الصفحات

الاثنين، 11 فبراير 2013

فَهُم السَّلَف : شبهات وردود..
بقلم وتجميع الأخ ماكولا - منتدى التوحيد - ..

فَهُم السَّلَف ..


يقول د. عبد الله الدميجي - حفظه الله - " المراد بفهم السلف للنصوص الشريعة هو ما علمه وفقهه الصحابة والتابعون وأتبعاهم من مجموع النصوص الشرعية أو آحادها مرادً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بمسائل الدين العلمية والعملية مما أُثر عنهم من قول أو فعل أو تقرير , وهذا يقتضي إجماعهم أو إطباق جمهورهم على ذلك الفهم , او انتشار قول آحادهم وظهوره مع عدم وجود مخالف منهم لذلك الفهم . 

كما يُخرج اجتهاد أفراد الصحابة أو مَن دونهم , وما فهموه من بعض النصوص الشرعية , أو اختلفوا في فهمه , وتعددت آراؤهم , أو لم ينتشر ذلك عنهم , أو جانب الصواب فيها بعضهم , فهذا يُعد قولاً أو فهماً لبعض السلف , وليس هو فهم السلف والفرق بين الامرين واضح . 

وعليه ففهم السلف هو ما فهموه مراداً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم من تلك النصوص , ومستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديّه , وهو يفصّل القرآن ويفسره , فما أمرهم به فعلوه ,وما نهاهم عنه تركوه , وما أخبرهم به صدقوه , وما أشكل عليهم فهمه سألوه .." شبهات العصرانيين 15 


ويقول ابن تيمية في تلبيس الجهمية " والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف ألفاظه الصحيحة وما فسرها به الذين تلقوا عنه اللفظ والمعنى ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات

وقال في المقدمة " ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث اللّه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعًا . ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية "

ولقد كان لهم قدم السبق في الفهم لعوامل عدة منها اللغة , ومعايشتهم التنزيل , وملازمة صاحب الوحي المعصوم , الذي قد جلّى لهم كثيراً من الامور ومناطاتها ," فقد أورثهم ذلك مزيد فهم لا يشاركه فيه غيرهم !

ونقل د. الدميجي قول ابن تيمية في ذلك أن " للصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم ما اعتقدوا من إجماع أو قياس " 

ويقول الشاطبي في تعداد مرجحات الاعتماد على بيان الصحابة " مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة؛ فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات؛ فالعمل عليه صواب، وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة، فإن خالف بعضهم؛ فالمسألة اجتهادية." فهذه المعرفة لها أثرها الكبير في مزيد اختصاصهم في فهم معاني ما أنزل الله في كتابه لا تظهر الا بمعرفة سبب نزولها , وهذه الخاصية لا تكون الا لاؤلئك الذين شاهدوا التنزيل وفهموا التأويل . 

ومن الأمثلة على ذلك : 

1- ما فهمه أبو أيوب رضي الله عنه من قوله تعالى " وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة " لما حمل رجل يوم القسطنطينية على العدو فقال الناس : مه ! لا اله الا الله !يلقي بنفسه الى التهلكة ! .. فذكر أبو أيوب سبب نزولها وقال : الالقاء بالايدي الى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد ! " فمعرفة ابي أيوب ومعاصرته لنزول الاية كانت سبباً في زيادة العلم بمعنى الاية , وتصحيح المعنى الخطأ لها .

2- ومن ذلك تصحيح عائشة رضي الله عنها لفهم عروة بن الزبير رضي الله عنهما لقوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكرٌ عليم " ففهم من الاية أن لا جناح على من لم يطف بهما , فأنكرت عليه ذلك ! وبينت أن الاية نزلت في الانصار الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الصفا والمروة , لما كانوا يهلون في جاهليتهم لمناة الطاغية , فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الاية " بخاري

3- وما فهمه بعض الصحابة من الاعراض عن الضُلّال وعدم مناصحتهم مما فهموه من قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم " فبين الصديق لهم خطأ هذا الفهم , فعن إسماعيل عن قيس قال قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قال عن خالد وإنا سمعنا النبى -صلى الله عليه وسلم- يقول « إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ».ابو داود

