كيف يُمتحن الذين لم تبلغهم رسالات الله ولا حُجته في الدنيا ؟
لقد تعددت أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم عن حال مَن لم تصلهم رسالات الله أو ماتوا صغارا أو أطفالا أو المجنون أو الأصم أو الشيخ الفاني الهرم الذي لا يعي إلخ
وكان التعدد في أحاديث النبي يلازم أكثر من حالة ..
فالتبس الأمر على بعض الناس واختلفوا في مصير هؤلاء - وخصوصا مَن مات صغيرا وفيه 8 أقوال للعلماء -
ولكن القول الراجح الذي ينضم تحته كل الروايات ويوافق عدل الله عز وجل : هو أنهم سيُمتحنون في عرصات يوم القيامة ..
فيظهر منهم ما كان يعلمه الله تعالى فيهم لو كانوا في الدنيا ..
وكان من رحمة الله بالمؤمنين أن قضى ألا يولد لهم إلا مؤمنين مثلهم حتى إذا ماتوا صغارا دخلوا الجنة ..
وذلك لأن الدنيا والابتلاءات عموما ليست إظهارا لما يجهله الله - حاشا لله فعلمه نافذ يعلم مكنونات كل نفس - ولكن :
الدنيا والابتلاءات هي فقط إظهار لعلم الله السابق قبل أن يصدر من الأنفس عمل ..
فالله تعالى هو الذي خلق الأنفس مُختارة (أي لديها حرية الاختيار) :
وهو العالم وحده بحقيقة استعدادها للخير والشر والإيمان والكفر .. يقول عز وجل :
" هو الذي خلقكم : فمنكم كافر ومنكم مؤمن " التغابن 2 ..
أيضا يجب الوقوف على أن لله تعالى أكثر من حكمة في خلق هذه الأصناف التي لم تبلغها رسالة ولم تقم عليها الحُجة ..
مثل أن الله تعالى يمتحن بهم الناس .. مثل الجنين أو الطفل الذي يموت لأبويه ؟ هل يصبران مثلا أم يتسخطان ؟
ومثل المجنون ومعاملة الناس له وما يظهر لهم من أهمية العقل برؤيتهم لغيابه في المجنون .. وهكذا ..
كما أن الله تعالى قد قضى بحكمته وكامل علمه أن هذه الأصناف يكون سؤالها سؤالا واحدا يوم القيامة ..
فقد علم تساويهم في درجاتهم في الجنة أو دركاتهم في النار ....
أما الذين امتحنهم الله في الدنيا فهم الأكثر تفوتا في درجات الجنة والنار ...
والله تعالى من وراء القصد ...
-------------
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لآية : {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} :
وكذا قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} إخبار عن عدله تعالى؛ وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، بإرسال الرسول إليه كقوله تعالى: { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا} الآية، وقوله: { وقال لهم خزنتها: ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} ، وقال تعالى: { أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن اللّه تعالى لا يدخل أحداً النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.
### مسألة ###
بقي هاهنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم اللّه تعالى فيها قديماً وحديثاً، وهي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار ماذا حكمهم! وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف، ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته. وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون اللّه وتوفيقه، ثم نذكر فصلاً ملخصاً من كلام الأئمة في ذلك واللّه المستعان.
فالحديث الأول :
رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفطرة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم لِيُطِيعُنَّه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت برداً وسلاماً)
الحديث الثاني :
عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أطفال المسلمين، قال: (هم مع آبائهم)، وسئل عن أولاد المشركين فقال: (هم مع آبائهم)، فقيل: يا رسول اللّه ما يعملون؟ قال: اللّه أعلم بهم) ""أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي"".
الحديث الثالث :
عن ثوبان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم عظَّم شأن المسألة قال: (إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون: ربنا لم ترسل إلينا رسولاً، ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون: نعم، فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظاً وزفيراً، فرجعوا إلى ربهم، فيقولون: ربنا أخرجنا أو أجرنا منها، فيقول لهم: ألم تزعموا أني إذا أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم، فيقول: اعمدوا إليها فادخلوها، فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا، وقالوا: ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها، فيقول: ادخلوها داخرين)، فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً) ""أخرجه الحافظ البزار في مسنده"".
الحديث الرابع :
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء)، وفي رواية قالوا: يا رسول اللّه أفرأيت من يموت صغيراً، قال: (اللّه أعلم بما كانوا عاملين):، وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام) وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن اللّه عزَّ وجلَّ أنه قال: (إني خلقت عبادي حنفاء)
الحديث الخامس :
عن سمرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة)، فناداه الناس: يا رسول اللّه وأولاد المشركين، قال: (وأولاد المشركين) ""رواه الحافظ البرقاني في المستخرج على البخاري"". وقال الطبراني عن أبي رجاء عن سمرة قال: سألنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال: (هم خدم أهل الجنة)
الحديث السادس :
عن خنساء بنت معاوية، من بني صريم قالت: حدّثني عمي قال، قلت: يا رسول اللّه من في الجنة؟ قال: (النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة) ""أخرجه الإمام أحمد"".
وعلى هذا :
1-
فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث
2-
ومنهم مَن جزم لهم بالجنة لحديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان، فقال له جبريل: هذا إبراهيم عليه السلام وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين، قالوا: يا رسول اللّه وأولاد المشركين؟ قال: (نعم، وأولاد المشركين)
3-
ومنهم مَن جزم لهم بالنار، لقوله عليه السلام: (هم مع آبائهم)
4-
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم اللّه فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخراً وانكشف علم اللّه فيه بسابق الشقاوة.
وهذا القول (أي رقم 4 الأخير) :
يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول الذي حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن أهل السنّة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في (كتاب الاعتقاد) وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد.
-------------------------
--------------------------------
< أقول أنا أبو حب الله :
وهذه مجموعة جمعتها من الأحاديث النبوية التي صحح بعضها وحسنها أهل العلم قديما وحديثا كالألباني وغيره رحمهم الله تعالى (وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3 /1434 - وصحيح الجامع الصغير 1 /881) كمثال ومنها > :
>>
وأخرج قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يُـؤتى يوم القيامة بأربعة: بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى: لعنق من جهنم أبرزي، ويقول لكم: غني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم. فيقول لهم: ادخلوا هذه، فيقول: من كتب عليه الشقاء يا رب؟ أندخلها ومنها كنا نفر؟! قال: وأما من كتب له السعادة فيمضي فيها، فيقول الرب: قد عاينتموني فعصيتموني، فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار " ..
>>
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" يُـؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا، وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوخ عقلا : يا رب، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا: يا رب، لو آتيتني عمرا ما كان من أتيته عمرا بأسعد بعمره مني، فيقول الرب تبارك وتعالى: فإني آمركم بأمر تطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك، فيقول لهم: اذهبوا فادخلوا جهنم، ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا، فخرج عليهم قوابص من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعا ويقولون: يا ربنا، خرجنا وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص من نار، ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله من شيء، ثم يأمرهم ثانية، فيرجعون كذلك ويقولون: كذلك، فيقول الرب: خلقتكم على علمي، وإلى علمي تصيرون، ضميهم، فتأخذهم النار " ..
>>
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
" إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة: المعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام، ثم أرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، فيقولون كيف؟ ولم تأتنا رسل! قال: وأيم الله، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ثم يرسل إليهم، فيطيعه مَن كان يريد أن يطيعه " .. قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرأوا إن شئتم {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ..
>>
وأخرج إسحق بن راهويه وأحمد وابن حبان وأبو نعيم في المعرفة والطبراني وابن مردويه والبيهقي في كتاب الإعتقاد، عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم :
" أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفطرة، فأما الأصم، فيقول: رب، لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئا، وأما الأحمق، فيقول: رب، جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفطرة فيقول: رب، ما آتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم، ويرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار. قال: فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها كانت عليهم بردا وسلاما، ومَن لم يدخلها سحب إليها " ..
>>
وأخرج ابن راهويه وأحمد وابن مردويه والبيهقي، أبي هريرة رضي الله عنه مثله، غير أنه قال في آخره:
" فمَن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها سُحب إليها " ..
>>
وأخرج ابن أبي شيبة، عن أبي صالح رضي الله عنه قال :
" يُحاسَب يوم القيامة الذين أُرسل إليهم الرسل، فيدخل الله الجنة من أطاعه، ويدخل النار من عصاه، ويبقى قوم من الولدان والذين هلكوا في الفترة، فيقول: وإني آمركم أن تدخلوا هذه النار، فيخرج لهم عنق منها، فمن دخلها كانت نجاته، ومن نكص فلم يدخلها كانت هلكته " ..
>>
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فسأله عن ذراري المشركين الذين هلكوا صغارا؟ فوضع رأسه ساعة ثم قال: أين السائل؟ فقال: ها أنا يا رسول الله، فقال :
"إن الله تبارك وتعالى إذا قضى بين أهل الجنة والنار لم يبق غيرهم عجوا، فقالوا: اللهم ربنا، لم تأتنا رسلك ولم نعلم شيئا، فأرسل إليهم ملكا، والله أعلم بما كانوا عاملين، فقال: إني رسول ربكم إليكم، فانطلقوا فاتبعوا حتى أتوا النار، فقال: إن الله يأمركم أن تقتحوا فيها، فاقتحمت طائفة منهم، ثم أخرجوا من حيث لا يشعر أصحابهم، فجعلوا في السابقين المقربين، ثم جاءهم الرسول فقال:إن الله يأمركم أن تقتحموا في النار، فاقتحمت طائفة أخرى، ثم خرجوا من حيث لا يشعرون، فجعلوا في أصحاب اليمين، ثم جاء الرسول فقال: إن الله يأمركم أن تقتحموا في النار، فقالوا: ربنا، لا طاقة لنا بعذابك، فأمر بهم، فجمعت نواصيهم وأقدامهم ثم ألقوا في النار والله أعلم " ..
والآن : نواصل باقي كلام ابن كثير رحمه الله :
-----------------------------
-------------------------------------
وقد ذكر الشيخ ابن عبد البر أن أحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة، وأهل العلم ينكرونها لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء فكيف يكلفون دخول النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، واللّه لا يكلف نفساً إلا وسعها. والجواب عما قال: إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، و منها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنّة والجماعة من امتحان الأطفال. وقد قال تعالى: { يوم يُـكشف عن ساق ويدعون إلى السجود} الآية.
وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون للّه يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه. وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها، أن اللّه يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مراراً، ويقول اللّه تعالى: يا ابن آدم ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة، وأما قوله: فكيف يكلفهم اللّه دخول النار وليس ذلك في وسعهم، فليس هذا بمانع من صحة الحديث، فإن اللّه يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم مَن يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.
وأيضاً فقد ثبتت السنّة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً، فهذا نظير ذاك؛ وأيضاً فإن اللّه تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها اللّه عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضاً شاق على النفوس جداً لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور، واللّه أعلم.
### فصل ###
إذا تقرر هذا، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال،
أحدها :
أنهم في الجنة، واحتجوا بحديث سمرة أنه عليه السلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين،
والقول الثاني :
أنهم مع آبائهم في النار: واستدل عليه بما روي عن عبد اللّه بن أبي قيس، أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هم تبع لآبائهم) فقلت: يا رسول اللّه بلا أعمال؟ فقال: (اللّه أعلم بما كانوا عاملين) ""أخرجه الإمام أحمد"".
والقول الثالث :
التوقف فيهم، واعتمدوا على قوله صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه أعلم بما كانوا عاملين) وهو في الصحيحين،
ومنهم :
مَن جعلهم من أهل الأعراف، وهذا القول يرجع إلى مَن ذهب إلى أنهم من أهل الجنة، لأن الأعراف ليس دار قرار، ومآل أهلها إلى الجنة، كما تقدم تقرير ذلك في سورة الأعراف، واللّه أعلم،
وليُعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء أنهم من أهل الجنة، وهذا هو المشهور بين الناس وهو الذي نقطع به إن شاء اللّه عزَّ وجلَّ.