مصدر إعجاب لمن حوله.. وقد التزم على يديه الكثيرون.. ذكر بعض أصحابه أنهم تجاوزوا المائة شخص..!
عرفنا كثرة صداقاته من كم الاتصالات التي كانت تأتي للسؤال عنه عندما يكون عندنا.. وأيضا من عدد حافلات الركاب التي جاءت للعزاء فيه!
-------- 

طلبه للعلم..

لم يكن غريبا أن يحرص "أحمد" على دروس المشايخ الكبار في القاهرة مثل الشيخ محمد حسين يعقوب وغيره.. فجامعته في القاهرة.. 

ولكن الغريب أن يحرص على حضور درس الأحد للشيخ ياسر برهامي في الإسكندرية لمدة ثلاث سنوات!.. يسافر كل أسبوع دون كلل أو ملل من القاهرة إلى الإسكندرية ويقطع كل هذه المسافة ليحضر الدرس.. وكان الشيخ يشرح في هذا الوقت معارج القبول وفتح المجيد.

ولم يكن طلبه العلم الشرعي عائقا له عن دراسته.. بل كان تقديره لا يقل عن "جيد جدا" .. ساعده على ذلك تنظيم الوقت وبركة الحفاظ عليه.. وكان سريع البديهة سريع الحفظ.

وهذا جزء من جدوله اليومي أيام الجامعة الذي وضعه لنفسه:

- السبت: الفجر ثم قراءة القرآن حتى 6,5 ثم الموعد حتى 7,5 ثم الكلية حتى 9,5 ثم مذاكرة حتى 12 ثم "السكشن"، ثم الدرس حتى المغرب، ثم المكوث في المسجد حتى العشاء مع تحضير الدرس ثم أرجع إلى الحجرة فأظل مستيقظا حتى 11 ثم النوم حتى 4,5.
- الأحد: الفجر ثم الموعد حتى 8-8.5 ثم مذاكرة حتى 11 ، "السكشن"، ثم النوم حتى العصر، ثم الدرس ثم المكوث في المسجد حتى العشاء مع الحفظ والمراجعة...

وهذا أحد الدروس التي كان يلخص عناصرها ويلقيها على زملائه.. وهو درس ماتع.. فاستمعوا له!

بعنوان: الجـــد يا شبـــــــــــاب..!

إذا دخل عليه أهله وجدوه واضعا كتابه الدراسي وفوقه كتاب شرعي وفوقهما المصحف.. فينصحونه أن يركز في دراسته فيكون رده :

"القرآن غذاء روحي!"..

تقول أخته: "أحسبه والله حسيبه لم يكن يعمل عملا إلا بنية.. أكله.. لباسه.. كلامه.. فكان مثلا يحرص على الثوب الأبيض والعمامة البيضاء إلا إذا كان ذاهبا للجامعة.. 

وكان زاهدا في الدنيا .. فإذا قيل له تزود بهذا قال: 

"الفقراء أولى به"..

ولم يكن يهتم كثيرا بالبحث في الأسواق أو شراء ملابسه.. لذا كان لباسه غالبا على ذوق أخيه!.. 

إذا طلب أحدنا أن يتحدث معه فسيكون حتما محور حديثه ولب كلامه عن حب الله تعالى والدعوة إلى الله أو يصمت..

وإذا كان المجلس على غير ما يهواه من ذكر الله تعالى قام وترك المجلس!"

عندما جاء رمضان قرر أن يعتكف العشر الأواخر.. ولم يكن يفطر غالبا إلا على التمر والماء.. ولا ينام إلا قليلا.. بينما يجتهد في أعمال البر والصدقة..

كان يعلم أن الوقت هو الحياة، فلم يكن ليترك وقته يضيع هباءً.. 

حتى اللحظات الأخيرة قبل النوم يستغلها في شيء مفيد.. فيسمع درسا مثلا.. 
تقول أخته: دخلتُ عليه ذات مرة قبل النوم فوجدته يستمع إلى شريط فقلت له: ماذا تصنع بهذه الدقائق القليلة التي تسمع فيها وأنت ذاهب إلى النوم؟!..

فقال لها: "ولماذا أتركها تضيع بلا فائدة؟.. أليست من عمري؟!"

كان شغوفا بالجهاد وأخبار المجاهدين.. يسمع أحيانا القصائد الجهادية والأناشيد الحماسية.

- وعن لطفه مع الصغار يقول أحد إخوته:

"زرته يوما في بلدتنا الأولى أيام الجامعة وكان ينزل إليها في أيام العطلة الخميس والجمعة.. ثم صادف أن كان صائما وكنت أنتظره في البيت وصنعت طعاما يكفي لشخصين أنا وهو.. تناولت أنا طعامي.. وكان هو في المسجد أيام العطلة يحفظ الأطفال القرآن الكريم .. وكان الأطفال يحبونه ويتعلقون به.. لأنه كان يلعب معهم ويلاطفهم.. وكان صائما يوم الخميس وحلقة التحفيظ تستمر من بعد العصر إلى المغرب.. 

وبعد صلاة المغرب فوجئت به يأتي إلى المنزل وقد اصطحب معه أطفال المسجد ليتناولوا الإفطار معه!!.. فصحت في وجهه قائلا: ليس لنا طعام الآن إلا ما يكفي لشخص واحد!..

فقال ببساطة: 

لا يهم، الاجتماع على الطعام بركة.. 
وجلس الجميع يأكلون وهو معهم.. ولا أدري كيف اجتمعوا على طبق واحد!.. ثم قاموا فرحين!.. 
وأخذتُ بعدها أغسل الملاعق الكثيرة وأنا متعجب!"

ثم وعد الأطفال برحلة إلى المدينة الساحلية تشجيعا لهم على حفظ القرآن.. ولكن للأسف لم تسعفه المنية..
----------

عبادته..



قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 


(( من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا. قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ، إلا دخل الجنة )) رواه مسلم.


تقول أمه: "كنت أرى ولدي مسرورا إذا جمع في يوم واحد بين أربعة أمور: صيام وصدقة وعيادة مريض واتباع جنازة.. فتعلمتُ هذا الأمر منه وصرتُ أقتدي به!"..


قلتُ أنا (أميرة الجلباب): ولقد رأيت بنفسي هذه الأم تحرص على جمع هذه الأمور في يوم واحد.. وكانت سببا في تحفيزي وتنبيهي أيضا على الحرص عليها!.. وقد شاركتها في بعضها بيد أننا لا نتبع الجنازة لكن نصلي عليها فقط.. جزاها الله وولدها عني خيرا.. 


تقول أخته: أما الجلوس بعد صلاة الفجر في المصلى حتى تشرق الشمس ثم صلاة ركعتين.. فهذه الجلسة كانت متنفس دائم له.. حريص عليها..


قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الغداة في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتي؛ كانت له كأجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة)) السلسلة الصحيحة.


أما عن "قيام الليل" ..
فقد سألتُ أمه: هل كان يقوم من الليل؟.. 

قالت: نعم كان يقوم من الليل الساعات الطويلة!!.. 
قلت: كم ساعة تقريبا؟.. قالت: لا أدري..قلت: يعني مثلا أكثر من ساعتين!.. قالت: نعم!.. أذكر أني استيقظت من نومي ليلا فوجدته قائما يصلي ثم تكرر قيامي ليلا لقضاء الحاجة -فقد كنت مريضة- وفي كل مرة أراه يصلي!
***


تخرج "أحمد" من الجامعة بتفوق وكان من أوائل دفعته بفضل الله..


فرجع إلى العيش مع أسرته في المدينة الساحلية.. تلك المدينة التي كان يعشقها ويعشق جوها أكثر من أي بلد أخرى..


وهناك استطاع أن يمارس هوايته المحببة في "صيد السمك".. 

فقد تعلم الصيد بالصنارة في المرحلة الثانوية مع أبيه وإخوته من أحد الصيادين الذين شاهدهم على الشاطيء.. فأعجبه ذلك فتعلم الصيد.. 

ثم سرعان ما اتقن فنون الصيد المختلفة بشكل محترف من الصيد بالشباك إلى الغوص في الأعماق والصيد بالأدوات والأجهزة الحديثة.. الأمر الذي ساعده على اتخاذها مهنة يتكسب منها بعد التخرج من الجامعة.. 
فصارت مهنته ومصدر رزقه وعمله بعد التخرج.. قبل أن يحصل على أي وظيفة أخرى حكومية أو غيرها تناسب شهادته..

فلم يرض أن يستسلم أحمد إلى الراحة أو إلى انتظار الوظيفة كحال كثير من الشباب بعد التخرج.. بل أصر أن يعمل فورا ويتكسب بنفسه مستغلا في ذلك هوايته المفضلة "صيد السمك"..
ولم يثنه عن ذلك شيء من التردد أو مشقة العمل في هذه المهنة مع كون والده ميسور الحال.. 

فقد قرر أن يبني نفسه بنفسه وأن يأكل من عمل يده.. 

فبعد أن تعلم الصيد بفنونه المختلفة وتمرس في مهنته استطاع أن يحترف الغوص إلى أعماق البحر حتى برع في ذلك وسبق غيره فكان أخوه مثلا يستطيع الغطس إلى عمق 10 أو 15 مترا تحت سطح البحر مستعينا باسطوانة الهواء.. أما أحمد فقد استطاع أن يغطس إلى عمق 25 مترا تحت سطح البحر وبدون اسطوانة هواء!

أراد والده أن يساعده في تكوين نفسه.. وكان عنده بيت فأراد أن يجهزه له بأثاث ثلاث غرف حتى يتزوج فيه.. لكنه رفض ذلك ولم يشارك فيه لأنه أراد أن يبني نفسه بنفسه وأن يكون ذلك من عمل يده وليس من عمل والده.. 

فكان يواصل العمل بجد ومثابرة مستعينا بالله عز وجل متوكلا عليه في شأنه كله.. فكان دأبه اليومي أن يصلي الفجر ثم يحمل أدوات صيده وينطلق إلى شواطيء بعيدة حيث يستطيع الغوص وصيد الأسماك الكبيرة.. وكان يعشق البحر بطبعه.. ويعود بعد المغرب أو بعد العشاء.. فينام بعد العشاء مباشرة حتى يستيقظ مبكرا .. وكان يعلل لأهله خروجه المبكر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) صحيح..

تقول أخته: أذكر أننا أصبحنا في يوم شديد البرد ورياحه قوية..


فقلتُ له: اجلس اليوم ولا تخرج للصيد..

فقال لي: لا أستطيع.. أنا "بموت" في البحر!


وكان أحيانا إذا تغير الجو وصار غير مناسب للصيد يعود مبكرا لينام مبكرا ليقوم جزءا من الليل.. أو يتفرغ هذا اليوم لطلب العلم ومذاكرته ومراجعة القرآن..


وكانت أجازته يوم الجمعة.. فيجهز خطبة الجمعة ليخطب في أحد المساجد على أطراف المدينة.. وفي المساء يحضُر درسا للعلم في المسجد الكبير..


فاستطاع بفضل الله عز وجل ثم ببركة هذا العمل والتنظيم أن يجمع في عام واحد أكثر من 25 ألف جنيه من صيد السمك فقط!


لكن ما الذي ساعده على جمع هذا المبلغ في هذه الفترة القصيرة؟!


تقول أخته: 


أولا: حبه لله تعالى الذي كان من أهم أسباب توفيقه فإن الله تعالى يقول في الحديث القدسي:

((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري.


- كان يعتبر سعيه في طلب الرزق نوعا من الجهاد.. وخروجا في سبيل الله.. 


مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان خرج يسعى على ولد صغار فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله)) قال المنذري: رجاله رجال الصحيح.

كان يتأول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد طعاما قط ، خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) البخاري.


استرضائه لوالديه دائما قبل خروجه للعمل فدائما يقول: ادعي لي يا أمي.. ادعو لي يا أبي..


- كان يخرج جزءا من ماله صدقة سواء على هيئة مال أو سمك..


النظام.. وتنظيمه لوقته بين العمل وطلب العلم والعبادة فلم يتأخر يوما بسبب العمل عن وقت من أوقات الصلاة.. كما لم يشغله صيد السمك عن دعوته.. بل كان في كل مكان يذهب إليه له فيه دعوة إلى الله.. فقد كان يحمل هم الدعوة في صدره.. كما أتاحت له هذه المهنة الذهاب إلى مدن وأماكن بعيدة.. فيحمل دعوته أينما حل وارتحل..


- فهمه لسنن الله في الكون وأن النعيم لا يُدرك بالنعيم.. فلم يركن إلى الراحة.. وأدرك أهمية الاستعاذة من العجز والكسل كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)).. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((استعن بالله ولا تعجز)).


حبه للبحر .. وهذا من نعم الله تعالى عليه ومن أسباب التيسير عليه.. الأمر الذي جعله يبدع في العمل وينجز فيه ويستثمر فيه طاقاته وقدراته ويطورها.
------------------- 

دعوَته مع أهله..

كانت الدعوة إلى الله جزء لا يتجزأ من كيانه بل هي الهواء الذي يتنفسه ويعيش به.. قد علم أنه إذا أراد النجاة فعليه أن يدعو غيره وأهله ليثبته الله ويزيده من فضله..
قال تعالى: ((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) .. 
وكان أحق الناس بدعوته هم أهل بيته.. أبواه وإخوته.. قال تعالى: ((وأنذر عشيرتك الأقربين))..
***

أما دعوته مع أخته..

فقد جاء يوم زفافها.. فحاول معها بشتى الأساليب أن تجعل زفافها إسلاميا على ما يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير منكرات.. ونصحها باللطف واللين.. لكنها أبت ذلك وأصرت على ما زينه الشيطان في ناظريها من زخارف الدنيا والأهواء.. 
فصممت على المعصية في عناد.. وصمَّت أذنها عن نصائحه..

فاعتذر ولم يحضر عُرسها.. 

وهي تتذكر هذا اليوم الآن بندم شديد وتقول: "كانت بضع ساعات إلا أنني أبيت إلا أن أمررها بما يغضب الله تعالى ويرضي الشيطان.. فكانت النتيجة أنني لم أجني لذتها ولا ثمارها بل طُلقت بعدها وجنيت الحسرة والندامة والذنوب.. ولازلت أرى لهذه الغفلة عواقب وخيمة تتوالى لولا أن منّ الله تعالى علي بالهداية..

ليتني سمعت كلام أخي ونداء الرحمن..
لقد جاء أخي يوم زفافي وسلم عليّ ثم ذهب ولم يحضر العرس ولم يدخل قاعة الحفل التي كانت تعج بالمعاصي.. وأتمنى لو عادت الأيام وقدمت طاعة الله تعالى على شهوات النفس وخدع الشيطان..
لقد كان الشيطان يخدعني والدنيا غرتني.. وكان أخي حريصا على دعوتي بالنصح واللين والموعظة الحسنة.. ولكني لم أستجب له".
***

وتقول: ذهبتُ مرة لزيارته بعد الزواج.. وبعد الزيارة قام معي ليوصلني إلى بيتي..

وفي أثناء الطريق.. 

قال لي بلطف: ألا تلبسين لباسا أحسن من هذا؟!!
نظرت له وقلت متعجبة: وهل هناك أحسن من هذا؟!..
أنت لا تدري هذا "التايير" بكم قماشه؟.. هذا المتر منه بـ 300 جنيه.. ولن تجد من تلبس أحسن من هذا!!

فقال مستدركا: لا أقصد ذلك.. ولكن أقصد أن يكون محترما أكثر !.. 
فقلت: أكثر من هذا احترام؟!.. كيف؟!.. أنا زميلاتي يلبسن "شانيل" أما أنا فأرتدي "ماكس" وألبس طرحة لف طويلة..!

فقال لها بهدوء: أليس هذا "التايير" يوضح تفاصيل جسدك بعرضه وأبعاده.. 
قلت: صحيح.. لكنه محترم عن الآخرين!
قال: لماذا تنظرين للأدنى منك في الطاعة.. ولا تنظرين للأعلى منك؟!.. 

ثم استطرد قائلا:
لابد أن يكون اللباس غير واصف للجسد وفضفاض وهذا ما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم..
أطرقتُ ببصري أفكر في كلامه.. 
وبدأت من بعدها أغيّر من طريقة لبسي إلى ملابس أوسع كالعباءات والجلباب..
***

رقة مشاعره..


تقول أخته: "كان ربما يخرج للعمل في البحر في الصباح الباكر ثم يعود للمنزل ظهرا رغم بعد المسافة ليحضر لي خبزا لأنه ليس في البيت خبز ولا أحد عندي.. ثم يعود مرة أخرى إلى عمله في الشاطئ البعيد!..

لقد تأثرتُ بمعاملته معي" ..
***

جائني يوما وأنا عند زوجي -فقد كان بارا بي يسأل عني- وقد حملت.. فجلست معه أحدثه عن مشاعري وسعادتي بهذا الحمل الذي جاء بعد عامين من الانتظار.. وأذكر له عظمة الله تعالى وكيف أنني أشعر الآن بكائن حي يتحرك في أحشائي فيه روح ودقات قلب.. واستغرقت في وصفي وأحاسيسي الإيمانية بقدرة الله تعالى وخلقه.. فكان ينظر إليّ باهتمام.. وينصت إلى كل حرف أقوله وقد شعر بالروحانية العالية التي أحسها.. فقال لي فجأة: 


أتبيعين نفسك؟! فقلت مستغربة: أبيع نفسي!!. لمن؟

فقال: لله!
قلت: كيف أبيع؟

قال: بأن تطيعيه في كل شيء..في المأكل والملبس والعمل والصلاة وكل شيء.. أن تسارعي لكل طاعة وتبتعدي عن كل معصية.. والثمن هو الجنة.. وقرأ عليّ قوله تعالى: ((إنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ )).

أثَّر هذا الموقف أيضا في حياتي.. ودفعني إلى مراجعة حساباتي.. فبدأت أواظب على بعض الطاعات التي كنت مهملة فيها.. لكن الهداية لم تكن قد جاءت بعد!

*** 

لقد كانت طريقته في الدعوة معي التدرج والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. كنت مولعة بمشاهدة التلفاز ومتابعة المسلسلات.. فدخل عليَّ يوما فوجدني جالسة أمام الشاشة.. أمام "العجل الفضي" كما يحلو له أن يسميه.. فأغلق التلفاز.. فغضبت وعلا صوتي عليه.. 
فلم يكررها.. لكنه أصبح يطلب مني أن أخفض الصوت حتى لا يسمعه..

وذات يوم سألني بهدوء: لماذا تشاهدين المسلسل؟

قلت له: أشاهد مواقف مفيدة في الحياة وكذلك أسلّي وقتي..
فرد عليّ قائلا: هذا تمثيل .. وبه أمور تزيّن المعصية والرذائل وترك الطاعات وهو ملهاة عن ذكر الله..

فسكتُ..
فقال: هل يجوز لكِ أن تنظري إلى هذا الرجل الذي بالمسلسل وهو ليس بمحْرم لك؟

قلت: لا..
وإذا نظرتي إلى امرأة وهي بادية عورتها هل يجوز ذلك؟. 

قلت:  لا..
قال: ألم تعلمي أن الله تعالى يقول: ((قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)) ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)).. إلى جانب أن هذه الأعمال تدعو الإنسان إلى الخلاعة وعدم الحشمة ولا تدعو إلى طاعة..

كان كلامه خارجا من القلب إلى القلب..!


فتوقفت عن مشاهدة المسلسلات لكني كنت أسمع وأشاهد برامج أخرى..


فدخل عليّ يوما وأنا أشاهدها فنظر إليَّ بعتاب وقال: لماذا عدتي؟!.. 

فقلت له: هذه البرامج ليس بها شيء.. 
فقال: أليس فيها "تتر موسيقي" وغناء.. 
قلت: لكني أخفض الصوت عنده.. 

فقرأ علي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه مسلم.


قلت: وما دخل هذا الحديث بما أنا فيه؟

قال: إذا أردتي أن تلعبي حول بئر ماء هل تلعبين فوق سور البئر أم بعيدا عنه؟.. قلت: بل بعيدا عنه.. قال: ولم؟.. قلت:لأني لو لعبت على السور سأقع.. قال: كذلك محارم الله..

ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا أن الحلال والحرام بينهما "حمى" أي أرض فاصلة وهي حدود الله تعالى، وضرب مثلا براعي الغنم الذي لابد أن يرعى غنمه بعيدا عن المنطقة المحرمة أو الخط الفاصل بينه وبين مِلك غيره.. وذلك حتى لا تتفلت منه من حيث لا يشعر إلى المنطقة الخطر فتجره إلى الهلاك..

كانت هذه هي النهاية التي تركت بعدها التلفاز بالكلية..

فبدأ يحثني على أن أملأ فراغ التلفاز عندي بأشرطة مفيدة ودروس علم.. وكان يحضرها لي..
ويمدني أيضا ببعض الكتب لأقرأها ويتناقش معي فيها..
وكان يحدثني بين الحين والآخر عن النقاب..

إلى أن أتى لي بشريط كان له فعل السحر على قلبي بعنوان "قصص مؤثرة" .. يحكي قصة عجيبة لفتاة روسية أسلمت وارتدت النقاب وابتليت ابتلاء شديدا -"اضغط هنا"-.. وصبرت صبرا عجيبا.. تأثرتُ بهذه القصة وكان تعقيب الشيخ على مدى صمود هذه الفتاة أمام الابتلاءات التي صادفتها في حجابها رغم حداثة إسلامها وصمودها أمام التعذيب.. ومقارنة بين حال هذه الفتاة وحال التي إن قيل لها البسي الحجاب قالت اقنعني اولا أو غدا لما أتزوج وغيرها من الحجج الواهية.. فماذا قدمت الفتاة المسلمة لدينها بالجري وراء الموضة والتهاون بحجابها؟!..


وبالفعل قررتُ أن أرتدي النقاب..

ففرح أخي وقال: سأحضر لكِ النقاب والإسدال هدية..

اتصلت بزوجها الذي كان يعمل في دولة أخرى لتخبره فإذا هو يذكِّرها بوظيفتها في الجامعة.. ويقول لها: البسيه بعد الحج وكذا وكذا.. ويسوف لها الأمور!.. ولم يوافق.


فلما أخبرت أخاها وقالت له: ما الحل؟!

فقال لها: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
فقالت: قل لي حلا آخر..
فقال: إلزمي البيت قدر المستطاع ولا تخرجي منه أبدا..
فقالت: نعم هذه فكرة طيبة وفرصة وأنا معكم هنا حتى أقنعه..

لكن ما حصل بعد ذلك أن زوجها لم يقتنع وكان يضايقها ويؤذيها ويلح عليها في خلعه حتى بعد أن سافرت إليه .. وكان يهددها بقسوة..

وفي الوقت التي كانت هي تتغير فيه نحو الهداية والطاعات كان هو بعيدا عن هذا الطريق.. فاستحالت العشرة بينهما.. حتى طلبت منه الطلاق.. فطلقها.

تقول الأخت: سألتٌ أخي يوما: هل ستلبس زوجتك النقاب؟

قال: نعم بالتأكيد فأنا أغار أن يرى أحدا شيئا منها.. ولا حتى عينيها!
قلت: وهل ستخرجا معا؟ .. 
قال: نعم ..
قلت: هل ستذهبا إلى المطاعم مثلا والترفيه؟
فقال: إن حياتنا ستكون فيها أشياء ممتعة أكثر مما تظنين..
فسألته: ما هي مواصفات الفتاة التي تتمناها يا أحمد؟
قال: أن تكون متدينة وخلوقة وأن تكون محافظة على الصلوات الخمس خاصة صلاة الفجر.. وأن تكون قادرة على شئون البيت من طعام وغسيل وغيره.. ثم أضاف ضاحكا: وأن تقبل العيش معي على الحصيرة!
فقلت له ملاطفة: لن تجد فتاة الآن ترضى بذلك.. ثم مَن التي سترضى بك وأنت هكذا أسمر!
قال: لا بأس هناك ملتزمات يرضين بالقليل!

وكان صيد السمك قد أثر على لونه كثيرا حتى اسمرت بشرته!!
---------------

قلبٌ معلقٌ بالله..

كان قليل الكلام إلا بذكر الله تعالى.. يأنس بذكره في الجمع والخلوات..
وكان لا يغتاب أحدا ولا يجعل أحدا يغتاب أمامه..

حدث أن اجتمع مع بعض أصدقائه يوما فأخذ الأصدقاء يتحدثون عن السيارات ومواصفاتها وأسهبوا في وصف أحد السيارات وجمال شكلها وإمكانياتها ومميزاتها.. وكل واحد يبدي رأيه.. وهو ساكت..
فلما تكلم إذا به يقول:
(أنا سأركب أحسن منها.. في الجنة!)
وكأنه أراد أن ينقلهم بغتة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة..

*** 

إلى أي مدى يمكن لقلب أن يتعلق بالله عز وجل وبكتابه الكريم حتى يصبح كلام الله عز وجل ربيع القلب ونور الصدر وبلسم الروح وشفاءها؟!
لكن هل يكون هذا التعلق في النوم أيضا؟!.. إن هذا لهو العجب العجاب..
نعم.. لقد كان يرتل القرآن وهو نائم!..

تقول أخته: لقد تكرر ذلك منه ورأيته بعيني.. أسمع صوته كأنه يصلي ويقرأ القرآن فأحسبه يقظان.. فأقترب منه وأنادي عليه: يا أحمد!.. فأكتشف أنه نائم !.. يقرأ وهو نائم!.. ويكبر وهو نائم!.. كما يفعل في الصلاة!
فيقرأ الفاتحة ثم يقرأ بعض الآيات بصوت عذب ثم يكبر!

تعجبتُ من هذا الخبر.. فأكدته لي وقالت: ولقد رآه أخي أيضا يفعل ذلك.. 
سألتها: كم كان يقرأ وهو نائم؟ فقالت: ربما ربعا من القرآن.. ثم يكبر!!

قلت: سبحان الله.. كل إناء بما فيه ينضح..!

***
صبر وابتلاء..
لا يزال المؤمن في ابتلاء وتمحيص حتى يلقى الله عز وجل وليس عليه خطيئة..
قال تعالى: ((أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ))..
وقال تعالى: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)) .
وسلعة الله غالية .. لذا كان لابد أن يكون الثمن غاليا..

فها قد تحدد اليوم الذي لابد أن يلتحق فيه "أحمد" بالجيش.. وينتظم في صفوفه كما هو النظام المتبع في الدولة..
وكان "أحمد" قد استطاع أن يصمد ويحافظ على لحيته طوال هذه المدة..
ونظام الالتحاق بالجيش يحتّم على كل من يلتحق به أن يحلق لحيته أولا.. ولابد!..

وكأنه لا يراد لهذا الجندي أن يكون له هوية إسلامية!.. ولا شبهة هوية!.. ولا خلفية عقدية فوق الوطنية يقاتل عنها!... وكأن هذه المعاني مرفوضة ويراد لها أن تظل مطموسة!

لقد عادت المعاناة مرة أخرى ولكنها هذه المرة أشد!..
وحلت على منزل "أحمد" وأسرته وحياتهم كعاصفة هوجاء تريد أن تقتلع كل شيء..
تريد أن تضع نهاية هوجاء لصبره الطويل على الطاعة.. وتدمر بقسوة وألم ما بناه في نفسه من معانٍ جميلة طيلة السنين الماضية... تريده أن يحلقها!

وقف الجميع في المنزل منتظرين قراره بقلق واضطراب.. وقد قرر الجميع قرارا واحدا لا غير رأوه يتماشى مع العقل والمنطق: لابد أن يحلقها هذه المرة حفاظا على مستقبله!..

ولكن.. 
إذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام!
فقد رفض "أحمد" أن يحلقها..!
بل أصرَّ على مبدئه إصرارا عجيبا.. وكأنما عاهد الله تعالى في نفسه على أمر بينه وبينه أن يثبت على ذلك مهما كلفه الأمر.. وأعلن للجميع هذا القرار الخطير..!
وكأنما علم أن الحياة كلها جهاد.. وأن الابتلاء واقع لا محالة..


مارسوا عليه كل أنواع الضغط النفسي.. بمحاولات الإقناع والحوار مرات.. وأن هذا للضروروة وكذا وكذا .. ولكن لا فائدة!
وبالتعذيب والأذى باللسان مرات ومرات.. ولكن لا فائدة!
ولم تتوقف محاولات الأهل معه ليثنوه عن عزمه وليرجع عن موقفه حتى آخر لحظة.. ولكن لا فائدة!

تقول أخته:
قبل يوم واحد من ذهابه للجيش وتسليم نفسه إلى المنطقة العسكرية دخلت عليه وأنا ثائرة غاضبة أصرخ في وجهه: 
أنت تضيّع مستقبلك.. لن تُقبل في وظيفة.. ولن تستطيع السفر إلى الخارج.. ولن ولن ...فلم يرد عليّ..

فتوقفت عن الصراخ..
وقلت بعد برهة:
يا أحمد لماذا لا تحلقها والله تعالى يعذرك وهو عليم بما في قلبك؟!
فقال بهدوء الواثق من نفسه:
لا أريد أن ألقى الله تعالى إلا بهذه اللحية!

فقلت له:
طيب.. احلقها مؤقتا.. وبعد الجيش أطلقها... ما المشكلة؟!

قال:
ومن يضمن لي ألا أموت قبل هذا؟! 

فسكتُّ على مضض..وخرجت من الغرفة!
ولكني دعوت الله في سري أن يعينه على ما سيلاقيه!
وبالفعل سافر إلى المنطقة العسكرية بلحيته.. وحدث له ما حدث..
ثم رجع.. ولم يحلقها!
***
(ومَن يضمن لي ألا أموت قبل هذا؟!) 
--------- 
((يا رب وفقني فلقد رميت حملي عليك فلا تخذلني.. اللهم استجب فأنت حبيبي ولا أحب سواك.. فكن لي حبيبا ولا تجعلني ممن طردتهم من جنبك.. اللهم لك الحمد ما دامت هذه الكلمات مكتوبة حتى ترضى.. ولك الحمد ما دمت.. فأنت ربي ورب كل شيء لا إله إلا أنت سبحانك تبت إليك إني كنت من الظالمين.. فاقبلني في التوابين والحامدين والصابرين والخاشعن وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين))..
دعاء كتبه "أحمد" في أول صفحة في أحد أجنداته.. 
***
الأمنيات العشر..
تقول أخته: قبل وفاته بعشرة أيام دار بيني وبينه الحوار الآتي: 
قلتُ له: يا أحمد أشعر أنه قد اقترب أجلي..
فقال: بل أنا الذي أحس بأن عمري قصير..
قلت: كيف؟!.. أنت لازلت في أول حياتك.. أنت لم تتزوج بعد أو تنجب ولازالت أمامك الدنيا! 
فسَكت..
قلت: يا أحمد هل تعاهدني أن لو دخلت الجنة قبلي أن تشفع لي؟!
فقال: وما أدراكِ لعلكِ تكونين أنت أفضل مني..!
ثم قلت بعد برهة: ما رأيك.. ليتمنَّ كل منا أمنياته في الدنيا.. ماذا تتمنى أنت؟!
فبدأ يعدد أمنياته وأنا أعدها له.. حتى بلغت عشر أمنيات..
فقال:  
- أتمنى: الفردوس الأعلى ..
- ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة..
- وأن يظلني الله بظله يوم لا ظل إلا ظله..
- وأن يدخلني الجنة مع السبعين ألفا الذين يدخلون بغير حساب..
- وأن يزوجني الله من الحور العين..
- وأن يجعلني مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..
- وأن يختم لي بالصالحات..
- وأن أموت شهيدا..
- وأن يبدل الله سيئاتي حسنات..
- وأن أشرب من حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شربة لا أظمأ بعدها أبدا..
سمعت هذا الكلام وتعجبت .. فقلت له: 

أليس لك أمنيــات في الدنيــا؟!!
فرد بكلمة لن أنساها.. وقال:
ما لي بها حاجة!!

فقلت: خجلتُ منك يا أحمد.. قد كنت أنوي أن أعد أمنياتي.. أن يبارك الله لي في ابنتي وأن يهدي زوجي وأن أنتهي من الماجستير وأن وأن.. وطبعا في النهاية .. الجنة!

فلم يرد علي بشيء..
فتركته بعد أن دعوت الله له أن يحقق أمنياته..

حدث في هذه الليلة "خسوف قمر".. فجاء جارنا الشيخ سعيد بعد صلاة العشاء ونادى عليه: "يا أحمد الصلاة جامعة".. فذهب إلى الصلاة وتأخر فيها..

وفي الصباح ذهب أحمد إلى البحر كعادته.. ثم جاءنا في البيت خبر وفاة أخت زوجي.. فكان لابد لي أن أسافر.. ولم يكن هو قد رجع إلى البيت.. فسافرت دون أن أنتظر رجوعه.. فاتصل بي في الهاتف وعاتبني على سفري دون انتظاره..

وبعد عشرة أيام اتصل بي على غير عادته أكثر من ست مكالمات في يوم واحد ليكلمني وليسمع صوت ابنتي الصغيرة فقد كان يحبها جدا.. 

في هذه الأيام.. لم يكن والده راضٍ تماما عن كثرة ذهابه إلى البحر وهذا الشقاء الذي وضع نفسه فيه في ظنه..
فأخذ أحمد يسترضي والده ليرضى عن ذهابه ويسمح له فيه.. فأذن له..
----------

(مَن أحب لقاء الله أحب الله لقائه).. 
كلمات أصبح "أحمد" يرددها كثيرا..
***

وفي ليلة من الليالي الهادئة -ليلة يوم الإثنين- وعلى غير العادة في وقت متأخر من الليل.. أراد "أحمد" أن يتحدث مع والدته..

تقول أمه: كنتُ متجهة إلى فراشي لأنام فطلب مني أن أجلس معه قليلا لأنه يريد أن يحدثني.. 
فقلتُ له: انتظر إذن لأحضر كوبا من القهوة حتى أستطيع أن أسهر معك..
فقال لي مداعبا: لا تكثر من القهوة يا جميل..

ثم بدأ كلامه معها بأن أعطاها كل أمواله التي جمعها من عمله في صيد السمك خلال هذا العام -عام واحد بعد تخرجه- وكانت تقدر بحوالي 25 ألفا.. وطلب منها أن تتصرف فيها كما تشاء..

ثم قال لها بصوت منكسر: سامحيني يا أمي..
فقالت: أسامحك أنت يا ولدي!!.. بل أنت الذي تسامحنى فإني كنت أقسو عليك وأنت صغير!
فقال لها: لا يا أمي.. أنتِ كنتِ تربينني وتعلمينني..

فقام وقبل يدها ورأسها وحضنها حضن من غاب عن أمه سنين طويلة!..

ثم قال لها وهو في حضنها: آه يا أمي من ظلمات الليل في البحر..!
فقالت الأم وقد أحست برهبة : وما الذي يجعلنا نذهب إلى البحر في الليل يا أحمد؟

فقال:أم ماذا كان حال سيدنا يونس عليه السلام في ظلمات ثلاث..؟!قالت: وما هي الظلمات الثلاث؟
قال: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت..
قالت الأم ولم تكن تعرف القصة: كيف ذلك؟.. وما الذي حدث لسيدنا يونس عليه السلام؟

فقص عليها قصة سيدنا يونس عليه السلام وكيف ألقي في البحر ثم التقمعه الحوت وكيف نجاه الله منه..

ثم قال لها بصوت أجش: 
أنا سأموت يا أمـي!!

فزعت الأم وقالت: 
بعيد عنك يا ولدي..!.. لم تقول هذا؟!!

أنت لازلت صغيرا على الموت! 

ثم تابعت: أموت أنا.. أما أنت فلا!!.. أنت لم ترَ الدنيا ولم تعش حياتك بعد!.. ولم تهنأ بها ولم تتزوج بعد!

فقام وحضنها .. وقال لها: بلى.. سأموت يا أمـي!
فقالت بصوت مرتعب: كيف تموت قبلـــي!!

فقال لها:
الناس في الدنيا يا أماه كركاب قطار فمن تأتي محطته أولا ينزل أولا.. هل يمكن أن نمنع الصغير من نزول محطته لأنه صغير أو لأن الدنيا لازالت أمامه؟!..

وأنا قد جاءت محطتي..

قالت أمه بانفعال وحسم: لن تذهب إلى البحر مرة أخرى يا أحمد.. 
فرد عليها : يا أمي..

((أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ))

يا أمي إن أمًّا رأت في المنام أن ابنها سيموت وهو مسافر بالطائرة..
فلما جاء موعد الطائرة وكان ولدها نائما قررت ألا توقظه.. وبعد مضي وقت الطائرة ذهبت لتوقظه فوجدته قد مات!
فلو أغلقتِ عليَّ بقفصٍ من حديد لدخل الموتُ إليَّ!
فسكتت الأم ولم تحر جوابا..

ثم قال: ادعي لي بالشهادة يا أمي!
سألته: وهل أنت ذاهب إلى الجهاد يا بني حتى تنالها؟!
فرد قائلا:

الميت في البحر شهيد!
فقالت بتوتر: يعني أذهب لأسبح في البحر وأغرق نفسي فأكون شهيدة؟!!
فقال: لا يا أمي.. ليس كذلك وإنما من يخرج في سبيل الله وبحثا عن رزقه وقوت أولاده ليعف نفسه وأولاده بالمال الحلال ويغنيهم عن السؤال..

أرادت الأم أن تغير مجرى هذا الحديث فقالت: 
أخبرني يا أحمد -وكانت تعلم أنه لا يكف عن الذكر والتسبيح- كيف تسبّح الله في الوقت الذي تغطس فيه تحت الماء ؟
فقال: أسبِّح حينها بقلبي..

ثم قال:
أمي .. ادعي لي أن يرزقني الله من الحور العين.. 
فقالت: وما هي؟.. 
فأخذ يصفها لها قائلا:
هي مثل اللؤلؤة.. لو أطلت بوجهها لأضاءت الدنيا من نور وجمال وجهها.. وطيبُ ريحها يملأ ما بين السماء والأرض.. وعينها واسعة جميلة.. وصفاتها كذا وكذا..
وأخذ يعدد في أوصافها..!

فقالت الأم بعفوية وهي مبتسمة ولم تنتبه : 
من هذه الفتاة يا بني؟.. وبنت مَن هي حتى أخطبها لك؟!
فقال لها: هي ليست في الدنيا يا أمي.. إنها في الجنة.. إنها من "الحور العين"..!

ثم قال: ادعي لي يا أمي بالفردوس الأعلى.. 
فسألته: وما الفردوس الأعلى؟!
فقال: هو أعلى درجات الجنة تحت عرش الرحمن.. يسكنه النبيون والصديقون والشهداء.. 
فدعت له الأم بما طلب..

ثم ناولها شريطا مسجلا.. وقال: هذه تلاوة قرآنية.. بصوتي.. سجلتها لك !
فتناولته الأم.. 
فقال: لا أقول لكِ لا تبكي أماه.. ولكن لا تجزعي.. اصبري واحتسبي..!! 

قامت الأم لتنام بعد أن احتضنت ولدها.. فقد أجهدها السهر..

وعند الفجر..
بادر أحمد إلى المسجد مبكرا.. ليسبق غيره لأذان الفجر.. هذا المسجد ذو الجدران البيضاء المطل على البيت..

وبدأ يؤذن بصوته الجميل: الله أكبر الله أكبر.. الله أكبر الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله..

علا صوته في أذنها فقامت الأم من النوم.. كما كانت تفعل كل مرة.. ولكنها اليوم ما بالها؟!.. تستمع إليه بكل جوارحها..

حان وقت الصلاة وكان إمام المسجد غائبا.. فقدموه ليؤمهم ..
فصلى بهم..

وتلى عليهم من الآيات كأحسن ما تكون التلاوة..
وأمه في البيت تستمع إلى تلاوته ..
وبعد الرفع من الركعة الثانية.. شرع في القنوت..!
ورفعت الأم يديها لتؤمن على دعائه.. 
فأخذ يدعو دعاءً طويلا..

وكان مما قاله

-اللهم ارزقني الشهادة..
-الأم: آميــن!
- بدأ يبكي: اللهم ارزقني الدرجات العلى من الجنة..
- الأم: آميــن!
اللهم ارزقني الفردوس الأعلى..
- الأم: آميــن!
وهكذا في الدعاء كله.. وتقول الأم: آمين!
***

وفي الصباح.. تهيأ أحمد للخروج..

يقول أخوه: (شعرتُ به وهو يوقظني كما كان يفعل أحيانا لأذهب معه إلى البحر.. ولكني لم أستيقظ هذا اليوم.. كان يبدو عليه بعض التردد.. فأمسك بيدي وهزها كأنما يحدث نفسه وقال: أيما جسد نبت من حرام -أو من سحت- فالنار أولى به.. ثم ترك يدي ومضى وحده) .. 

مضى إلى هذا الشاطيء البعيد الذي تعلم عنده الصيد أول مرة..

وهناك عند هذا الشاطيء.. قضى يومه..

وصلى فرضه..

واصطاد أسماكا كثيرة..

رغم العمر القصير..

مضى النهار وانحدرت الشمس للمغيب..

وبدأ يحل سكون غريب..

وعند نافذة منزله المطل على المسجد.. كانت أمه تنتظر ..
مضت صلاة المغرب ثم العشاء .. ولم يأت بعد..!

بدأ شبح القلق يدب في أوصالها..تذكرت ملامح وجهه وهو يحادثها في تلك الليلة..لازال صوته الندي الذي انبعث من هذا المسجد فجر اليوم.. يرن في أذنها!

وما سر هذا الدعاء العجيب الذي دعاه في صلاة الفجر؟!..تذكرت كلماته التي كان يكررها كثيرا في الأيام الماضية:(من أحب لقاء الله أحب الله لقائه)!

تكاثرت هذه الخواطر على قلبها.. فانتفضت!

وليس أمامها إلا وجه "أحمد"! .. ولا على لسانها إلا اسم "أحمد"!

رجع الجميع إلى البيت ولم يرجع "أحمد"..دب الفزع..

اتصلوا به عند بعض أصدقائه ربما ذهب عند أحدهم..سألوا عنه في مسجد كذا وكذا ربما يقضي حاجة بعض إخوانه.. وسيعود!الكل يتحرك..

لكن .. انتصف الليل ولم يعد..!

سألوا عنه في كل مكان خطر على بالهم..اتصلوا بحرس الشواطيء.. بالشرطة.. ذهبوا للمستشفيات..الشواطيء المحيطة..بحثوا عنه في كل مكان..

لكن.. لم يجدوا أثره..!

مضت الليلة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة.. ثلاث ليال كأنها الدهر كله .. ولم يرجع أحمد!

لا أحد يعلم أين هو .. ولم يظهر له أي أثر!

هـــمٌّ وغــمٌّ حيرةٌ وتوجعُ *** في دارنا ومصائبٌ تتدافعُ

هي دارنا دار الرحيل وكلنا *** يوماً إلى دار البقاء سنُزمِعُ

تحكي أخته عن هذه الأوقات العصيبة فتقول:

وفي هذه الليال التي كانوا يبحثون عنه.. رأيته في المنام..

رأيته يلبــس عمامـــة بيضـــاء وثوبـــا أبيـــض.. ممتلــيء الوجـــه.. مشــرقٌ أبيـــض.. وهو يضحـــك..!!

فتأكدتُ أن قد مــات!

وبعد ثلاث ليال في ظلمة البحر قضاها..!

ظهرت جثتـه..!ظهرت تطفو على شاطيء آخر بعيد..

وكانت هيئته حين وجدوه.. رأسه إلى أسفل أقرب إلى هيئة سجود في مقابل مسجد كان يصلي فيه..وكان مغلق العينين والفم.. لم يدخل الماء إلى جسده..!!

كامل الجسد لم تأكل الأسماك شيئا منه.. ولا حتى عينيه.. رغم أنه كان يغطس في أماكن تواجد الأسماك الكبيرة..
مفاصل الجسم لينة كأنه ميت الآن وليس منذ ثلاثة أيام..
تنبعث منه ريح طيبة..!

تقول أخته: 
حين ظهرت الجثة حرص الجميع أن يروه وأن يلقوا عليه النظرة الأخيرة.. ولكني كنت خائفة وأشعر برهبة من فكرة رؤيته.. ظننت أنني سأرى جسدا مشوها ومنظرا رهيبا لا أحتمله..

لكن عندما دخلت عليه لأنظر إليه..

وجدتُ الجسد سليم كله.. فقد حفظه الله كما حفظ كتابه..

نظرت إليه فإذا بي أراه كأنه فارس ينام ليلة عرسه..!

وقد امتلأ جسده.. وازداد بهاء وجهه..

رحمه الله..

----------- 

شهد جنازته أعدادا كبيرة.. حتى أن أهله لم يستطيعوا اللحاق به عند الدفن..
وكان مشهدا مهيبا كأنه مشهد عرس لا جنازة.. 
***

تقول أخته: "ذهب أحمد نور بيته وضياء منزله.. وترك لنا المَثل والقدوة في حب الله.. والصبر على طاعته.. والرفق في الدعوة.. والقدوة الحسنة في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.. والكلمة الطيبة.. في هذا الزمن الذي نعيشه اليوم.. زمن الغربة والفتن!"

ذهب بروحه وترك لنا أثره.. وترجل فارسنا البطل..

قالوا ترحل في المساء حبيبنا *** فُقدت بلابلنا هنا لا تُسمعُ
مات الجواد من الخليقة لم يعد *** يجدي الكلام ولا النياحة تنفعُ
تلك الشمائل لاتسل عن حسنها *** ورد وعطر فائح يتضوعُ
رباه .. ألهمنا اصطباراً إننا *** بعد الفراق بحِبنا نتفجعُ
***

ثمرة دعوته في بيته..

تقول أخته: لقد حاول أخى معنا كثيرا بشتى الوسائل والسبل.. لكن الله تعالى أبى إلا أن تكون وفاته هي السبب الأكبر لعودتنا إلى الحق وأن تكون روحه التي خرجت هي آخر الأسباب وهي الثمن الذي يدفعه غاليا من أجلنا! 

فصراعه مع أهله لأجل إطلاق اللحية لمدة ثلاث سنوات دون كلل.. ولجوءه إلى الله تعالى وتضرعه.. أثمر ثماره في حياته فبدأ الأب يلين وجميع أهل البيت لذلك.. ثم أطلق الأب لحيته بعد ذلك بعد أن أقنعه ولده بفرضيتها.. وفي آخر حياته كان يتسابق مع والده أيهم يذهب إلى المسجد أولا ليؤذن للصلاة وأيهم يؤم الناس في الصلاة.. 

أما أخته في آخر حياته كانت تتعاون معه على قيام الليل ويتبادلون الأوقات!.. 
ولقد لبست النقاب في حياته وصبرت على أذى زوجها.. وتغيرت حياتها تماما ونحسبها على خير..
أما أمه الكبيرة في السن: فقد لبست هي أيضا النقاب بعد وفاته وقد رأيتها تحرص على نقابها كما تحرص الشابة عليه!
ورأيتها حريصة على الطاعات وحفظ القرآن والجمع بين صيام وصدقة وعيادة مريض وصلاة جنازة في يوم واحد.. بل وتحرص على الدعوة إلى الله!

اصبر على مضض الادلاج في السحر ... وفي الرواح إلى الطاعات في البكر ِ..
إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر ِ..
وقل من جد في أمر يؤلمه ... واستصحب الصبرإلا فاز بالظفر ِ.. 
***

قصت لي أخته رؤيا أخرى أبكتني.. رأتها بعد دفنه .. قالت:

((رأيته يلبس العمامة البيضاء والثوب الأبيض وهو على أحسن حال من أحواله بالدنيا..
وكان يجلس على منبر يخطب.. وحوله رجال كثيرون يلبسون مثله.. ونساء يلبسن السواد..
وأمامهم جميعا طعام.. وهو أمامه طعام (طائر كبير كأنه ديك رومي)..
فناديتُ عليه:
أين أنت يا "أحمد
فردّ عليَّ هاتف يقول:

هو مع الصديقيــن والنبييــن والشهــداء.. ))!

ومرة أخرى جاءها في المنام، فقالت له: "أوصني" فكتب لها "القرآن"!.

ورآه بعض أصحابه فيسألونه.. فيقول: أنا في الجنة..

وفي يوم تذكرت أمه ليلتها الأخيرة معه.. فدعت له بالحور العين التي كان يتمناها.. 

فرأته أخته في المنام وهو يلبس الثياب البيض وهو أبيض كالقمر..

وضخم الجثة وشعره أسود من الليل.. ولحيته جميلة وسوداء.. وجمال لم تره على أحد من قبل..
وكأنه في الثلاثين من عمره..
فسلمت عليه بيدها.. فسألته: ما هذا الجمال يا "أحمد"؟
فرد عليها:

"أنا عريــس بدعــوة أمــي لــي"!

وغيرها من الرؤى..

------------------

رحل -رحمه الله- وترك حب الناس له ودعائهم له..والأثر الطيب في الحياة والقدوة الحسنة..
أما والديه فيدعون له ويتصدقون عنه لبره بهم.. 
وكانوا قد وجدوا الأسماك الأخيرة التي اصطادها على الشاطيء وتصدقوا بها..
أما استدعائه للجيش فكان قبل وفاته بشهر واحد.. وبعد الوفاة جاءهم جواب من الجيش يفيد بأنه قد حصل على "المعافاة"!..
سبحان الله!

***
مات وعمره 23 عاما فقط!
وقضى عاما واحدا بعد تخرجه يمارس مهنته في صيد السمك وهو آخر عام في حياته..

أما عن المبلغ الذي جمعه ليكوّن به نفسه ويبني به بيته.. فقد قدَّر الله تعالى أن يُبنى به بيتٌ آخر..

فقد تم به بناء "الطابق الثاني" من هذا المسجد ذي الجدران البيضاء -طابق النساء- الذي حدثتكم عنه في أول القصة..


ذلك المسجد الذي أُنتدبت فيه لتحفيظ القرآن وتعليم النساء.. وكنت قد أصبحت أتردد في الاستمرار في هذا المسجد وأراوح بين ذلك وبين الانتقال إلى مكان آخر..

ولكن بعد أن علمت قصة هذا الشاب وقصة هذا المسجد الذي بناه بصبره وكده.. قررت أن أبقى في المسجد ولا أتركه..

وبالفعل والحمد لله بقيت فيه وازداد النشاط وتوسّع.. 

ولم يخرجني منه إلا طلب من أصحاب المسجد يخبرونني أن عليّ أترك المكان بناء على أوامر من "أمن الدولة"! .. 
ولولا أنهم أخرجوني منه ما خرجت!

***
اللهم اغفر له وارحمه وتجاوز عن سيئاته وأكرمه فأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين..

***
تمت بحمد الله..
ولا تنسونا من صالح دعائكم..

كتبه/ أميرة الجلباب - الثلاثاء 19 رمضان 1433.