4- ومما جاء في قوله تعالى " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم " أن حًميداً بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بن الحكم قال : اذهب يا رافع -لبوابه- إلى بن عباس فقل لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يُحمد بما يفعل معذباً لنعذبن أجمعون ! فقال بن عباس : ما لكم ولهذه الآية إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ثم تلا بن عباس " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " وتلا ابن عباس " لا تحسبن الذين يفرحون بما آتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " قال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا وفرحوا أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه " الترمذي وغيره 

وقد روى البخاري في مناسبة هذه الاية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لا يفعلوا فنزلت { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } . الآية " - ينظر فهم السلف للدكتور 41 وما بعدها ففيه تفصيل -

فأنت ترى أنه لا منافاة بين القولين إذ العلة واحدة , وهي نُص عليها ! , فتُحمل على كل فرح بما أتى وانشغل به عن طاعة ربه , فاستحمد ذلك حتى أخرجه عن شكر ربه , واستقل بنفسه ! والله المستعان ! 


اعتراضات وردود حول ما تقرر 


فإذا تقرر أن الله سبحانه قد اجتبى واصطفى نبيه صلى الله عليه وسلم لرسالته , فقد اجتبى له ورزاء فقد قال الله " وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس " .
فأخبر تعالى أنه اجتباهم والاجتباء :- كالاصطفاء - وهو افتعال. من اجتبى الشيء يجتبيه . إذا ضمه إليه وحازه إلى نفسه


" فهم المجتبون الذين اجتباهم الله إليه وجعلهم أهله وخاصته وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين . ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حق جهاده . فيبذلوا له أنفسهم ويفردوه بالمحبة والعبودية ويختاروه وحده إلهاً محبوباً على كل ما سواه ، كما اختارهم على من سواهم . فيتخذونه وحده إلههم و معبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم . فيؤثرونه في كل حال على من سواه كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحباءه وآثرهم بذلك على من سواهم


ثم أخبرهم تعالى أنه يسر عليهم دينه غاية التيسير ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتة لكمال محبته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم . ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام . فيكون تعلق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره .


ثم أخبر تعالى أنه نوه بهم وأثنى عليهم قبل وجودهم وسماهم عباده المسلمين قبل أن يظهرهم ثم نوه بهم وسماهم كذلك بعد أن أوجدهم اعتناءً بهم ورفعةً لشأنهم وإعلاءً لقدرهم . ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله ويشهدوا هم على الناس . فيكونون مشهوداً لهم بشهادة الرسول ، شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم . فكان هذا التنويه وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين ولهاتين الحكمتين العظيمتين ." - حجية قول الصحابي د. ترحيب -

الا انه ثمة اعتراضات قد اعترض بها المعترض على ما قد تقرر تتلخص في محاور منها :. 

* هل إلتزام فهم السلف يؤدي الى الجمود والتقليد, وإلغاء تدبر القرآن وانحسار الاضافات العلمية , وغلق باب الاجتهاد واستنباط أحكام النوازل والمستجدات التي لم تكن معروفة عند السلف ؟ 


يقول عبد الله الدميجي " إن الاجتهاد المنضبط فيما لا نص فيه ضرورة شرعية , انعقد الاجماع على وجوبه إلى سقوط التكليف, وذلك بفناء الدنيا , والاجماع على وجوبه منقول عن الصحابة رضي الله عنهم , فهو اجماع متقدم , ولا عبرة بمخالفة من خالف من الاصوليين المتأخرين ومقلدة المذاهب , لما اشار الشاطبي لذلك بلأن الوقائع في الوجود لاتنحصر , فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة , ولذا احتيج الى فتح باب الاجتهاد والقياس 

والحكمة من فرضه على المسلمين هو الابتلاء , كما قال الشافعي "ابتلى طاعتهم في الاجتهاد , كما ابتلى طاعتهم في غيره مما افترض عليهم " 

