الصفحات

الأحد، 3 أغسطس 2014

فطرة الإيمان بالخالق

فطرة الإيمان بالخالق ..
تعليق على أبحاث علمية أكاديمية تثبت فطرية الإيمان!  

سؤالٌ قد شغل الكثير من المفكرين والفلاسفة والعلماء بمختلف تخصصاتهم – وعلى رأسهم الماديين ودعاة التطور المزعوم للإنسان – ألا وهو: ما مدى علاقة (التدين) بطبيعة الإنسان وغريزته؟! هل هو شيء مكتسب بعد الولادة؟ أم يولد معه كفطرة لازمة له؟

فأما دين الإسلام الحنيف, فقد حسم الإجابة بكل وضوحٍ منذ أكثر من 1400 عام حينما ربط بين فطرةالإيمان وبين حادثة إشهاد اللهُ تعالى الخلقَ على ربوبيته في عالم الذر السابق على خلق الأجساد! حيث يقول عز وجل: }وإذ أخذ ربُك مِن بني آدم مِن ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين{ (الأعراف 172). فهذا هو عهد الإيمان وفطرته الأولى في عالم الذر وقبل أن تكون للأنفس أجساداً وكما قلنا!

وكذلك رأينا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلـم ما سبق به علوم اليوم وتقريراتها - التي سنطالعها بعد لحظات - حيث يقول وبكل وضوح: (ما من مولودٍ إلا يولدُ على الفطرةِ, فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه, كما تُنتَجُ البهيمةَ بهيمةً جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء)؟! رواه البخاري في صحيحه - باب تفسير سورة الروم. 

ففي شهر نوفمبر 2008م نشرت صحيفة التليغراف البريطانية مفاجأةً من العيار الثقيل ولأول مرة في مجال العلوم (التجريبية), ألا وهي نتائج بحث أكاديمي عن الأطفال بعنوان: 
"Children are born believers in God" أو "الأطفال يولدون مؤمنين بالله"!

بل وتنقل الصحيفة - وفي نفس العنوان الثانوي للخبر - أن الإيمان الديني للأطفال ليس محتاجاً للتلقي وفق ما أكده الأكاديميون!.
 And do not simply acquire religious beliefs through indoctrination, according to an academic  

وأما الجديد في الخبر, فهو ليس مفاجأته للأوساط العلمية بتأكيد ما جاءت به الأديان السماوية من قبل من فطرية الإيمان, وإنما استناد هذه التأكيدات - ولأول مرة في بلادهم - على تجارب وأبحاث أكاديمية نفسية موثقة على الأطفال! – في حين سبقهم علماءُ الإسلام الذين سجلوا مثل هذه الملاحظات منذ قرون كما سيأتي - حيث يؤكد الدكتور جاستون باريت (Barrett Dr Justin) – وهو مدير تنمية بشرية وأستاذ في تطوير العلوم وأستاذ في علم النفس وباحث متقدم في مركز علوم الانسان والعقل في جامعة أوكسفورد الأمريكية - أن الأطفال الصغار لديهم القابلية البديهية المُسبقة للايمان بخالق أو "كائن أعلى" لأنهم يعتبرون أن كل ما في هذا العالم مخلوقٌ لسبب! ومن تعليقاته في ذلك الصدد قوله: 
"أننا لو وضعنا مجموعة منهم على جزيرة لينشأوا بمفردهم فسيؤمنون بالله"!:
If we threw a handful on an island and they raised themselves I think they would believe in God

وللدكتور جاستون باريت كتاب في نفس السياق باسم "Why Would Anyone Believe in God" أو "لماذا يؤمن أي أحد بالإله"؟ ومن كلماته المنقولة كذلك قوله لراديو BBC : 
"غالبية الأدلة العلمية في العشر سنوات الماضية أظهرت أن الكثير من الأشياء تدخل في البنية الطبيعية لعقول الأطفال عمّا ظننا مُسبقاً, من ضمنها القابلية لرؤية العالم الطبيعي على أنه ذو هدف ومُصمم بواسطة كائن ذكي مُسبب لذلك الهدف".

ومن أمثلة تلك الاختبارات النفسية على الأطفال والتي أظهرت إيمانهم بأن كل شيء مخلوق هو لسبب محدد, كان بسؤال مجموعة منهم في سن السادسة والسابعة عن سبب وجود الطير الأول؟ فأجابوا: "لإصدار أصوات جميلة" وأجابوا كذلك: "ليجعل العالم يبدو جميلاً"!. – أي أنهم أجمعوا على وجوب وجود سبب منطقي لتواجد الأشياء وليس صدفة أو تطور عشوائي - كما أظهر اختبارٌ آخرٌ على أطفالٍ في عمر 12 شهراً بأنهم تفاجأوا عند مشاهدتهم لفيلم تظهر فيه كرة متدحرجة – وهم يعرفون أنها جماد غير عاقل - وهي تصنع جداراً منظماً من كومة قطع مبعثرة!  

ويذكر الدكتور جاستون كذلك أن الأطفال في سن الرابعة ورغم معرفتهم بقدرة الإنسان على صنع الأشياء, إلا أنهم يدركون أن أشياء الطبيعة تختلف! – أي تخرج عن قدرات البشر وتحتاج خالقاً أعلى – ولذلك يؤكد الدكتور جاستون من جديد على أن الأطفال لديهم ميل فطري للإيمان بالخلق الإلهي المباشر في مقابل فرضيات التطور! وبغض النظر عما سيلقنه إياهم الآباء أو المعلمون:
He added that this means children are more likely to believe in creationism rather than evolution, despite what they may be told by parents or teachers.

ويؤكد هذه الحقائق مرة أخرى في كتاب آخر له مع زميله الدكتور جوناثان لينمان (Jonathan A. Lanman) – ماجستير ودكتوراة بجامعة أكسفورد وتخصص في علوم الإنسان والمعرفة والثقافة – باسم " The Science of Religious Beliefs" أو "علم المعتقدات الدينية" حيث يتساءلان: 
"إذن.. من أين جاءت هذه الاعتقادات الفطرية بوجود الخالق؟ فنحن لا نستطيع القول بأنها جاءت من المجتمع, والسبب أنها فطرية! وكذلك الدراسات أكدت أن هذه الاعتقادات لا تعتمد على تأثيرات المجتمع! بل وهي مشتركة بين مختلف الثقافات"!
So where did this natural belief in a creator come from? We can’t say it is taught by society as this belief is innate, and studies show that it is independent of societal pressures and is cross-cultural

ويمكننا الآن تلخيص كل ما سبق في أن الإيمان بإله يعتبر من أبسط البديهيات الفطرية التي يولد بها الإنسان, والتي لا تتطلب علماً معيناً ولا تلقيناً من نوع ما, وذلك لأن استدلالاتها هي من جملة الأساسيات العقلية التي لا يُنكرها إلا مجنون أو مختل عقلياً! تماماً مثلما يدرك أبسط البشر أن 1 + 1 = 2 بغير برهان عليها! بل يعدها البشر حقيقة بديهية يستخدمونها في البرهنة على الأشياء وفي سائر علاقاتهم الرياضية والحسابية والمنطقية الأخرى!

فكذلك استحالة تسلسل الأسباب – أو الصانعين - إلى ما لا نهاية, هو بديهة فطرية في العقل البشري يُستدل بها ولا يُستدل عليها! ومن هنا عُرف الله تعالى بأنه (واجب الوجود) الأزلي الذي لم يكن في وقت ما غير موجود ثم وجد بل : هو الموجود دوما وأزلا وكل ما عداه حادث بعد أن لم يكن - وكذلك بديهة أن أي شيء معقد ومركب له غاية ووظيفة, فيستحيل تصور ظهوره صدفة أو عشوائياً بغير إرادة حكيمة قادرة! ولذلك كان الإلحاد – وهو إنكار وجود خالق أزلي – هو الشاذ في الإنسان! 
"هو المكتسب وليس الأصل ولا الفطرة"
"Atheism is definitely an acquired position"
أو كما قالتها الدكتورة أوليفيرا بيتروفيتش (Olivera Petrovich):  وهي خبيرة علم نفس الأديان في كتابها "Child's Theory of World" أو "نظرية الطفل العالمي".
                       
وأما العجيب فإنه في الوقت الذي أحدثت فيه دراسات وأبحاث الأكاديميين هذه الضجة الكبيرة حول إثبات هذه البديهيات الفطرية بالأبحاث النفسية التجريبية على الأطفال, نجد أن المسلمين قد عرفوها من نصوص دينهم قرآناً وسنةً منذ قرون - وكما مر معنا في الآية والحديث في أول هذا المقال! - بل نرى واحداً من مشاهير علماء الإسلام وقد سبق أولئك الباحثين في تسجيل هذه البديهيات الفطرية وتقريرها منذ ما يقارب 900 عام مضت! حيث يقول ابن حزم الأندلسي رحمه الله في كتابه الشهير "الفصل بين الملل والأهواء والنحل" جـ1 صـ 16: 
والإدراك السادس علمها بالبديهيات‏.‏ فمن ذلك علمها بأن الجزء أقل من الكل, فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سُرَّ وهذا عِلمٌ منه بأن الكل أكثر من الجزء, وإن كان لا ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك, ومن ذلك علمه بأن لا يجتمع المتضادان, فإنك إذا وقفته قسراً بكى ونزع إلى القعود, عِلماً منه بأنه لا يكون قائماً قاعداً معاً.
ومن ذلك عِلمه بأن لا يكون جسمٌ واحدٌ في مكانين, فإنه إذا أراد الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسراً بكى وقال كلاماً معناه دعني أذهب, علماً منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد أن يذهب إليه ما دام في مكان واحد .

ومن ذلك عِلمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد, فإنك تراه يُنازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه, عِلماً منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما فيه فيدفع مَن في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد فيه إذ يعلم أن مادام في المكان ما يشغله فإنه لا يسعه وهو فيه .

وإذا قلت له ناولني ما في هذا الحائط وكان لا يُدركه قال: لست أدركه, وهذا عِلمٌ منه بأن الطويل زائد على مقدار ما هو أقصر منه, وتراه يمشي إلى الشيء الذي يريد ليصل إليه, وهذا عِلمٌ منه بأن ذا النهاية يُحصر ويُقطع بالعدو وإن لم يُحسن العبارة بتحديد ما يدري من ذلك" ا.هـ

ولعلنا إذا تركنا مرض الإلحاد – وهو الذي يُنكر مثل هذه البديهيات عن قصد لكي لا تصل به إلى الاعتراف بالله – لننظر في عالم المتشككين الباحثين عن الحقائق وعلى رأسهم ديفيد هيوم نفسه (David Hume) فنراه – وهو مَن هو في الشك - عاجزاً عن التشكيك في الفطرة الإيمانية المغروسة في البشر! حيث يعترف بهذه البديهيات قائلاً: "ليس هنالك مَن هو أشد مني إحساساً بالدين المنطبع في نفسي, أو أشد تعلقاً بالموجود الإلهي كما ينكشف للعقل بين ابتداع الطبيعة وصناعتها الذين من الصعب تفسيرهما"! من كتاب "محاورات في الدين الطبيعي" ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي صـ140-141. بل ويقول في موضع آخر أيضاً ومن نفس الكتاب: "لا توجد حقيقة أظهر وأوضح من وجود إله"! المصدر السابق صـ11.

وعلى هذا لا يسع الإنسان العاقل – وليس الملحد ولا المتشكك – إلا أن يؤمن إيماناً يقينياً بوجود الخالق عز وجل. فهذه البديهيات الفطرية التي أودعها اللهُ تعالى البشرَ هي ورقة التذكير الثانية بالعهد الأول في عالم الذر. فإذا تيقن الإنسان من ذلك, سهُـل عليه بعدها أن يستنبط الكثير من صفات خالقه بالنظر في مخلوقاته ورسالاته التي تتطابق مع فطرته وذلك ليصل – وبقليل من البحث الصادق – إلى الحق الذي يريح قلبه من وسط أباطيل الحياة.

فالإنسان قد خلقه الله تعالى بقدراتٍ ومواهبٍ تناسب تماماً السبب الذي أوجده من أجله: }وما خلقتُ الجنَ والإنسَ إلا ليعبدون{ (الذاريات 56). وقد فرّغه من الانشغال بآلاف العمليات الحيوية المعقدة التي تجري داخل جسده – مثل عمليات التنفس والبصر والسمع والشم والهضم والإخراج والحركة والأعصاب والعضلات والتعرق والتكاثر – ليُفسح المجالَ أمام عقله ليتفكر به فيما حوله - بل وفي نفسه - ليدرك بعين الحال حقيقة وجود الخالق عز وجل التي توافق فطرته! يقول تعالى: }وفي الأرض آياتٌ للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون{؟! (الذاريات 20- 21).

فيا له مِن خاسر ذاك الذي أساء استخدام خِلقته وما جُعلت له في الحياة! فخاصم فطرته! وخاصم بديهيات عقله! حتى صار (شاذاً) مِن بين مخلوقات الله تعالى التي يسعى كلٌ منها فيما قدّره الله له وهداه إليه! }قال ربُنا الذي أعطى كل شيءٍ خَلْقَه ثم هدى{ (طه 50). فمِثله لا يُتوقع أن يعيش طويلاً في هذا التناقض بين كفره بالخالق وبين فطرته, فإما يموت متأثراً بهذا الانسلاخ من إنسانيته وفطرته, تماماً كالسمك الذي تخرجه من الماء لتلقيه على البر فيموت! وإما يُنهي حياته البئيسة بنفسه (منتحراً) وهو حال الكثير من الملاحدة بالفعل (*) وإما مَن عاش منهم مُستنكراً لوجود ربه ومُعرضاً عن كل هدي أرسله الله إليه, فهو يذوق عذاب التشتت والصراع النفسي والنفاق الداخلي في كل يوم! أو ما يُعرف بـ (ضنك العيش) أو كما قال تعالى: }فإما يأتينكم مِني هدىً فمَن اتبع هدايَ فلا يضل ولا يشقى ومَن أعرضَ عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى{ (طه 124- 126).
والحمد لله رب العالمين.

(*) دراسة موثقة تبين أن الملحدين هم أكثر الفئات انتحاراً. رابط الدراسة: