الإشكالات الهادمة لمذهب منكري السنة ...
بقلم الدكتور عبد الله الشهري ..
وهي مجموعة من الومضات الخاطفة .. والتي أتحفنا بها أخونا الدكتور في منتدى التوحيد ..
إنكار السنة يولد من الإشكالات أضعاف أضعاف ما يخشاه القرآني من إشكال إثباتها - وأنا أسميه إشكالاً تنزلاً مع الخصم فقط - ولأن منكر السنة يُدرك جيداً صعوبة الجواب عن هذه الإشكالات فإنه يريح نفسه ليس بمواجهة الواقع كما هو ، وإنما بنفي السنة من أساسها ومعاملتها كأنها شيء لم يكن له وجود في التاريخ أو لم يكن له وزن في ميزان الإسلام. ولنأخذ هذه الإشكالية العويصة كمثال - والإشكاليات كثيرة - وهي :
(1)
لماذا لم يحسم الله هذه القضية بالغة الخطورة بآية محكمة صريحة كما عبر عن تحريم الربا بعبارة لا تحتمل تأويلاً آخر على الإطلاق (وأحل الله البيع وحرّم الربا) ؟ ونحن نعلم جميعاً - الموافق والمخالف - أن الله قال في كتابه (وما كان الله ليضل قوم بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) ، فلم لم يبين للأمة كيف تتقي"أقوال رسولها وأفعالها" حتى لا تضل بعد إذ هداها الله؟
وما أعظمها وأخطرها من فتنة (أي فتنة ارتداد الناس عن القرآن بسبب إثبات السنة) ، بل هي أعظم فتنة وقعت فيها الأمة، ومن سوء الظن به تعالى أن نعتقد أنه لم يأمر نبيه بالوضوح في التحذير منها أو لم يذكر في القرآن ما يقطع دابر الخلاف فيها والتأثر بها، كيف لا وقد قال (لتبين للناس ما نزّل إليهم) ، فلِمَ لم يبين لنا من أوحيت إليه هذه الآية أن "نقل سنته جرم عظيم أو صد عن سبيل الله وكتابه" ؟ فإن أمراً بهذه الخطورة على مستقبل الأمة وهويتها مما لا يُنهى عنه بحديث أو حديثين ولا آية عامة تحتمل أكثر من وجه، فإننا ما عهدنا بل ولا وجدنا من طريقة القرآن إلا الوضوح التام في النهي عما يعلم بالاضطرار ضرره الحقيقي على كافة البشرية، فكيف بأمر هو في صلب هدايتها وأساس مصيرها، ولا أدري كيف يستقيم نهي الرسول أمته عما هو أحقر من هذا (كنهيه عن الأكل بالشمال أو اشتمال الصماء) ثم تعجز بلاغته أو تكلّ فصاحته عن النهي عمّا فيه ضلال الأمة بأسرها (أي أخذها بالسنة ونقلها لحديثه)؟ ثم كيف يسعفه الوحي بالإخبار عن كون هذه الأمة "ستتبع سنن من كان قبلها" ولا يسعفه - مع مسيس الحاجة إليه في موطن كهذه بالذات - في الإخبار عن أن نقل أقواله وأفعاله سيكون مصدر شقاء وضلال للأمة من بعده ؟.....لم تكن هذه سوى نفحة واحدة من عذاب الإشكالات الكثيرة التي تحتاج إلى جواب فوري وحاسم خال من التكلف والتسعف.
-------------
(2)
إشكال آخر من الإشكالات التي لا تنتهي: لماذا يحيل القرآن إلى مصدر خارج ذاته للتأكد من صدق وصحة القرآن نفسه - مع أن القرآن يحمل دليل صدقه في نفسه - ومن ذلك قوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، والإشكال لا ينتهي هنا فقط بل هناك أبعاد أخر وهي أن الله قد أخبرنا بتحريف أهل الكتاب وإعراضهم عن القرآن ومع ذلك يحيل عليهم ويأمر بسؤالهم. مرة أخرى : الإشكال لا ينتهي هنا. أهل الكتاب هؤلاء ليس عندهم دليل ولا خبر قطعي لا من كتاب منزل ، لأن كتبهم محرفة، ولا من نقل صحيح متصل منهم إلى من تقدمهم من آبائهم الأولين من الأحبار والعلماء ، فمن أين سيجيبون بعلم صحيح إذا ما سألهم أحد وفق قوله تعالى (فأسألوا أهل الذكر) ؟ لا يمكن الجواب عن هذا الإشكال إلا بالاعتراف بأن نقل العلم الصحيح ممكن بغير الوحي، بل وممكن من أهل التحريف أيضاً كما هو الحال ههنا !! ولو كان غير ذلك لكان أمر الله بسؤال أهل الذكر من أهل الكتاب مطالبة في غير محلها، تقدس الله عن ذلك.
وقال تعالى (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، فليس للرسول إلا طريقين : أن يسأل من قبله وهذا مستحيل لأنهم موتى أو يسأل الحاضرين في عهده وهنا إشكال: أن كتبهم محرفة وليس لديهم خبر صحيح إلى الصادقين من آبائهم ، فلابد من الاعتراف أيضاً هنا بإمكان نقل العلم الصحيح ليس من دون وحي فقط أو حفظ خاص من الله ، وإنما عن طريق أصحاب التحريف أنفسهم !!. ثم لاحظ أن المسألة هنا ليست مسألة سؤال عن إمكان تشريع خارج القرآن فقط ، وإنما سؤال عن صحة الرسالة برمتها ، وهذا أخطر من الأول ، فكيف يؤسس الله مصير التأكد من صحة الرسالة على سؤال أهل الكتاب مع ما عرف عنهم من الكذب والضلال والتحريف. لا يمكن الجواب إلا بالإقرار بإمكان نقل العلم الديني الصحيح بغير طريق الكتب المنزلة. فلم يجوز ذلك هناك ولا يجوز مع الأحاديث؟ والمقصود هنا أنه لا يمتنع أن يصلنا علم ديني - سواء تشريعي أو خبري - من غير طريق القرآن ولكن بدلالة أو إحالة القرآن عليه ، والسنة - التي ما هي إلا أقواله أفعاله وتقريراته - ما هي إلا طريق أحال عليه القرآن ،فإن قيل: تلك الإحالات ظنية الدلالة وليست قطعية الدلالة ، قلنا: عاد الإشكال القديم من جديد وهو: لماذا دلالة القرآن ظنية - تنزلاً مع الخصم فقط - في موضع يحتاج إلى القطع لحسم الخلاف وصون الأمة من الضلال؟ فإما أن نسيء الظن بالله وكلامه أو أن نعتقد قطعية دلالة الأدلة على ظاهر مادلت عليه ، دون تقييد أو تخصيص اعتباطي لا دليل عليه.
--------------
(3)
هذه المرة هنا إشكال ولكن مع جوابه.
سأل سائل: هل لديك دليل من القرآن ، فقط من القرآن، على أن في طاقة البشر أن يحفظوا وحي الله المنزل من الضياع والتحريف؟
الجواب: نعم، الدليل هو قوله تعالى (إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) ، فالتوارة وحي الله المنزل على بني إسرائيل والاية واضحة وصريحة أنهم "استحفظوا" ، والسين والتاء هنا للطلب كما هو معلوم في اللغة، أي طُلب منهم أن يحفظوا وحي الله ويكونوا عليه شهداء، ولو كان هذا مستحيلاً أو لا طاقة لهم به، لكن هذا من العبث الذي ينزه عنه الله تعالى، ولم يكن الله ليكلّف عباده أمراً ممتنع في ذاته ثم يذمهم عليه ويحاسبهم به، لأنه قال (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ، فصح بالدليل من القرآن أن حفظ الوحي في وسع البشر لأن الله كلّف بني إسرائيل ذلك، فكل ما كلّف الله به فهو في وسع البشر، ولكن سبب ضياع الوحي وتعرضه للتحريف جاء من جهة إهمالهم وخيانتهم، لا من جهة كون الوحي يحتاج دائماً إلى حفظ خاص من الله تعالى، إذ لو كان الأمر كذلك لما استحفظهم من أول الأمر لأن الله كما أخبر عن نفسه (بعباده خبير بصير).
فمن مجموع ما سبق يقال: السنة وحي يمكن حفظه ونقله ، لا يمتنع ذلك بل ولم يمتنع ذلك، ولكن قد يقول قائل: إذا كانت السنة وحياً فهل نقلت إلينا كلها، لم يترك منها شيء؟ فيقال: بيننا وبينك القرآن الذي ارتضيته حكماً - ونِعمَ بكلام الله حكماً - ففيه أن الله قد يوحي بوحي فيذهب بما يشاء منه ويبقي ما يشاء ، قال تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) ، وقال (ما ننسخ من آية أو ننسيها) ، فإذا كان يجوز أن يُنسي الله محمداً وأمته من بعده شيئاً من قرآنه ، بعد أن عرفوه وتلوه ، فالسنة كذلك من باب أولى يجوز عليها ما جاز على القرآن، فلا يبقى مع الأمة من القرآن والسنة إلا ما تحتاج إليه ، وتحتكم به، وما سوى ذلك مما علم الله أن الأمة ليست بحاجة إليه أو فيه فتنة لها أو للناس وغير ذلك، فقد أنساهم الله إياه، وكون الله قادر على أن ينسي عباده ما يشاء هو أمر مقرر في القرآن، فإن الله يتحكم في جميع حالات الإنسان النفسية قال تعالى (وأنه هو أضحك وأبكى) وهذه من ألزم الخصائص النفسية للإنسان ، فكذلك النسيان، يُنسي الله من يشاء ويذكّر الله من يشاء، لذلك قال الله عن وظيفة نبيه (فذكّر إنما أنت مذكّر) ، والشاهد أن القرآن نفسه دل أن في مقدور البشر حفظ وصون الوحي متى أخلصوا وصدقوا ، والوحي ليس له صورة واحدة فقد يكون بكتاب وقد يكون علماً بغير كتاب، فما نطق به الرسول مما هو تشريع فهو وحي وإن لم يجيء في القرآن ، والأدلة على ذلك من القرآن يمكن أن تفرد في موضوع طويل مستقل.
-------------
(4)
معنا الآن إشكال يتحدث عن قضية مختلفة إلى حد ما ولكن صلتها جوهرية بالموضوع ألا و هي دور "الوجهة الفكرية" للشخص في تحديد موقفه من السنة...أهي "وجهة مثالية" Idealistic أم "وجهة واقعية" Realistic ، وتأثير كل من الوجهتين في فهم التاريخ وتفسير حوادثه...بما في ذلك واقعة جمع ونقل الأحاديث...وسوف نستخرج من القرآن نفسه - بصفته الحكم الذي بيننا وبين منكري الأحاديث - معالم "الوجهة الفكرية" التي ينبغي للناس أن يتصفوا بها في فهم الزمان والمكان وما فيهما من أحداث...ثم نقرر كيف أن هذه "الوجهة القرآنية الفكرية" تلزمنا بقبول الأحاديث والتعامل معها وفق منهج معين (يقرره القرآن أيضاً بواسطة هذه "الوجهة الفكرية" التي حدد ملامحها القرآن نفسه). ولأن هذا الموضوع هو أعمقها وأكثرها حساسية وأهمية من وجهة نظري ، فإني لن أتعجل في طرحه، ليس لأني أشك في جدواه وإنما لحرصي أن يظهر بعبارات تؤدي معناه على الوجه اللائق إن شاء الله.
--------------
(5)
إن القرآن الذي دلّنا على حجية السنة إنما دلنا على ذلك من خلال دلالته على حجية المنهجية التي من خلالها أثبت حجية السنة، والمقصود بحجية المنهجية أي إضفاء الشرعية والاعتبار على طرق الاستدلال التي أدت إلى هذه النتيجة: أي نتيجة "حجية السنة". وقد أخبرنا الله في القرآن أن للناس مذاهب شتى في طرق الاستدلال، فمنهم من يستدل بوهم مركزية نفسه واعتبارها معياراً يحاكم من خلاله الآخرون (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، ومنهم من يؤكد هذا الاستدلال بنقيضه فيتهم الجماعة الغالبة الذين " يتخذون طريقة التفكير العادي في الأمور" بالسفه وسطحية المعرفة (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) ، (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي)، فهؤلاء الممعنون في "المثالية المتكلفة" التي تخرج الناس عن دائرة التجاوب الطبيعي مع التاريخ والأشياء تعمى أعينهم وتكل أذهانهم عن تأمل الآيات التي تقرر مشروعية التفكير الطبيعي، تفكير الرجل العادي (common sense knowledge or thinking) للأمور مالم يعارض ذلك معارض راجح، وطريقة القرآن في هذا يمكن إيجازها في جملة وهي: أن القرآن لم يحصر طرق العلم ، ولم يحدد عدد وطبيعة القرائن ، وإنما يُحكم أساس الكليات ويترك الوسائل على تنوعها للناظر أياً كان، فلما قال الله (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم) فإنه يفتح بصيغ العموم هذه – النكرات في سياق الإثبات – المجال واسعاً أمام الخصم لإيراد كل ما يصلح لأن يكون دليلاً أو قرينةً على صحة دعواه.
إن النتيجة التي أريد أن أصل إليها دون إسهاب في التقديم هي أن علماء الحديث ونقاده لم يفعلوا أكثر من تطبيق هذا المنهج القرآني: منهج تقديم الدليل في جرح أو تعديل (قل هاتوا برهانكم) ، منهج رد رواية ساقط العدالة أو الاحتياط فيها (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، منهج الاعتداد بشهادة الخبراء – ولو كانوا كفاراً - (فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) - ، منهج قبول الحق ولو من المخالف...رواية المبتدع - انظر ترجمة: [عبّاد بن يعقوب الرواجني] – (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) ، (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا). وفي المقابل يسلك المخالف منهجاً غير قرآني ، وبالتالي مُغالي وافتراضي وغير واقعي لأن القرآن واقعي ينسجم مع واقع النفس والتاريخ، فهو يصم من سلف ذكرهم بالكذب ولا يستثني ، ويحكم حكماً كلياً تعميمياً ، ليس لأن القرآن يشفع له بذلك وإنما لأنه لايصبر على طريقة القرآن، لأن طريقة القرآن تحتاج إلى صبر ودقة وتحر وأمانة وجلد (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله) في الحكم على الأشياء فما بالك بالحكم على أجيال مضت، ثم هناك معول آخر تنخرم به واقعية التفكير القرآني عن هؤلاء وهو معول سوء الظن ، وما أكثر سوء الظن عندهم ، فأول الأمة هو أساس ضلال ومصدر غواية الأجيال اللاحقة ، ولو أنهم اقتصروا - كما يزعمون - على القرآن وطرحوا كل مأثور عن رسول الله ، لعاشت الأمة في وئام وسلام ، ولم يعلم هؤلاء أن كتب الله المنزلة هي نفسها كانت سبباً في تفرق الناس لا اجتماعهم (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) ، (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) ، وأن لله الحكمة في ذلك (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين)
....وعوداً إلى معول سوء الظن ، وفيه قول المولى (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)، بل لا يكاد يأبه هؤلاء بقاعدة تقديم إحسان الظن حتى ولو كان الجو مشحوناً بدواعي الظن السيئ (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم)، والمقصود أن هؤلاء الذين يتهمون كبار النقاد وعظماء الحديث بالكذب والتخليط في ما يعرف بـ "الجرح والتعديل" إنما يمارسون أيضاً جرحاً وتعديلاً، بل لا يعرفون إلا الجرح ولا يكادون يعرفون للتعديل سبيلاً ، وأقاموا سوق جرح خاص بهم ، سماته الخرص (إن هم إلا يخرصون)، والكلالة وعدم الصبر على تحري الحقيقة، بل لا يكادون يقيمون للمنهج القرآني في اعتبار الذاكرة التاريخية (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) وزناً يذكر ، وكأن الله قد ألغى كل معرفة ، وإن استندت إلى (أثارة من علم)، حتى يتحقق فيها اليقين الذي لا يخالجه ظن، وهذا من التعنت المذموم في طلب الطمأنينة ولهم سلف في ذلك (ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتاب نقرؤه) ، فلا يكفيهم الاستدلال العادي الذي أقره القرآن في أمور الدين وغيرها على حد سواء....
-------------
(6)
...والله تعالى، وهو أحكم الحاكمين وكلامه أحسن كلام، لم يخل كلامه من فتنة تصغى إليها أفئدة اللذين في قلوبهم مرض (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) ، ولم يخل من متشابه يختلف الناس فيه، كل ذلك من أجل إتاحة مساحة واسعة من الاجتهاد والتحري والتعلّم والتثبت والتبيّن بل والامتحان، ولله في ذلك الحكم الكثيرة والعظيمة، في مقدمتها تحقيق التفاوت في شرف درجات العلم والمعرفة [1]، والسنة لما اشتركت مع القرآن في كونها أيضاً تتضمن مساحة واسعة من الاجتهاد والتعلم والتحري، - لذلك قال الخطابي رحمه الله في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم (يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ...)، قال: "أراد به أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا الحديث بالأسفار من أهله" - كان من الطبيعي أن يختلف الناس حيالها بين مصيب ومخطيء، ومجتهد ومقلد، ومتحرٍ متثبت وعجول متهور...إذاً فهذه المساحة المتاحة للاجتهاد والتعلم والتحري لم توضع لهؤلاء الذين يريدون كل شيء محكماً، ويبغون معنى دلالالته في منطوقه لا في مفهومه مهما أشرق مفهومه، فهؤلاء - عافاهم الله وهداهم - لا يلبثون أن يصفوا غيرهم بما تفوه به بعض من سلف (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) ، أي لو كانت السنة حقاً لكنا نحن أول من يثبت حجيتها ويعترف بوجودها !
والسبب كما أسلفت هو أن فهمهم للتاريخ وموقع البشر من أحداثه وأحواله إنما هو فهم مجتزأ لا تؤيده الأصول القرآنية في التفكير والنظر وتحليل الأشياء - حتى أن بعض من حاورني من منكري السنة يحتج علي بمبدأ كارل بوبر في قابلية الفرضيات للنفي ، ولكنه لم يجبني عن مصير الأجيال المسكينة من أمة محمد التي قضت نحبها ولم يسعفها طول العمر لمعاصرة مبدأ بوبر العظيم ! - وهكذا يكون حال كل من بنى أساس منهجه في التفكير على غير هدى من القرآن نفسه، ونحن لا نطلب من هؤلاء أكثر من إعادة برمجة تفكيرهم وفق ما رسمه القرآن، وليستفرغوا وسعهم وطاقتهم في ذلك، فإنهم سيصلون ولابد إلى نتيجة واحدة وهي أن السنة لا يمكن أن تلغى بكلام عابر أو استنتاج مبتسر قاصر عن الحد المرضي للتقوى (واتقوا الله ما استطعتم)
= = = = = = = = = = = = = = =
[1] أسوق كلاماً جميلاً لأبي الحسن علي بن عمر بن القصار المالكي (ت 397) من مقدمته في الأصول قال رحمه الله :"اعلم أن للعلوم طرقاً منها جلي وخفي ، وذلك أن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يمتحن عباده وأن يبتليهم فرّق بين طرق العلم ، وجعل منها ظاهراً جلياً ، وباطناً خفياً ، ليرفع الذين أوتوا العلم كما قال عز وجل ((يرفع الله الين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات))" أ.هـ. [المقدمة في الأصول : ص5 ، ط. دار الغرب]
-------------
(7)
لما قرأنا التاريخ ودرسناه دراسة فاحصة ، بناء على المنهج القرآني في تحري الدليل وتقديم البراهين قبل زعم أي دعوى، أقول لما فعلنا ذلك لا نكاد نجد ذكراً – بل لا نجد حقيقة – لشخصية معتبرة أو اسم معروف ، فضلاً عن مجموعة، يحمل مقالة إنكار السنة والاقتصار على القرآن الكريم !! فلا وجود لهؤلاء البتة ولا ذكر لهم إطلاقاً في عصر النبوة ولا عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ، ولو واحد على الأقل ! وهذا يثير تساؤلاً حرجاً جداً وهو: إذا كانت دعوى الاقتصار على القرآن ونبذ السنة دعوى صحيحة وواضحة وقائمة على أدلة يصعب أو يستحيل دحضه ، أقول إذا كان كذلك فلا بد أن يوجد في التاريخ ما يشفع لهذه الدعوى العظيمة ، فإن مثل هذه الدعوى لا يمكن أن تخلو من أتباع في صدر الإسلام ، لا أطلب أتباعا كثيرون وإنما أطلب – وهذا تحد مني ومن كل مثبت للسنة – ذكر اسم شخص واحد كافح من أجل هذه الدعوى وناضل من أجلها. بعبارة أخرى: لا بد أن يكون لهذه الدعوى أصل في أهم العصور لأنه إذا كان القرآن وحده هو الحق والسنة (التي هي الوحي التشريعي الآخر بدلالة القرآن) فتنة وبلاء ابتليت به الأمة - لا سيما وقد أخبرنا الله أن الحق يمكث في الأرض وأن الباطل يذهب جفاء - فلماذا لم تمكث دعوى إنكار السنة مع حاجة البشرية جمعاء إليها؟
نعم لا نجد لها حضوراً في عصر هو أولى ما يجب أن يكون لها زخم فيه وهو عصر القرون الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة...إلخ القرون الأولى ؟ لم لا نجد شخصية تاريخية واحدة فهمت فهم منكري سنة اليوم ومن ثم قطفت تحذر من السنة و تبرز أوجه الفتنة في نقلها ونشرها وتدعو إلى الاعتصام بالقرآن وحده دون غيره إذا كانت فعلاً دعوى الاكتفاء بالقرآن لها وزن يعتبر في ميزان الحق ووضوح لا يخفى ولو على شخصية اعتبارية واحدة في تلك العصور المبكرة؟ إن معايير وضوح الحق كما هي مسطورة في القرآن تأبى هذا الشذوذ المتأخر في الزمان والمكان فما من دعوى تاريخية "معتبرة" إلا ولابد أن يكون لها أصل تاريخي وحضور حقيقي إذ كيف يسجل التاريخ دعوات أتفه من هذه وأحقر بمفاوز عظيمة ومراحل طويلة ولا يسجل وقائع وتداعيات لدعوى كهذه؟ ألم تتوافر همم الناس لنقل أخبار مسيلمة الكذاب ، وأخبار العنسي بل وأخبار شخصيات يرجح البعض أنها وهمية كعنترة وليلى ثم لا تتوافر همم لا أقول الناس وإنما همم جماعة صغيرة – كنسبة عدد منكري السنة اليوم إلى عدد سائر الأمة – على نقل دعوى مثل هذه إن وجدت أو وجد جزء منها ؟!
--------------
(8)
لقد تواتر تواتراً "معنوياً" قطعياً لا مدفع له أن هناك شخصية اسمها محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذه الشخصية قد تفوهت بأقوال وصدر منها أفعال هي تارة امتداد مباشر لتعاليم القرآن وتارة امتداد غير مباشر لأوامره ونواهيه الكلية. وأن هناك شخصيات عاصرت هذه الشخصية اسمها "صحابة" وأن هذه الشخصيات شهدت مجموع هذه الأقوال والأفعال فروت ذلك لمن شاء الله من الناس. ونحن بالطبع لا نتحدث عن فئة محددة من الأحاديث (أحاديث الأحكام مثلاً أو أحاديث الفضائل) فضلاً عن أحاديث بعينها - فإن هناك أحاديث منحولة موضوعة وهناك ما لا يمكن نسبته إلى الرسول بوجه من الوجوه - وإنما نتحدث بالإجمال عن مجموع المخزون القولي والفعلي المنقول من جيل إلى جيل، والذي يستحيل في حكم العادة أن يقوم برمته على خرافة أو يكون مصدره لقاءٌ جَمَعَ حفنة من الأفّاكين. لا سيما وقد شهد الله لهذه الأمة بالخيرية (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وجعلها أمة وسطا لتكون شاهدة على سائر الأمم. فهل يعقل أن يكون سلف هذه الأمة على وجه الخصوص، بنقلهم لأقوال وأفعال رسولهم، هم أساس ضلال من بعدهم ودعامة انحرافهم وبذرة غوايتهم ؟[1].
لماذا لم يحسم الله هذه القضية بالغة الخطورة بآية محكمة صريحة كما عبر عن تحريم الربا بعبارة لا تحتمل تأويلاً آخر على الإطلاق (وأحل الله البيع وحرّم الربا) ؟ ونحن نعلم جميعاً - الموافق والمخالف - أن الله قال في كتابه (وما كان الله ليضل قوم بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) ، فلم لم يبين للأمة كيف تتقي"أقوال رسولها وأفعالها" حتى لا تضل بعد إذ هداها الله؟
وما أعظمها وأخطرها من فتنة (أي فتنة ارتداد الناس عن القرآن بسبب إثبات السنة) ، بل هي أعظم فتنة وقعت فيها الأمة، ومن سوء الظن به تعالى أن نعتقد أنه لم يأمر نبيه بالوضوح في التحذير منها أو لم يذكر في القرآن ما يقطع دابر الخلاف فيها والتأثر بها، كيف لا وقد قال (لتبين للناس ما نزّل إليهم) ، فلِمَ لم يبين لنا من أوحيت إليه هذه الآية أن "نقل سنته جرم عظيم أو صد عن سبيل الله وكتابه" ؟ فإن أمراً بهذه الخطورة على مستقبل الأمة وهويتها مما لا يُنهى عنه بحديث أو حديثين ولا آية عامة تحتمل أكثر من وجه، فإننا ما عهدنا بل ولا وجدنا من طريقة القرآن إلا الوضوح التام في النهي عما يعلم بالاضطرار ضرره الحقيقي على كافة البشرية، فكيف بأمر هو في صلب هدايتها وأساس مصيرها، ولا أدري كيف يستقيم نهي الرسول أمته عما هو أحقر من هذا (كنهيه عن الأكل بالشمال أو اشتمال الصماء) ثم تعجز بلاغته أو تكلّ فصاحته عن النهي عمّا فيه ضلال الأمة بأسرها (أي أخذها بالسنة ونقلها لحديثه)؟ ثم كيف يسعفه الوحي بالإخبار عن كون هذه الأمة "ستتبع سنن من كان قبلها" ولا يسعفه - مع مسيس الحاجة إليه في موطن كهذه بالذات - في الإخبار عن أن نقل أقواله وأفعاله سيكون مصدر شقاء وضلال للأمة من بعده ؟.....لم تكن هذه سوى نفحة واحدة من عذاب الإشكالات الكثيرة التي تحتاج إلى جواب فوري وحاسم خال من التكلف والتسعف.
هذه المرة هنا إشكال ولكن مع جوابه.
سأل سائل: هل لديك دليل من القرآن ، فقط من القرآن، على أن في طاقة البشر أن يحفظوا وحي الله المنزل من الضياع والتحريف؟
الجواب: نعم، الدليل هو قوله تعالى (إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) ، فالتوارة وحي الله المنزل على بني إسرائيل والاية واضحة وصريحة أنهم "استحفظوا" ، والسين والتاء هنا للطلب كما هو معلوم في اللغة، أي طُلب منهم أن يحفظوا وحي الله ويكونوا عليه شهداء، ولو كان هذا مستحيلاً أو لا طاقة لهم به، لكن هذا من العبث الذي ينزه عنه الله تعالى، ولم يكن الله ليكلّف عباده أمراً ممتنع في ذاته ثم يذمهم عليه ويحاسبهم به، لأنه قال (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ، فصح بالدليل من القرآن أن حفظ الوحي في وسع البشر لأن الله كلّف بني إسرائيل ذلك، فكل ما كلّف الله به فهو في وسع البشر، ولكن سبب ضياع الوحي وتعرضه للتحريف جاء من جهة إهمالهم وخيانتهم، لا من جهة كون الوحي يحتاج دائماً إلى حفظ خاص من الله تعالى، إذ لو كان الأمر كذلك لما استحفظهم من أول الأمر لأن الله كما أخبر عن نفسه (بعباده خبير بصير).
فمن مجموع ما سبق يقال: السنة وحي يمكن حفظه ونقله ، لا يمتنع ذلك بل ولم يمتنع ذلك، ولكن قد يقول قائل: إذا كانت السنة وحياً فهل نقلت إلينا كلها، لم يترك منها شيء؟ فيقال: بيننا وبينك القرآن الذي ارتضيته حكماً - ونِعمَ بكلام الله حكماً - ففيه أن الله قد يوحي بوحي فيذهب بما يشاء منه ويبقي ما يشاء ، قال تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) ، وقال (ما ننسخ من آية أو ننسيها) ، فإذا كان يجوز أن يُنسي الله محمداً وأمته من بعده شيئاً من قرآنه ، بعد أن عرفوه وتلوه ، فالسنة كذلك من باب أولى يجوز عليها ما جاز على القرآن، فلا يبقى مع الأمة من القرآن والسنة إلا ما تحتاج إليه ، وتحتكم به، وما سوى ذلك مما علم الله أن الأمة ليست بحاجة إليه أو فيه فتنة لها أو للناس وغير ذلك، فقد أنساهم الله إياه، وكون الله قادر على أن ينسي عباده ما يشاء هو أمر مقرر في القرآن، فإن الله يتحكم في جميع حالات الإنسان النفسية قال تعالى (وأنه هو أضحك وأبكى) وهذه من ألزم الخصائص النفسية للإنسان ، فكذلك النسيان، يُنسي الله من يشاء ويذكّر الله من يشاء، لذلك قال الله عن وظيفة نبيه (فذكّر إنما أنت مذكّر) ، والشاهد أن القرآن نفسه دل أن في مقدور البشر حفظ وصون الوحي متى أخلصوا وصدقوا ، والوحي ليس له صورة واحدة فقد يكون بكتاب وقد يكون علماً بغير كتاب، فما نطق به الرسول مما هو تشريع فهو وحي وإن لم يجيء في القرآن ، والأدلة على ذلك من القرآن يمكن أن تفرد في موضوع طويل مستقل.
معنا الآن إشكال يتحدث عن قضية مختلفة إلى حد ما ولكن صلتها جوهرية بالموضوع ألا و هي دور "الوجهة الفكرية" للشخص في تحديد موقفه من السنة...أهي "وجهة مثالية" Idealistic أم "وجهة واقعية" Realistic ، وتأثير كل من الوجهتين في فهم التاريخ وتفسير حوادثه...بما في ذلك واقعة جمع ونقل الأحاديث...وسوف نستخرج من القرآن نفسه - بصفته الحكم الذي بيننا وبين منكري الأحاديث - معالم "الوجهة الفكرية" التي ينبغي للناس أن يتصفوا بها في فهم الزمان والمكان وما فيهما من أحداث...ثم نقرر كيف أن هذه "الوجهة القرآنية الفكرية" تلزمنا بقبول الأحاديث والتعامل معها وفق منهج معين (يقرره القرآن أيضاً بواسطة هذه "الوجهة الفكرية" التي حدد ملامحها القرآن نفسه). ولأن هذا الموضوع هو أعمقها وأكثرها حساسية وأهمية من وجهة نظري ، فإني لن أتعجل في طرحه، ليس لأني أشك في جدواه وإنما لحرصي أن يظهر بعبارات تؤدي معناه على الوجه اللائق إن شاء الله.
--------------
إن القرآن الذي دلّنا على حجية السنة إنما دلنا على ذلك من خلال دلالته على حجية المنهجية التي من خلالها أثبت حجية السنة، والمقصود بحجية المنهجية أي إضفاء الشرعية والاعتبار على طرق الاستدلال التي أدت إلى هذه النتيجة: أي نتيجة "حجية السنة". وقد أخبرنا الله في القرآن أن للناس مذاهب شتى في طرق الاستدلال، فمنهم من يستدل بوهم مركزية نفسه واعتبارها معياراً يحاكم من خلاله الآخرون (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، ومنهم من يؤكد هذا الاستدلال بنقيضه فيتهم الجماعة الغالبة الذين " يتخذون طريقة التفكير العادي في الأمور" بالسفه وسطحية المعرفة (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) ، (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي)، فهؤلاء الممعنون في "المثالية المتكلفة" التي تخرج الناس عن دائرة التجاوب الطبيعي مع التاريخ والأشياء تعمى أعينهم وتكل أذهانهم عن تأمل الآيات التي تقرر مشروعية التفكير الطبيعي، تفكير الرجل العادي (common sense knowledge or thinking) للأمور مالم يعارض ذلك معارض راجح، وطريقة القرآن في هذا يمكن إيجازها في جملة وهي: أن القرآن لم يحصر طرق العلم ، ولم يحدد عدد وطبيعة القرائن ، وإنما يُحكم أساس الكليات ويترك الوسائل على تنوعها للناظر أياً كان، فلما قال الله (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم) فإنه يفتح بصيغ العموم هذه – النكرات في سياق الإثبات – المجال واسعاً أمام الخصم لإيراد كل ما يصلح لأن يكون دليلاً أو قرينةً على صحة دعواه.
إن النتيجة التي أريد أن أصل إليها دون إسهاب في التقديم هي أن علماء الحديث ونقاده لم يفعلوا أكثر من تطبيق هذا المنهج القرآني: منهج تقديم الدليل في جرح أو تعديل (قل هاتوا برهانكم) ، منهج رد رواية ساقط العدالة أو الاحتياط فيها (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، منهج الاعتداد بشهادة الخبراء – ولو كانوا كفاراً - (فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) - ، منهج قبول الحق ولو من المخالف...رواية المبتدع - انظر ترجمة: [عبّاد بن يعقوب الرواجني] – (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) ، (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا). وفي المقابل يسلك المخالف منهجاً غير قرآني ، وبالتالي مُغالي وافتراضي وغير واقعي لأن القرآن واقعي ينسجم مع واقع النفس والتاريخ، فهو يصم من سلف ذكرهم بالكذب ولا يستثني ، ويحكم حكماً كلياً تعميمياً ، ليس لأن القرآن يشفع له بذلك وإنما لأنه لايصبر على طريقة القرآن، لأن طريقة القرآن تحتاج إلى صبر ودقة وتحر وأمانة وجلد (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله) في الحكم على الأشياء فما بالك بالحكم على أجيال مضت، ثم هناك معول آخر تنخرم به واقعية التفكير القرآني عن هؤلاء وهو معول سوء الظن ، وما أكثر سوء الظن عندهم ، فأول الأمة هو أساس ضلال ومصدر غواية الأجيال اللاحقة ، ولو أنهم اقتصروا - كما يزعمون - على القرآن وطرحوا كل مأثور عن رسول الله ، لعاشت الأمة في وئام وسلام ، ولم يعلم هؤلاء أن كتب الله المنزلة هي نفسها كانت سبباً في تفرق الناس لا اجتماعهم (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) ، (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) ، وأن لله الحكمة في ذلك (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين)
....وعوداً إلى معول سوء الظن ، وفيه قول المولى (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)، بل لا يكاد يأبه هؤلاء بقاعدة تقديم إحسان الظن حتى ولو كان الجو مشحوناً بدواعي الظن السيئ (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم)، والمقصود أن هؤلاء الذين يتهمون كبار النقاد وعظماء الحديث بالكذب والتخليط في ما يعرف بـ "الجرح والتعديل" إنما يمارسون أيضاً جرحاً وتعديلاً، بل لا يعرفون إلا الجرح ولا يكادون يعرفون للتعديل سبيلاً ، وأقاموا سوق جرح خاص بهم ، سماته الخرص (إن هم إلا يخرصون)، والكلالة وعدم الصبر على تحري الحقيقة، بل لا يكادون يقيمون للمنهج القرآني في اعتبار الذاكرة التاريخية (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) وزناً يذكر ، وكأن الله قد ألغى كل معرفة ، وإن استندت إلى (أثارة من علم)، حتى يتحقق فيها اليقين الذي لا يخالجه ظن، وهذا من التعنت المذموم في طلب الطمأنينة ولهم سلف في ذلك (ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتاب نقرؤه) ، فلا يكفيهم الاستدلال العادي الذي أقره القرآن في أمور الدين وغيرها على حد سواء....
...والله تعالى، وهو أحكم الحاكمين وكلامه أحسن كلام، لم يخل كلامه من فتنة تصغى إليها أفئدة اللذين في قلوبهم مرض (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) ، ولم يخل من متشابه يختلف الناس فيه، كل ذلك من أجل إتاحة مساحة واسعة من الاجتهاد والتحري والتعلّم والتثبت والتبيّن بل والامتحان، ولله في ذلك الحكم الكثيرة والعظيمة، في مقدمتها تحقيق التفاوت في شرف درجات العلم والمعرفة [1]، والسنة لما اشتركت مع القرآن في كونها أيضاً تتضمن مساحة واسعة من الاجتهاد والتعلم والتحري، - لذلك قال الخطابي رحمه الله في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم (يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ...)، قال: "أراد به أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا الحديث بالأسفار من أهله" - كان من الطبيعي أن يختلف الناس حيالها بين مصيب ومخطيء، ومجتهد ومقلد، ومتحرٍ متثبت وعجول متهور...إذاً فهذه المساحة المتاحة للاجتهاد والتعلم والتحري لم توضع لهؤلاء الذين يريدون كل شيء محكماً، ويبغون معنى دلالالته في منطوقه لا في مفهومه مهما أشرق مفهومه، فهؤلاء - عافاهم الله وهداهم - لا يلبثون أن يصفوا غيرهم بما تفوه به بعض من سلف (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) ، أي لو كانت السنة حقاً لكنا نحن أول من يثبت حجيتها ويعترف بوجودها !
والسبب كما أسلفت هو أن فهمهم للتاريخ وموقع البشر من أحداثه وأحواله إنما هو فهم مجتزأ لا تؤيده الأصول القرآنية في التفكير والنظر وتحليل الأشياء - حتى أن بعض من حاورني من منكري السنة يحتج علي بمبدأ كارل بوبر في قابلية الفرضيات للنفي ، ولكنه لم يجبني عن مصير الأجيال المسكينة من أمة محمد التي قضت نحبها ولم يسعفها طول العمر لمعاصرة مبدأ بوبر العظيم ! - وهكذا يكون حال كل من بنى أساس منهجه في التفكير على غير هدى من القرآن نفسه، ونحن لا نطلب من هؤلاء أكثر من إعادة برمجة تفكيرهم وفق ما رسمه القرآن، وليستفرغوا وسعهم وطاقتهم في ذلك، فإنهم سيصلون ولابد إلى نتيجة واحدة وهي أن السنة لا يمكن أن تلغى بكلام عابر أو استنتاج مبتسر قاصر عن الحد المرضي للتقوى (واتقوا الله ما استطعتم)
= = = = = = = = = = = = = = =
[1] أسوق كلاماً جميلاً لأبي الحسن علي بن عمر بن القصار المالكي (ت 397) من مقدمته في الأصول قال رحمه الله :"اعلم أن للعلوم طرقاً منها جلي وخفي ، وذلك أن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يمتحن عباده وأن يبتليهم فرّق بين طرق العلم ، وجعل منها ظاهراً جلياً ، وباطناً خفياً ، ليرفع الذين أوتوا العلم كما قال عز وجل ((يرفع الله الين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات))" أ.هـ. [المقدمة في الأصول : ص5 ، ط. دار الغرب]
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
[1] الجدير بالذكر أني حاولت أن أجدت إنكاراً صريحاً من قِبل المستشرقين الذين اشتهروا بدراسة نشأة الأحاديث فلم أجد أحداً منهم - حتى المبالغين في النقد منهم أمثال شاخت و جولدزيهر - يصرح بأنه لا يوجد ما يمكن نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وكما يقول جوينبول، والذي يعتبر نفسه معتدلاً ومستدركاً لأعمال من سبقه، لا يمكن لأحد أن ينكر صحة نسبة بعض هذه الأحاديث، على الأقل، إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا قدر الله ! أن توجد هذه الأحاديث، والذين واجهوا هذه الحقيقة كانوا بين خيارين: إما أن يصموا آذانهم ويعموا أبصارهم ويفترضوا أنهم أمام لا شيء ! أو أن يتعاملوا مع هذه الواقع بحسب ما يتسع له جهدهم وفكرهم، فمن صحت نيته منهم وأخلص أعانه الله وجعله سبباً لنقل سنة النبي الخاتم وتمحيصها، ومن افترى أظهر الله آفته [انظر: ترجمة كلٌ من: زياد بن ميمون و محمد بن سعيد المصلوب، على سبيل المثال لا الحصر]
--------------
(9)
يحتج منكرو السنة بحجة أوهى من بيت العنكبوت، خلاصتها أن الأحاديث سبب فرقة واختلاف الأمة فرقاً وأحزابا، ونسوا أن القرآن نفسه جاء للتفريق، فهو الفرقان، يفرق بين الحق والباطل، كما يفرق بين المُحقين والمبطلين، فسبب التفريق في ذاته لا يدل على حق ولا باطل بنفسه، ألم يقل الله عن بيناته (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد جاءتهم البينة)، ولو كان التفريق دائماً وبالضرروة لا يصدر إلا عن شر، لكانت بينات الله وكتبه شراً، لأنها فرّقت بين الناس، ألم تفرّق الحنيفية بين إبراهيم وأبيه! والسحرة أيضاً يفرّقون، فهم يفرقون بين المرء وزوجه، ويفرّقون بين الإخوة المؤمنين (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)، فعاد الأمر حقيقة إلى استجابات الأشخاص وميولهم ومعادنهم، لا لمعنى التفريق في حد ذاته، فمن آمن بالحق اجتمع مع من آمن به وحصلت الفرقة بينه وبين من لم يؤمن به، ومن آمن بالباطل اجتمع مع أوليائه ممن آمنوا بالباطل وحصلت الفرقة بينه وبين من هو بخلاف ذلك. لذا، فكون الأحاديث قد ساهمت في التفريق هو أمرٌ لا شر ولا خير فيه في ذاته، وإنما هو بحسب المآلات، فالسنة نعم فرَقت، ولكنها فرّقت بين أهل البدعة وأهل الإتباع، فرّقت بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فرّقت بين من يدعي اتباع الرسول حقيقة ومن يقرأ القرآن وهو منافق، فإن المنافقين والذين في قلوبهم مرض ممن يتبعون ما تشابه من القرآن ربما كانوا من أقرأ الناس للقرآن وأشدهم دعوة إليه وأقواهم إيماناً به (وقد كانت هذه من أبرز سمات الخوارج الذين بلغ الأمر من صدقهم أنهم ربما كفّروا من تعمد الكذب في حديثه)، ولكن السنة هي القنطرة التي لا يجاوزها إلا من آمن بالقرآن على طريقة الرسول، لا طريقته هو.
والأمر الآخر الذي يطرح إشكالاً لا مفر منه هو وجود عدد هائل من الأحاديث لا مصلحة لحزب من الأحزاب أو فريق من الفرق في وجودها فضلاً عن اختراعها - على التسليم بأنها موضوعة من قِبلهم - فما المصلحة "المذهبية" و "الطائفية" لأهل السنة ، مثلاً، في أن يضعوا حديثاً في أحكام الشفعة، أو حديثاً في الركاز واللقطة أو رخصة الفطر في السفر أو المبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون المرء صائما أو حتى حديثاً في تفاصيل كفارة الجماع في نهار رمضان وما حصل في أثناء تلك القصة من ضحك الرسول حتى بدت نواجذه ! بل فوق ذلك عبارة المُجامع نفسه عندما أقسم: "والذي بعثك بالحق، ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا" ؟!! أي مصلحة "مذهبية" أو تفرقة "طائفية" يُرجى تحقيقها من مرويات كهذه؟ ولعل هذا مما يؤكد بالفعل أن إنكار السنة - كما ذكرتُ في مقدمة هذا الموضوع - يولد من الإشكالات أضعاف أضعاف ما يخشاه القرآني من إشكالات إثباتها.
والأمر الآخر الذي يطرح إشكالاً لا مفر منه هو وجود عدد هائل من الأحاديث لا مصلحة لحزب من الأحزاب أو فريق من الفرق في وجودها فضلاً عن اختراعها - على التسليم بأنها موضوعة من قِبلهم - فما المصلحة "المذهبية" و "الطائفية" لأهل السنة ، مثلاً، في أن يضعوا حديثاً في أحكام الشفعة، أو حديثاً في الركاز واللقطة أو رخصة الفطر في السفر أو المبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون المرء صائما أو حتى حديثاً في تفاصيل كفارة الجماع في نهار رمضان وما حصل في أثناء تلك القصة من ضحك الرسول حتى بدت نواجذه ! بل فوق ذلك عبارة المُجامع نفسه عندما أقسم: "والذي بعثك بالحق، ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا" ؟!! أي مصلحة "مذهبية" أو تفرقة "طائفية" يُرجى تحقيقها من مرويات كهذه؟ ولعل هذا مما يؤكد بالفعل أن إنكار السنة - كما ذكرتُ في مقدمة هذا الموضوع - يولد من الإشكالات أضعاف أضعاف ما يخشاه القرآني من إشكالات إثباتها.
------------
(10)
إضافة من الأخ عياض - منتدى التوحيد ..
وكذلك الأحاديث التي يقولون أنهم يروونها في فضل الشام وأنها وضعها كتاب الحديث لأغراض سياسية ... وهذا إن جمعته مع اتهامهم لمصنفي دواوين السنة بأنهم كانوا يحابون الحكام أو كان التصنيف تحت تحكم السلطة التنفيذية : علمنا تناقضهم !!.. إذ أغلب مصنفي الدواوين صنفوها في العصر العباسي !!.. بل كان تمويلهم لجمع السنة وتصنيفها : هو في عهد المهدي والرشيد : حيث التمويل الثاني الأكبر من الدولة بعد تمويل عمر بن عبد العزيز رحمهم الله !!.. ومع ذلك : بقيت أحاديث فضل الشام موطن الأمويين الذين كان العباسيون يبغضونهم ويحطون من شأنهم : ظاهرة على فضائل غيرها من الأقطار بما فيها بغداد وخراسان موطن العباسيين .. حتى أن هذه الأخيرة في مصنفاتهم قليلة الرتبة جدا ... وكذلك بقيت الروايات في فضل العلويين أيضا صحيحة قوية في عهد الأمويين على بغضهم لهم ... فهذا يدلك على مقدار المصداقية الناتجة عن الاستقلالية في تعامل الدولة والهيئات العلمية فيما بينها ومنها علم الحديث ...
------------
(11)
...هذا وقد روى أهل السنة ما يمكن أن يُحسَب عليهم ويُستثمر ضدهم : تماماً كما رووا ما هو بخلاف ذلك، ومن عنده أدنى اعتبار لقرائن الصدق، وجد هذا من أرفع منازل النزاهة.
-----------
(12)
...وعطفاً على ما تقرر في مشاركة سابقة بشأن التواتر المعنوي في أصل السنة والأحاديث : يُطالب المُخالف المُنكر للسنة - أي من ينكر وقوعها ونقل الصحابة لها [1] - أقول: أقل ما يمكن أن يُطالب به المنكر هو أن يوقفنا على تواترٍ معنوي مضاد: أي يثبت بالتواتر المعنوي أن الرسول - صلوات ربي وسلامه عليه - لم يتلفظ بشيء اسمه "أحاديث" وأن من كانوا حوله لم يسمعوا شيئاً من هذا ولم يبتدروه وينقلوه لغيرهم، وهكذا الأمر بالنسبة للتابعين...وذلك أنه لو كان الأمر بالنسبة للسنة كما ذكرنا لكانت القضية في درجة من الشهرة والاستفاضة بحيث تتوافر الدواعي على نقلها، كما توافرت الدواعي على نقل عناية الصحابة بتعليم القرآن وتدوينه وضبطه، بل كما توافرت الدواعي والهمم على نقل ما هو دون ذلك بكثير، وأمثلة هذا الأخير لا تُحصى [سخاء حاتم، وخلافة الأربعة، ووقعة الجمل...الخ]
= = = = = = = = = = == = = = =
[1] وفي هذا إعجاز نبوي حيث أخبر صلى الله عليه وسلم وقال:"تسمعون ويُسمع منكم ويُسمع ممن سمع منكم" ، (حسّنه الحافظ العلائي).
وقد حصل هذا بتمامه.
-----------
= = = = = = = = = = == = = = =
[1] وفي هذا إعجاز نبوي حيث أخبر صلى الله عليه وسلم وقال:"تسمعون ويُسمع منكم ويُسمع ممن سمع منكم" ، (حسّنه الحافظ العلائي).
وقد حصل هذا بتمامه.
-----------
(13)
..وقد لخص المعلمي اليماني العلاقة بين إثبات السنة والقرآن في ردّه على أبي ريّة فقال:
"..ويحاول (أي أبو رية) إبطال أحاديث صحيحة بشبهات ينتقل إلى الذهن فور إيرادها ورودها على آيات القرآن. فهذا وأشباهه يجعلنا نشفق على أبي [في المطبوع "أبو" وهو خطأ] رية ومنه". أ.هــ.
[كتاب الأنوار الكاشفة : ص 16، ط. عالم الكتب]
"..ويحاول (أي أبو رية) إبطال أحاديث صحيحة بشبهات ينتقل إلى الذهن فور إيرادها ورودها على آيات القرآن. فهذا وأشباهه يجعلنا نشفق على أبي [في المطبوع "أبو" وهو خطأ] رية ومنه". أ.هــ.
[كتاب الأنوار الكاشفة : ص 16، ط. عالم الكتب]
-----------
(14)
وللاستطراد...من فوائد ابن الوزير اليماني هذا الرد على المعترض المتهم لأئمة أهل الحديث بجواز الكذب في الحديث ، قال رحمه الله :
"...وقد نهى رسول الله عن تكذيب أهل الكتاب في حديثهم خوفاً من تكذيب الصدق ورد الحق ، فإن الكافر قد يصدق ، فهذا في حق اليهود القوم البهت ، فكيف بثقات المسلمين وأئمتهم".
الروض الباسم: جـ 2 ، ص 425.
"...وقد نهى رسول الله عن تكذيب أهل الكتاب في حديثهم خوفاً من تكذيب الصدق ورد الحق ، فإن الكافر قد يصدق ، فهذا في حق اليهود القوم البهت ، فكيف بثقات المسلمين وأئمتهم".
الروض الباسم: جـ 2 ، ص 425.
-----------
(15)
قوله تعالى (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة) فيه دليل على ثبوت السنة وحجية الأحاديث لأن الله أقرّ طريق تحصيل العلم بسؤال بني إسرائيل، والسنة من باب أولى.