وهو ضروري لاقامة الحياة الطبيعية لهذه الامة على أساس دينها الحنيف , وشريعتها الربانية التي من طبيعتها الحركة والنمو والتجديد , وهو السبيل الاعظم لحفظ هذا المجتمع وحفظ عقيدته وشريعته , وتطبيق أحكامها على الحوادث المتجددة , كما أنه كاشف لزيف من يدعي أن الدين خاص بزمان قد مضى , وان الشريعة لا تصلح لهذا الزمان .
وعليه فإن التزام فهم السلف يضبط الاستنباط والتدبر , ويحدد مساره ويوجهه الى الوجهة السليمة , حتى لا يتقوّل متقوِّل على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه و دينه باسم الاستنباط وغيره , كما كان عند الصوفية واشاراتهم , والباطنية وضلالاتهم , فبعدما تبيّن ان من فسّر القرآن او الحديث على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله , ملحد في ايات الله, محرف للكلم عن مواضعه ! , وهو فتحٌ لباب الزندقة والإلحاد , وهو معلوم البطلان بالإضطرار من دين الاسلام كما يقوله شيخ الاسلام . 

فإذاً لا بُد للاستنباط من ان يكون تابعاً للمعنى الصحيح المبني على الاية , ولذا فلابد أن يكون المعنى المستنبط منه صحيحاً ثابتاً في نفسه ! , وأن يكون بين وبين معنى الاية ارتباط وتلازم , وألا يعد استنباطه من الآية تفسيراً لها باطلاق! , ولا معنى الآية مقصوراً عليه قال القرطبي " والنقل والسماع لابد منه في التفسير أولاً , ليتقي به مواطن الغلط , ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط , فلا مطمع للوصول الى الباطن قبل إحكام الظاهر " " لأنه كما يقول السيوطي " ان من ادعى فهم اسرار القرآن ولك يحكم التفسير الظاهر , فهو كمن ادّعى البلوغ الى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب " . 

- ثم إنه لا بد من أن يكون موافقاً للسان العربي , لكونه لسان الملة والدين , قال الشاطبي " كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء , لا مما يستفاد منه , ولا مما يستفاد به ! , ومن ادعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل "الموافقات 4-224 و أن يكون له شاهد يوافقه من القرآن أو السنة , وزاد بعضهم : أن يكون المعنى المستنبط مفيداً , غير متكلف ! .

وعليه فتكون الاجتهادات والاستنباطات منضبطة المسار , من جهة : 

* دلالة النصوص على بعض المعاني الاخرى التي لا تخالف فهم السلف
* ومن جهة استنباط الاحكام للنوازل المستجدة من هذه النصوص ودلالاتها على بعض الاحكام 
* ومن جهة الاختيار والترجيح بين المعاني التي ظهرت للسلف وتعددت مفاهيمهم لها .
* ومن جهة نظر القارئ لحاله مع هذه الايات , واين موقعه من تطبيقها أو انطباقها عليه . " من شبهات العصرانيين بتصرف . 


هل في انتهاج منهج السلف في فهم النصوص الشرعية تحجيراً وتجميداً للعقل ؟

العقل عند السلف هبة من الله تعالى ومنّة ربانية , أكرم الله به الانسان وفضّله به على كثير من خلقه , وجعله مناط التكليف , وشرع له من الاكاف ما يكفل حمايته باعتباره أحد الضرورات الخمس التي أُنزلت الشرائع بالمحافظة عليها وحرّم ما يضعفه أو يزيله , والعقل الذي يعنيه السلف في أطروحاتهم وتقريراتهم هو تلك الغريزة الانسانية التي يعلم بها الانسان ويعقل , وهي كقوة البصر في العين , والذوق في اللسان , والسمع للاذن , فهي شرط في المعقولات والمعلومات , وهي مناط التكليف , وبها يمتاز الانسان عن سائر الحيوانات كيف اشار لذلك ابن تيمية , اما عند غيرهم ممن يسمون أنفسهم بالعقلانيين , فلا يزال مفهومه عندهم غامضاً , وهم أكثر الناس حيرةً واضطراباً في تعريفه , بل حتى عند الغرب ,مع كثرة الاتجاهات العقلية عندهم ... 

والسؤال الذي يطرح نفسه , ما هو العقل الذي يوزن به كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ وبأي عقل يراد به أن يكون معياراً للنص الشرعي ؟ , أهو العقل المسلم المؤمن إيماناً جازماً بصحة ما ورد في النصوص الشرعية , أم عقل المرتابين في دينهم المنهزمين نفسياً أمام مدنية الآخرين الدنيوية , أم عقل الكافر بدين الله تعالى وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم ؟ 

وللعقل عند علماء السلف أهمية كبيرة , فهو كما قال الشافعي "آلة التمييز " وكما يقول ابن القيم " آلة العلم وميزانه الذي يعرف به صحيحه من سقيمه , وراجحه من مرجوحه , والمرآة التي يعرف بها الحسن من القبيح " ولهذا فهو كما يقول شيخ الاسلام " شرط معرفة العلوم , وكمال وصلاح الاعمال , وبه يكمل العلم والعمل , لكنه ليس مستقلاً بذلك



والعقل عند السلف جزءٌ من الانسان المخلوق , , ومن ثّم فإن المعرفة الناتجة عنه تبقى دون العلم الذي يقدمه الوحى , إنه علم الإنسان أمام علم الله وهي معادلة واضحة وعقلية , فهو غير معصوم من الزلل , وهو آله إدراكيّة محدودة كمحدودية الحواس , لها حدود لا تتجاوزها , يقول الشاطبي " أن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهى إليه لا تتعداه ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب ولو كانت كذلك لاستوت مع البارى تعالى في إدارك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون إذ لو كان كيف كان يكون فمعلومات الله لا تتناهى ومعلومات العبد متناهية والمتناهي لا يساوى ما لا يتناهى" 2-316

فلذلك احترم السلف العقل فلم يزجوا به فيما لا يحسنه , ولا يملك آلته , ولا يدخل في طوره , وإنما استعملوه فيما أمر الله تعالى باستعماله به , من استمداد نقصانه بما يكمّله من مشكاه النبوة , وتدبره وتفكره واعتباره في آيات الله الكاملة , التي ترشده الى ما لا يدركه , فلذلك فإن العقل السليم يقرر التسليم للنص الشرعي ويأبى المعارضة والرد لما ورد عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم 

فلذا كان من الطبيعي عند السلف أن يكون العقل تحت الوحي , تابعاً ومسترشداً ومستبصراً ومستنيراً , فالوحي هو الحاكم والموجّه وله السيادة , والعقل تابع يمارس دوره في حدود صلاحيته التي رسمها له الوحي , "فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار . وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية، كانت الأقوال، والأفعال مع عدمه : أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق كما قد يحصل للبهيمة , فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة , والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال، وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم ." ابن تيمية 

فلذلك كما يقول الشاطبي في الاعتصام " الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم - وهو الشرع ويؤخر ما حقه التأخير - وهو نظر العقل - لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل لأنه خلاف المعقول والمنقول بل ضد القضية هو الموافق للأدلة" 2-228 

ويلزم من تقديم العقل على الوحي أحد أمرين لا مناص عن أحدهما هو الطعن في الوحي , أو الطعن في علم الله تعالى , وكل واحد من القولين كفر
ولربما تحاذق متحاذق فاتهم الاسناد بأنه آحاد او قدح فيه وتعلل بأي علة يرضاها , فليس الشأن في علته , بل الشأن في عقله , اذ ان فيما قدح فيه له مثيلات فيما قُطع بثبوته , فذلك يقوده الى النزاع في دلالته ! بطرح اشكالات واعتبارات لا وجود لها الا في عقله ! " شبهات العقلانين 

هذا ونسأل الله العظيم أن يبصرنا في ديننا وان يعصمنا من مواطن الزلل , وان يغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا في الايمان وان لا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم ..