نفي > نفي الحكمة عن أفعال الله ...
مجموعة فوائد منقولة : كنت قد أوردتها لأحد الزملاء الربوبيين الجبريين في إحدى رسالاتي معه ...
وأحببت إيرادها هنا لتعميم الفائدة ولأهميتها ووقوع اللبس لدى الكثيرين في تلك المسألة للأسف ..
حيث يسيئون إلى ذات الله عز وجل فينسبون له الظلم : من حيث أرادوا تعظيمه وتنزيهه عن السؤال ..
لن أطيل عليكم ...
فتعالوا نقرأ معا ًالتفاصيل وما فيها ....
-------
أما قول القائل بنفي الحكمة عن أفعال الله كالأشاعرة والجبرية فيقول :
(ولو أن الله رب العالمين أدخل الطائعين النار، وأدخل العاصين الجنة،
ما كان ليُسأل عما يفعل، بل هم الذين يسألون، ولكان فعله عدلاً، ولكان أمره حقًّا).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
(والحديث الذي في السنن: (لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم) يُبين أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك، لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة مَن لم يذنب) اهـ
[مجموع الفتاوى 18/143-144]
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله :
(وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أَمَرَ لحكمة، ولا نَهَى لحكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة لا لحكمة ولا غاية مقصودة. وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده ؟! بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات. فهما مظهران لحمده وحكمته، فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره.
فإن الذي أثبته المنكرون من ذلك يُنَزَّه عنه الرب، ويتعالى عن نسبته إليه، فإنهم أثبتوا خلقًا وأمرًا؛ لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة، بل يجوز عندهم أو يقع أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه البتة، وينهى عما فيه مصلحته، والجميع بالنسبة إليه سواء.
ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه، وينهى عن جميع ما أمر به، ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي.
ويجوز عندهم أن يُعَذِّب من لم يعصه طرفة عين؛ بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، ويُنَعِّم من لم يطعه طرفة عين؛ بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، ولا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول، وإلا فهو جائز عليه.
وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب تعالى، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه.
والعجب العجاب أن كثيرًا من أرباب هذا المذهب ينزهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال، ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه، ولا ينزهونه عن هذا الظلم والجور، ويزعمون أنه عدل وحق، وأن التوحيد عندهم لا يتم إلا به؛ كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه؛ وعلوه فوق سماواته؛ وتكلمه وتكليمه؛ وصفات كماله؛ فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات).
[شفاء العليل 3/1058-1059]
وقال أيضا ًرحمه الله :
(الفرقة الثانية: الذين أثبتوا له الملك وعطلوا حقيقة الحمد. وهم الجبرية نفاة الحكمة والتعليل؛ القائلون بأنه يجوز عليه كل ممكن، ولا ينزه عن فعل قبيح، بل كل ممكن فإنه لا يقبح منه، وإنما القبيح المستحيل لذاته، كالجمع بين النقيضين، فيجوز عليه تعذيب ملائكته وأنبيائه ورسله وأهل طاعته، وإكرام إبليس وجنوده، وجعلهم فوق أوليائه في النعيم المقيم أبدًا، ولا سبيل لنا إلى العلم باستحالة ذلك إلا من نفى الخالق في خبره فقط. فيجوز عندهم أن يأمر بمسبته ومسبة أنبيائه، والسجود للأصنام، والكذب والفجور، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وينهى عن البر والصدق والإحسان والعفاف، ولا فرق في نفس الأمر بين ما أمر به ونهى عنه إلا التحكم بمحض المشيئة، وأنه أمر بهذا ونهى عن هذا، من غير أن يكون فيما أمر به صفة حسن تقتضي محبته والأمر به، ولا فيما نهى عنه صفة قبح تقتضي كراهته والنهي عنه).
[شفاء العليل 3/1132-1133]
وقال أيضا ًرحمه الله :
(فإن قيل: فأي لذة وأي خير ينشأ من العذاب الشديد الدائم الذي لا ينقطع ولا يفتر عن أهله؛ بل أهله فيه أبد الآباد؛ كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها؛ لا يُقضَى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم طرفة عين ؟
قيل: لعَمْر الله هذا السؤال يقلقل الجبال، فضلاً عن قلوب الرجال. وعن هذا السؤال أنكر من أنكر من المقرين حكمة العزيز الحكيم، وردَّ الأمر إلى مشيئة محضة لا سبب لها ولا غاية، وجوَّز على الله أن يعذب أهل طاعته وأولياءه وينزلهم إلى أسفل الجحيم، وينعم أعداءه المشركين به، ويرفعهم إلى أعلى جنات النعيم أبد الآباد، وأن يدخل النار من شاء بغير سبب ولا عمل أصلاً، وأن يفاوت بين أهلها مع تساويهم في الأعمال، ويسوي بينهم في العذاب مع تفاوتهم في الأعمال، وأن يعذب الرجل بذنب غيره، وأن يبطل حسناته كلها، فلا يثيبه بها أو يثيب بها غيره، كل ذلك جائز عليه، لا يعلم أنه لا يفعله إلا بخبر صادق، إذ نسبة ذلك وضده إليه على حد سواء.
وقالوا: لا مخلص عن هذا السؤال إلا بهذا الأصل، وربما تمسكوا بظاهر من القول لم يضعوه على مواضعه، ولم يجمعوا بينه وبين أدلة العدل والحكمة وتعليق الأمور بأسبابها؛ وترتيبها عليها؛ وآيات الموازنة والمقابلة، وأخطؤوا في فهم القرآن، كما أخطؤوا في وصف الرب بما لا يليق به، وفي التجويز عليه بما لا يجوز عليه).
[شفاء العليل 3/1240-1241]
وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرحة على "العقيدة السفارينية":
([192- ومستحيل الذات غير ممكن، وضده ما جاز فاسمع زكني]
هنا بدأ بالمستحيل والجائز، وينبغي أن يضاف الواجب أيضًا.
المستحيل: ما لا يمكن وجوده.
والجائز: ما يمكن وجوده وعدمه.
والواجب: ما لا يمكن عدمه.
والموجودات؛ إما من قبيل الجائز، أو من قبيل الواجب، أو من قبيل المستحيل، ولكن إلى أيِّ شيءٍ نرجع في استحالة الشيء وعدمه ؟ هل نرجع إلى عقولنا أم ماذا ؟
نرجع في هذا إلى الشرع، إلى الكتاب والسنة فيما يتعلق بالشرعيات، وإلى الواقع، وأهل الخبرة فيما يتعلق فيما سوى ذلك، وإلا لأمكن لكل واحدٍ أن يقول: "هذا مستحيل" كما قال أهل التعطيل إن الله مستحيل أن يكون له وجه، مستحيل أن يكون له يد، مستحيل أن يكون له عين، وما أشبه ذلك، لكن الكلام على الواقع، فالمستحيل غير ممكن، والواجب غير ممكنٍ عدمه، والجائز ما أمكن وجوده وعدمه، فلنضرب لهذا أمثلة:
وجود إلهٍ مع الله مستحيل لا شك.
عدم الله مستحيل.
وجود الله واجب.
وجود الآدمي جائز، لأن الله تعالى جائز أن يخلق الآدمي وجائز ألا يخلقه.
تعذيب الله -سبحانه وتعالى- للطائع هو جائز من حيث الوقوع يمكن، لكنه ممتنعٌ شرعًا وممتنع عقلاً من وجهٍ آخر، ممتنعٌ شرعًا لأن الله تعالى أخبر أنه لا يظلم أحدًا، وتعذيب الطائع ظلم، قال الله تعالى : ((وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا))، إذن مستحيل شرعًا، وهو مستحيل عقلاً بالنسبة لله -عز وجل-؛ لأن الله منزهٌ عن الظلم لذاته.
فإن قال قائل: إنه جاء في الحديث: (إن الله لو عذَّب أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم)، وجاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله) قالوا: ولا أنت ؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ؟
قلنا: لا إشكال !
فأما الأول: فمعناه: أن الله لو عذَّب أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهم مستحقون للعذاب، وهو غير ظالم.
ومتى يستحقون ؟ إذا خالفوا في ترك الطاعة أو فعل المعصية.
وأما الثاني: فالباء في قوله (بعمله) للمعاوضة، يعني لو رجعنا للتعويض ما دخل أحدٌ الجنة، لأن الإنسان لو حوسب على أدنى نعمةٍ من الله لهلك، لكن برحمة الله تعالى) اهـ
وسُئل الشيخ الإمام أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله قبيل وفاته بعدة أشهر في شريط "لقاء منتديات مصر السلفية مع الشيخ أحمد النجمي" أو بعنوان "أسئلة أهل مصر" على موقع الشيخ رحمه الله :
ما حكم من يقول:
لو عذَّب الله أهل طاعته ونعَّم أهل معصيته لكان هذا هو عين الحكمة منه ؟
فأجاب رحمه الله :
(الله -سبحانه وتعالى- وعد المطيعين بالنجاة، وبالجنة؛ بالفوز فيها، والنعيم فيها، ووعد العصاة الكفار المنافقون الزائغون الذين هم يَعبدون غيره؛ يعني هل يصحّ في العقل .. هل يصحّ في العقل هذا الكلام ؟! قبل أن نقرأ كتاب الله لو كنا ما قرأنا كتاب الله ولا آمنا به، هل يصحّ في العقل هذا الكلام ؟! هذا لا يقوله إلا زنديق، الذي يقول هذا زنديق، ((مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا))، ((وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى))، فهذا الكلام كلام زندقة، هذا صاحبه زنديق الذي يقول هذا الكلام، كيف يُعقل أنَّ الله يُنَعِّم أهل .. يعني يجزي بالنعيم والنجاة والفوز من عصاه؛ ويعذب من أطاعه ؟! هذا شيء أحد يتصوره وفي نفسه عقل .. فيه عقل، في رأسه عقل، لا والله ! نعم) اهـ
وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي حفظه الله عند شرحه لقول البربهاري التالي في "شرح السنة" -وهو موجود بالصوت على موقعه الرسمي على الإنترنت-:
(ولو عذب الله أهل السماوات وأهل الأراضين بَرهم وفاجرهم عذبهم غير ظالم لهم، لا يجوز أن يقال لله تبارك وتعالى: إنه ظالم، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، الخلق خلقه والدار داره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يقال: لِمَ وكيف، لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه).
نعم، يقول المؤلف:
(لو عذب الله أهل سماواته وأهل الأراضين برهم وفاجرهم عذبهم غير ظالم لهم)، هذا مأخوذ من حديث: (لو عذَّب الله أهل السماوات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم). المعنى: أن الله لو وضع عدله في أهل سماواته وأهل أرضه وحاسبهم على أعمالهم وعلى نعمه عليهم؛ لصاروا مدينين له، وحينئذ لو عذبهم لعذبهم غير ظالم لهم، لو يحاسب الإنسان بنعم الله عليه وعمله يكون مدينًا؛ وحينئذ يُعَذَّب، لأن نعمة البصر قد تعدل بأيش ؟ تعدل بعمله كله، فينتهي العمل؛ فيُعَذَّب، لو وضع الله عدله على أهل سماواته فحاسبهم بأعمالهم وبنعمه عليهم لصاروا مدينين له، ولصارت أيش ؟ الأعمال لا تقابِل النعم، وحينئذ لو عذبهم -في هذه الحالة- لعذبهم غير ظالم لهم، لكنه سبحانه لا يفعل ذلك، فلا يحاسبهم بأعمالهم وبنعمه عليهم [...].
(لا يجوز أن يقال لله تبارك وتعالى: إنه ظالم)، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، والله تعالى حرَّم الظلم على نفسه، لم يحرمه عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد، كما أنه كتب على نفسه الرحمة، كتب على نفسه من نفسه الرحمة، لم يكتبها عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد -سبحانه وتعالى-، وحرَّم الظلم من نفسه على نفسه، ليس فوقه أحد يحرمه عليه.
في الحديث القدسي حديث أبي ذر يقول الله تعالى: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي؛ وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا) والظلم يقدر عليه الله، لكنه تنزه عنه، الشيء الذي لا يقدر عليه الله لا يقال: إنه حرمه على نفسه، إنما يحرم شيئًا يقدر عليه، واضح هذا ؟ ولهذا قال الله تعالى: ((لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ))، ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا))، لو كان الظلم غير مقدور عليه لما أُمّن الإنسان من خوف الظلم.
وأما الجبرية من الأشاعرة والجهمية قالوا:
إن الظلم هو الممتنع أو المستحيل الذي لا يدخل تحت قدرة الله، كالجمع بين النقيضين، وقالوا: الظلم غير مقدور لله عندهم، ما يقدر عليه الله، ممتنع، وقالوا: الظلم هو تصرف المالك في غير ملكه، أو مخالفة الآمر للمأمور، والله تعالى كل شيء ملكه، فهو يتصرف في ملكه، فلو عذَّب أهل السماوات وأهل الأراضين لكان غير ظالم؛ لأنه تصرف في ملكه فلا يكون ظلمًا، واضح هذا ؟ وهل هناك شيء خارج عن ملك الله ؟! ما فيه، إذًا أين يكون الظلم ؟ ما فيه ظلم .. مستحيل.
الظلم: هو أن يتصرف المالك في غير ملكه، وهل هناك شيء خارج عن ملك الله ؟ إذًا لو فعل أي شيء لا يكون ظلمًا، هكذا يقول من ؟ الأشاعرة والجهمية، يقولون: إن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، وعلى هذا فأجازوا على الله قالوا: يجوز لله أن يقلب التشريعات والجزاءات، ويجعل العفة محرمة والزنا واجبًا -والعياذ بالله!-، ويجوز على الله أن يُحَمِّل الأبرار والأنبياء أوزار الفجار والكفار، ويعذبهم ولا يكون ظالَمًا لهم؛ لأنه يتصرف في ملكه، وهذا من أبطل الباطل.
الله تعالى حرَّم الظلم على نفسه، وهو قادر على الظلم، لو كان لم يكن قادرًا على الظلم؛ ما الفائدة من التحريم ؟ يُحَرِّم شيئًا وهو لا يقدر عليه ؟! ولو كان الظلم غير مقدور عليه لما قال الله: ((لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ)) ولا قال: ((فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)) الشيء الذي لا يُقدَر عليه هل يؤمّن منه الإنسان ؟ هل يخاف الإنسان الشيء الذي لا يقدر عليه ؟ لا يخافه، فلما قال الله ((فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)) دل على أنه قادر عليه، فحرم الظلم على نفسه تنزهًا منه وهو قادر عليه، فدل على بطلان قول أيش ؟ الأشاعرة والجهمية أن الظلم: تصرف المالك في غير ملكه.
والصواب: أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كأن يمنع أحدًا من حقه، أو يُحَمِّله وزر غيره، هذا هو الظلم، هذا مؤكد، فالله لا يظلم أحدًا، فلا يحمل أحدًا وزر غيره، ولا يمنعه ثواب أعماله.
(... لا يجوز أن يقال لله تبارك وتعالى: إنه ظالم، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، الخلق خلقه والدار داره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يقال: لِمَ وكيف، لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه).
هل هذا يتمشى مع مذهب الجبرية وإلا مع مذهب أهل السنة ؟
(وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له) هذا يتمشى مع مذهب الجبرية ! إذًا الصواب: أنَّ الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، هذا يتمشى مع مذهب الجبرية القائلين بأن الظلم: تصرف المالك في غير ملكه، والصواب الذي عليه أهل السنة؛ أن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وأن الله تعالى لا يظلم لكمال عدله، لا لعجزه، وقد حرَّم على نفسه الظلم، كما في الحديث: (إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرمًا).
وقوله: (لا يُسأل عما يفعل): لا يُسأل عما يفعل لكمال عدله، لكونه حكيم، ولكونه عادل، والجبرية يقولون: لا يُسأل عما يفعل لكونه يتصرف بالقدرة والمشيئة، ينكرون الحِكَم.
وكان ينبغي على المؤلف أن يُقَرِّر مذهب أهل السنة والجماعة ويقول: وإنما يظلم من يضع الشيء في غير موضعه، كأن يُحَمِّل أحدًا وزر غيره، أو يمنعه من حقه، أما قوله: (مَن يأخذ ما ليس له) هذا يتمشى مع مذهب الجبرية القائلين بأن الظلم ... هو تصرف المالك في غير ملكه، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، والخلق خلقه والدار داره، فإذا تصرف فيما يشاء فلا يكون ظلمًا، هذا يتمشى مع مذهب الجبرية (لا يُسأل عما يفعل)، لماذا ؟ لأنه تصرف في ملكه، وأهل السنة يقولون: لا يسأل عمَّا يَفعل لكمال حكمته، ولكمال عدله، وهم يُسألون.
(ولا يقال: لِمَ وكيف): لا يقال: "لِمَ" في أفعال الله، لا يُعترض على الله، فلا يقال: لِمَ فعل كذا ؟ ولا يقال: كيف صفته ؟ كيف استواؤه ؟ لا يتوجه السؤال إلى الله بـ "لِمَ" ولا "كيف"، "لِمَ" في الأفعال، و"كيف" في الصفات.
(لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه) ليش لا يُسأل .. "لِمَ" ؟ لأنه حكيم، يضع الأشياء في مواضعها، لا لأنه يفعل بالقدرة والمشيئة فقط، نعم، فلا بد لطالب العلم أن يفرق بين مذهب أهل السنة في الظلم وبين مذهب الجبرية، نعم.) اهـ
وقال -حفظه الله- معلقًا على حديث:
(لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم).
قال: (والمعنى: إن الله -تعالى- لو وضع عدله بين عباده لحاسبهم حينئذ بنعمه عليهم وعملهم، وحينئذ يكونون مدينين، فلو عذبهم لعذبهم غير ظالم لهم؛ لأن العمل ما يقابل النعم، لكنه -سبحانه- لا يضع عدله، (لو عذبهم) يعني: لو وضع عدله فيهم؛ لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لكنه -سبحانه وتعالى- يتفضل عليهم، نعم.) اهـ
[من تعليقه على كتاب "التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية" للشيخ عبد العزيز الرشيد -رحمه الله-]
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرحه على "الطحاوية":
(... والحديث الثاني وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داوود وغيره وصحَّحَهُ بعض العلماء؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم) الحديث.
يعني أنَّ أهل السموات والأرض لو عَذَّبَهُمْ الله - عز وجل - لعذبهم وهو غير ظالمٍ لهم.
المعتزلة يَرُدُّون هذه الأحاديث أصلاً، والأشاعرة يُجَوِّزُونَ أن يُعَذِّبَ الله -عز وجل- الناس من غير سبب؛ لأنهم لا حكمة عندهم ولا تعليل لأفعال الله، يفعل ما يشاء بدون علة وبدون سبب، ومنها أَخَذَ صاحب السَّفَارينية في قوله في منظومته، السَّفاريني:
وجَازَ للمولى يعذب الورى من غير ما ذنبٍ ولا جُرْمٍ جرى
يقول (جائز أن يُعَذِّبَ الورى) يعني الله -عز وجل- من غير ما ذنب ولا جرم جرى.
هذا الحديث أهل السنة لا يُفَسِّرُونه بهذا ولا بهذا؛ يل يفسرونه بعِظَمِ معرفتهم لربهم - جل جلاله - وخشيتهم له ومعرفتهم بحقوقه، فيقول أئمة أهل السنة:
بأنَّ أهل السموات وأهل الأرض إنَّمَا قاموا برحمة الله -عز وجل-، فما فيهم حركة ولا حياة ولا شأن إلا وفي كلٍّ منها فضل من الله -عز وجل-؛ ورحمة ونعمة أفاضها عليهم؛ بها قامت حياتهم وبها استقاموا، كما قال -عز وجل- ((وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ))، فمِنْ حَقِّهِ -عز وجل- على هذا العبد المكلف الذي لا ترمش عينه إلا بنعمة، ولا يأكل إلا بنعمة، ولا يتنفس إلا بنعمة، ولا يتعلم إلا بنعمة، ولا يخطو خطوة إلا بنعمة، ولا ينظر إلا بنعمة، ولا يسمع إلا بنعمة، ولا يتكلم إلا بنعمة، ولا يفرح إلا بنعمة، إلى آخر نِعم الله -عز وجل- التي لا تُحْصَى ولا تُعَد، من حقه -عز وجل- أن يُقَابَلَ مع كل نعمة بشكر يقابل تلك النعمة.
فإذًا سيمضي حياته في شكر الله -عز وجل- على الصغير والكبير، فهل تسع حياة المكلفين ذلك ؟ لا تسع ذلك.
ولهذا تأمل مع هذا قول الله -عز وجل- لنبيه ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)).
وتأمَّلْ قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما قام حتى ورمت قدماه -صلى الله عليه وسلم- (أفلا أكون عبدًا شكورًا) ولن يَبْلُغْ جميعَ ما يَسْتَحِقْ الله -عز وجل- من الشكر بالعمل؛ بل لابد من الاستغفار والإنابة حتى يكْمُلَ شكر العبد لربه -عز وجل-.
وتأمل أيضًا ما عَلَّمَهُ -صلى الله عليه وسلم- الصدِّيق الذي هو أفضل هذه الأمة أن يقول في آخر صلاته: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك) كيف عَبَّرَ هنا بالظلم (ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا) لِمَ ؟
هل ظلم أبو بكر بارتكاب الكبائر ؟ حاشا وكلا.
هل ظَلَمَ بِظُلْمِ العباد ؟ حاشا وكلا.
هل ظلم أبو بكر -رضي الله عنه- بالتقصير في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الاستجابة لله ولرسوله الظلم الكثير ؟ حاشا وكلا.
ولكن ينظر العبد إلى ما يُفَاضُ عليه من النِّعَمِ في كل لحظة، فيشعر بأنه مُقَصِّرْ، والله -عز وجل- وصف القليل من الإعراض في حق العبد بأنه من الظلم، ووَصَفَ الكثير بأنه من الظلم، فلهذا يشعر المؤمن بأنَّهُ ظلم نفسه ظلمًا كثيرًا؛ لأنه لا يمكن أن يشكر حقيقة الشكر.
فلو حاسَبْ الله -عز وجل- العباد، حاسب أهل السموات وأهل الأرض على حقيقة شكر ما أنعم الله به عليهم، وأعظم ذلك أن جعلهم مُتَّصِلِينَ منه بسبب، ومرفوعين إليه -عز وجل-، وأنهم من المنيبين، وأنهم من المهتدين، لما قامت حيلة العبد، ولما قام إيمانه، ولما قام له شيء؛ ولكن ما ثَمَّ إلا رحمة الله -عز وجل- (لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة) قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلاً).
فإذًا ننظر إلى قوله (لو عذَّب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبه وهو غير ظالم لهم) لأنَّ الشكر لن يكون في تمامه، فإذًا هم لن يُعْدَمُوا؛ بل لن يكونوا إلا مُقَصِّرِين، لن يكونوا إلا لم يُوَفُّوا مقام الشكر حقه.
بل حتى التوبة والإنابة إذا العبد كَمَّلَ الشكر بتوبته وإنابته دائمًا واستغفاره؛ فإن قَبُول التوبة وحصول المغفرة وقبول الإنابة من العبد أليست هذه نعمة تستحق شكرًا مجددًا ؟
فإذًا؛ لو عَذَّبَ الله أهل سمواته وأهل أرضه لَعَذَّبَهُم وهو غير ظالم لهم، فلا يبرح العبد أن يرى نعمة الله -عز وجل- تُفِيْضَ عليه في أمر دينه وفي أمر دنياه، وليس ثَمَّ أمامه سبيل إلا أن يشعر بالتقصير...
هذا تفسير الظلم عند الطوائف المشهورة: القدرية وهم المعتزلة والجبرية وهم أصناف والمتكلمين وقول أهل السنة فيما بين هؤلاء وهؤلاء) اهـ
مجموعة فوائد منقولة : كنت قد أوردتها لأحد الزملاء الربوبيين الجبريين في إحدى رسالاتي معه ...
وأحببت إيرادها هنا لتعميم الفائدة ولأهميتها ووقوع اللبس لدى الكثيرين في تلك المسألة للأسف ..
حيث يسيئون إلى ذات الله عز وجل فينسبون له الظلم : من حيث أرادوا تعظيمه وتنزيهه عن السؤال ..
لن أطيل عليكم ...
فتعالوا نقرأ معا ًالتفاصيل وما فيها ....
-------
أما قول القائل بنفي الحكمة عن أفعال الله كالأشاعرة والجبرية فيقول :
(ولو أن الله رب العالمين أدخل الطائعين النار، وأدخل العاصين الجنة،
ما كان ليُسأل عما يفعل، بل هم الذين يسألون، ولكان فعله عدلاً، ولكان أمره حقًّا).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
(والحديث الذي في السنن: (لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم) يُبين أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك، لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة مَن لم يذنب) اهـ
[مجموع الفتاوى 18/143-144]
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله :
(وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أَمَرَ لحكمة، ولا نَهَى لحكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة لا لحكمة ولا غاية مقصودة. وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده ؟! بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات. فهما مظهران لحمده وحكمته، فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره.
فإن الذي أثبته المنكرون من ذلك يُنَزَّه عنه الرب، ويتعالى عن نسبته إليه، فإنهم أثبتوا خلقًا وأمرًا؛ لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة، بل يجوز عندهم أو يقع أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه البتة، وينهى عما فيه مصلحته، والجميع بالنسبة إليه سواء.
ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه، وينهى عن جميع ما أمر به، ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي.
ويجوز عندهم أن يُعَذِّب من لم يعصه طرفة عين؛ بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، ويُنَعِّم من لم يطعه طرفة عين؛ بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، ولا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول، وإلا فهو جائز عليه.
وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب تعالى، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه.
والعجب العجاب أن كثيرًا من أرباب هذا المذهب ينزهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال، ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه، ولا ينزهونه عن هذا الظلم والجور، ويزعمون أنه عدل وحق، وأن التوحيد عندهم لا يتم إلا به؛ كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه؛ وعلوه فوق سماواته؛ وتكلمه وتكليمه؛ وصفات كماله؛ فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات).
[شفاء العليل 3/1058-1059]
وقال أيضا ًرحمه الله :
(الفرقة الثانية: الذين أثبتوا له الملك وعطلوا حقيقة الحمد. وهم الجبرية نفاة الحكمة والتعليل؛ القائلون بأنه يجوز عليه كل ممكن، ولا ينزه عن فعل قبيح، بل كل ممكن فإنه لا يقبح منه، وإنما القبيح المستحيل لذاته، كالجمع بين النقيضين، فيجوز عليه تعذيب ملائكته وأنبيائه ورسله وأهل طاعته، وإكرام إبليس وجنوده، وجعلهم فوق أوليائه في النعيم المقيم أبدًا، ولا سبيل لنا إلى العلم باستحالة ذلك إلا من نفى الخالق في خبره فقط. فيجوز عندهم أن يأمر بمسبته ومسبة أنبيائه، والسجود للأصنام، والكذب والفجور، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وينهى عن البر والصدق والإحسان والعفاف، ولا فرق في نفس الأمر بين ما أمر به ونهى عنه إلا التحكم بمحض المشيئة، وأنه أمر بهذا ونهى عن هذا، من غير أن يكون فيما أمر به صفة حسن تقتضي محبته والأمر به، ولا فيما نهى عنه صفة قبح تقتضي كراهته والنهي عنه).
[شفاء العليل 3/1132-1133]
وقال أيضا ًرحمه الله :
(فإن قيل: فأي لذة وأي خير ينشأ من العذاب الشديد الدائم الذي لا ينقطع ولا يفتر عن أهله؛ بل أهله فيه أبد الآباد؛ كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها؛ لا يُقضَى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم طرفة عين ؟
قيل: لعَمْر الله هذا السؤال يقلقل الجبال، فضلاً عن قلوب الرجال. وعن هذا السؤال أنكر من أنكر من المقرين حكمة العزيز الحكيم، وردَّ الأمر إلى مشيئة محضة لا سبب لها ولا غاية، وجوَّز على الله أن يعذب أهل طاعته وأولياءه وينزلهم إلى أسفل الجحيم، وينعم أعداءه المشركين به، ويرفعهم إلى أعلى جنات النعيم أبد الآباد، وأن يدخل النار من شاء بغير سبب ولا عمل أصلاً، وأن يفاوت بين أهلها مع تساويهم في الأعمال، ويسوي بينهم في العذاب مع تفاوتهم في الأعمال، وأن يعذب الرجل بذنب غيره، وأن يبطل حسناته كلها، فلا يثيبه بها أو يثيب بها غيره، كل ذلك جائز عليه، لا يعلم أنه لا يفعله إلا بخبر صادق، إذ نسبة ذلك وضده إليه على حد سواء.
وقالوا: لا مخلص عن هذا السؤال إلا بهذا الأصل، وربما تمسكوا بظاهر من القول لم يضعوه على مواضعه، ولم يجمعوا بينه وبين أدلة العدل والحكمة وتعليق الأمور بأسبابها؛ وترتيبها عليها؛ وآيات الموازنة والمقابلة، وأخطؤوا في فهم القرآن، كما أخطؤوا في وصف الرب بما لا يليق به، وفي التجويز عليه بما لا يجوز عليه).
[شفاء العليل 3/1240-1241]
وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرحة على "العقيدة السفارينية":
([192- ومستحيل الذات غير ممكن، وضده ما جاز فاسمع زكني]
هنا بدأ بالمستحيل والجائز، وينبغي أن يضاف الواجب أيضًا.
المستحيل: ما لا يمكن وجوده.
والجائز: ما يمكن وجوده وعدمه.
والواجب: ما لا يمكن عدمه.
والموجودات؛ إما من قبيل الجائز، أو من قبيل الواجب، أو من قبيل المستحيل، ولكن إلى أيِّ شيءٍ نرجع في استحالة الشيء وعدمه ؟ هل نرجع إلى عقولنا أم ماذا ؟
نرجع في هذا إلى الشرع، إلى الكتاب والسنة فيما يتعلق بالشرعيات، وإلى الواقع، وأهل الخبرة فيما يتعلق فيما سوى ذلك، وإلا لأمكن لكل واحدٍ أن يقول: "هذا مستحيل" كما قال أهل التعطيل إن الله مستحيل أن يكون له وجه، مستحيل أن يكون له يد، مستحيل أن يكون له عين، وما أشبه ذلك، لكن الكلام على الواقع، فالمستحيل غير ممكن، والواجب غير ممكنٍ عدمه، والجائز ما أمكن وجوده وعدمه، فلنضرب لهذا أمثلة:
وجود إلهٍ مع الله مستحيل لا شك.
عدم الله مستحيل.
وجود الله واجب.
وجود الآدمي جائز، لأن الله تعالى جائز أن يخلق الآدمي وجائز ألا يخلقه.
تعذيب الله -سبحانه وتعالى- للطائع هو جائز من حيث الوقوع يمكن، لكنه ممتنعٌ شرعًا وممتنع عقلاً من وجهٍ آخر، ممتنعٌ شرعًا لأن الله تعالى أخبر أنه لا يظلم أحدًا، وتعذيب الطائع ظلم، قال الله تعالى : ((وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا))، إذن مستحيل شرعًا، وهو مستحيل عقلاً بالنسبة لله -عز وجل-؛ لأن الله منزهٌ عن الظلم لذاته.
فإن قال قائل: إنه جاء في الحديث: (إن الله لو عذَّب أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم)، وجاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله) قالوا: ولا أنت ؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ؟
قلنا: لا إشكال !
فأما الأول: فمعناه: أن الله لو عذَّب أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهم مستحقون للعذاب، وهو غير ظالم.
ومتى يستحقون ؟ إذا خالفوا في ترك الطاعة أو فعل المعصية.
وأما الثاني: فالباء في قوله (بعمله) للمعاوضة، يعني لو رجعنا للتعويض ما دخل أحدٌ الجنة، لأن الإنسان لو حوسب على أدنى نعمةٍ من الله لهلك، لكن برحمة الله تعالى) اهـ
وسُئل الشيخ الإمام أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله قبيل وفاته بعدة أشهر في شريط "لقاء منتديات مصر السلفية مع الشيخ أحمد النجمي" أو بعنوان "أسئلة أهل مصر" على موقع الشيخ رحمه الله :
ما حكم من يقول:
لو عذَّب الله أهل طاعته ونعَّم أهل معصيته لكان هذا هو عين الحكمة منه ؟
فأجاب رحمه الله :
(الله -سبحانه وتعالى- وعد المطيعين بالنجاة، وبالجنة؛ بالفوز فيها، والنعيم فيها، ووعد العصاة الكفار المنافقون الزائغون الذين هم يَعبدون غيره؛ يعني هل يصحّ في العقل .. هل يصحّ في العقل هذا الكلام ؟! قبل أن نقرأ كتاب الله لو كنا ما قرأنا كتاب الله ولا آمنا به، هل يصحّ في العقل هذا الكلام ؟! هذا لا يقوله إلا زنديق، الذي يقول هذا زنديق، ((مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا))، ((وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى))، فهذا الكلام كلام زندقة، هذا صاحبه زنديق الذي يقول هذا الكلام، كيف يُعقل أنَّ الله يُنَعِّم أهل .. يعني يجزي بالنعيم والنجاة والفوز من عصاه؛ ويعذب من أطاعه ؟! هذا شيء أحد يتصوره وفي نفسه عقل .. فيه عقل، في رأسه عقل، لا والله ! نعم) اهـ
وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي حفظه الله عند شرحه لقول البربهاري التالي في "شرح السنة" -وهو موجود بالصوت على موقعه الرسمي على الإنترنت-:
(ولو عذب الله أهل السماوات وأهل الأراضين بَرهم وفاجرهم عذبهم غير ظالم لهم، لا يجوز أن يقال لله تبارك وتعالى: إنه ظالم، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، الخلق خلقه والدار داره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يقال: لِمَ وكيف، لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه).
نعم، يقول المؤلف:
(لو عذب الله أهل سماواته وأهل الأراضين برهم وفاجرهم عذبهم غير ظالم لهم)، هذا مأخوذ من حديث: (لو عذَّب الله أهل السماوات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم). المعنى: أن الله لو وضع عدله في أهل سماواته وأهل أرضه وحاسبهم على أعمالهم وعلى نعمه عليهم؛ لصاروا مدينين له، وحينئذ لو عذبهم لعذبهم غير ظالم لهم، لو يحاسب الإنسان بنعم الله عليه وعمله يكون مدينًا؛ وحينئذ يُعَذَّب، لأن نعمة البصر قد تعدل بأيش ؟ تعدل بعمله كله، فينتهي العمل؛ فيُعَذَّب، لو وضع الله عدله على أهل سماواته فحاسبهم بأعمالهم وبنعمه عليهم لصاروا مدينين له، ولصارت أيش ؟ الأعمال لا تقابِل النعم، وحينئذ لو عذبهم -في هذه الحالة- لعذبهم غير ظالم لهم، لكنه سبحانه لا يفعل ذلك، فلا يحاسبهم بأعمالهم وبنعمه عليهم [...].
(لا يجوز أن يقال لله تبارك وتعالى: إنه ظالم)، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، والله تعالى حرَّم الظلم على نفسه، لم يحرمه عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد، كما أنه كتب على نفسه الرحمة، كتب على نفسه من نفسه الرحمة، لم يكتبها عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد -سبحانه وتعالى-، وحرَّم الظلم من نفسه على نفسه، ليس فوقه أحد يحرمه عليه.
في الحديث القدسي حديث أبي ذر يقول الله تعالى: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي؛ وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا) والظلم يقدر عليه الله، لكنه تنزه عنه، الشيء الذي لا يقدر عليه الله لا يقال: إنه حرمه على نفسه، إنما يحرم شيئًا يقدر عليه، واضح هذا ؟ ولهذا قال الله تعالى: ((لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ))، ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا))، لو كان الظلم غير مقدور عليه لما أُمّن الإنسان من خوف الظلم.
وأما الجبرية من الأشاعرة والجهمية قالوا:
إن الظلم هو الممتنع أو المستحيل الذي لا يدخل تحت قدرة الله، كالجمع بين النقيضين، وقالوا: الظلم غير مقدور لله عندهم، ما يقدر عليه الله، ممتنع، وقالوا: الظلم هو تصرف المالك في غير ملكه، أو مخالفة الآمر للمأمور، والله تعالى كل شيء ملكه، فهو يتصرف في ملكه، فلو عذَّب أهل السماوات وأهل الأراضين لكان غير ظالم؛ لأنه تصرف في ملكه فلا يكون ظلمًا، واضح هذا ؟ وهل هناك شيء خارج عن ملك الله ؟! ما فيه، إذًا أين يكون الظلم ؟ ما فيه ظلم .. مستحيل.
الظلم: هو أن يتصرف المالك في غير ملكه، وهل هناك شيء خارج عن ملك الله ؟ إذًا لو فعل أي شيء لا يكون ظلمًا، هكذا يقول من ؟ الأشاعرة والجهمية، يقولون: إن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، وعلى هذا فأجازوا على الله قالوا: يجوز لله أن يقلب التشريعات والجزاءات، ويجعل العفة محرمة والزنا واجبًا -والعياذ بالله!-، ويجوز على الله أن يُحَمِّل الأبرار والأنبياء أوزار الفجار والكفار، ويعذبهم ولا يكون ظالَمًا لهم؛ لأنه يتصرف في ملكه، وهذا من أبطل الباطل.
الله تعالى حرَّم الظلم على نفسه، وهو قادر على الظلم، لو كان لم يكن قادرًا على الظلم؛ ما الفائدة من التحريم ؟ يُحَرِّم شيئًا وهو لا يقدر عليه ؟! ولو كان الظلم غير مقدور عليه لما قال الله: ((لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ)) ولا قال: ((فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)) الشيء الذي لا يُقدَر عليه هل يؤمّن منه الإنسان ؟ هل يخاف الإنسان الشيء الذي لا يقدر عليه ؟ لا يخافه، فلما قال الله ((فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)) دل على أنه قادر عليه، فحرم الظلم على نفسه تنزهًا منه وهو قادر عليه، فدل على بطلان قول أيش ؟ الأشاعرة والجهمية أن الظلم: تصرف المالك في غير ملكه.
والصواب: أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كأن يمنع أحدًا من حقه، أو يُحَمِّله وزر غيره، هذا هو الظلم، هذا مؤكد، فالله لا يظلم أحدًا، فلا يحمل أحدًا وزر غيره، ولا يمنعه ثواب أعماله.
(... لا يجوز أن يقال لله تبارك وتعالى: إنه ظالم، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، الخلق خلقه والدار داره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يقال: لِمَ وكيف، لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه).
هل هذا يتمشى مع مذهب الجبرية وإلا مع مذهب أهل السنة ؟
(وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له) هذا يتمشى مع مذهب الجبرية ! إذًا الصواب: أنَّ الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، هذا يتمشى مع مذهب الجبرية القائلين بأن الظلم: تصرف المالك في غير ملكه، والصواب الذي عليه أهل السنة؛ أن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وأن الله تعالى لا يظلم لكمال عدله، لا لعجزه، وقد حرَّم على نفسه الظلم، كما في الحديث: (إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرمًا).
وقوله: (لا يُسأل عما يفعل): لا يُسأل عما يفعل لكمال عدله، لكونه حكيم، ولكونه عادل، والجبرية يقولون: لا يُسأل عما يفعل لكونه يتصرف بالقدرة والمشيئة، ينكرون الحِكَم.
وكان ينبغي على المؤلف أن يُقَرِّر مذهب أهل السنة والجماعة ويقول: وإنما يظلم من يضع الشيء في غير موضعه، كأن يُحَمِّل أحدًا وزر غيره، أو يمنعه من حقه، أما قوله: (مَن يأخذ ما ليس له) هذا يتمشى مع مذهب الجبرية القائلين بأن الظلم ... هو تصرف المالك في غير ملكه، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، والخلق خلقه والدار داره، فإذا تصرف فيما يشاء فلا يكون ظلمًا، هذا يتمشى مع مذهب الجبرية (لا يُسأل عما يفعل)، لماذا ؟ لأنه تصرف في ملكه، وأهل السنة يقولون: لا يسأل عمَّا يَفعل لكمال حكمته، ولكمال عدله، وهم يُسألون.
(ولا يقال: لِمَ وكيف): لا يقال: "لِمَ" في أفعال الله، لا يُعترض على الله، فلا يقال: لِمَ فعل كذا ؟ ولا يقال: كيف صفته ؟ كيف استواؤه ؟ لا يتوجه السؤال إلى الله بـ "لِمَ" ولا "كيف"، "لِمَ" في الأفعال، و"كيف" في الصفات.
(لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه) ليش لا يُسأل .. "لِمَ" ؟ لأنه حكيم، يضع الأشياء في مواضعها، لا لأنه يفعل بالقدرة والمشيئة فقط، نعم، فلا بد لطالب العلم أن يفرق بين مذهب أهل السنة في الظلم وبين مذهب الجبرية، نعم.) اهـ
وقال -حفظه الله- معلقًا على حديث:
(لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم).
قال: (والمعنى: إن الله -تعالى- لو وضع عدله بين عباده لحاسبهم حينئذ بنعمه عليهم وعملهم، وحينئذ يكونون مدينين، فلو عذبهم لعذبهم غير ظالم لهم؛ لأن العمل ما يقابل النعم، لكنه -سبحانه- لا يضع عدله، (لو عذبهم) يعني: لو وضع عدله فيهم؛ لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لكنه -سبحانه وتعالى- يتفضل عليهم، نعم.) اهـ
[من تعليقه على كتاب "التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية" للشيخ عبد العزيز الرشيد -رحمه الله-]
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرحه على "الطحاوية":
(... والحديث الثاني وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داوود وغيره وصحَّحَهُ بعض العلماء؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم) الحديث.
يعني أنَّ أهل السموات والأرض لو عَذَّبَهُمْ الله - عز وجل - لعذبهم وهو غير ظالمٍ لهم.
المعتزلة يَرُدُّون هذه الأحاديث أصلاً، والأشاعرة يُجَوِّزُونَ أن يُعَذِّبَ الله -عز وجل- الناس من غير سبب؛ لأنهم لا حكمة عندهم ولا تعليل لأفعال الله، يفعل ما يشاء بدون علة وبدون سبب، ومنها أَخَذَ صاحب السَّفَارينية في قوله في منظومته، السَّفاريني:
وجَازَ للمولى يعذب الورى من غير ما ذنبٍ ولا جُرْمٍ جرى
يقول (جائز أن يُعَذِّبَ الورى) يعني الله -عز وجل- من غير ما ذنب ولا جرم جرى.
هذا الحديث أهل السنة لا يُفَسِّرُونه بهذا ولا بهذا؛ يل يفسرونه بعِظَمِ معرفتهم لربهم - جل جلاله - وخشيتهم له ومعرفتهم بحقوقه، فيقول أئمة أهل السنة:
بأنَّ أهل السموات وأهل الأرض إنَّمَا قاموا برحمة الله -عز وجل-، فما فيهم حركة ولا حياة ولا شأن إلا وفي كلٍّ منها فضل من الله -عز وجل-؛ ورحمة ونعمة أفاضها عليهم؛ بها قامت حياتهم وبها استقاموا، كما قال -عز وجل- ((وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ))، فمِنْ حَقِّهِ -عز وجل- على هذا العبد المكلف الذي لا ترمش عينه إلا بنعمة، ولا يأكل إلا بنعمة، ولا يتنفس إلا بنعمة، ولا يتعلم إلا بنعمة، ولا يخطو خطوة إلا بنعمة، ولا ينظر إلا بنعمة، ولا يسمع إلا بنعمة، ولا يتكلم إلا بنعمة، ولا يفرح إلا بنعمة، إلى آخر نِعم الله -عز وجل- التي لا تُحْصَى ولا تُعَد، من حقه -عز وجل- أن يُقَابَلَ مع كل نعمة بشكر يقابل تلك النعمة.
فإذًا سيمضي حياته في شكر الله -عز وجل- على الصغير والكبير، فهل تسع حياة المكلفين ذلك ؟ لا تسع ذلك.
ولهذا تأمل مع هذا قول الله -عز وجل- لنبيه ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)).
وتأمَّلْ قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما قام حتى ورمت قدماه -صلى الله عليه وسلم- (أفلا أكون عبدًا شكورًا) ولن يَبْلُغْ جميعَ ما يَسْتَحِقْ الله -عز وجل- من الشكر بالعمل؛ بل لابد من الاستغفار والإنابة حتى يكْمُلَ شكر العبد لربه -عز وجل-.
وتأمل أيضًا ما عَلَّمَهُ -صلى الله عليه وسلم- الصدِّيق الذي هو أفضل هذه الأمة أن يقول في آخر صلاته: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك) كيف عَبَّرَ هنا بالظلم (ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا) لِمَ ؟
هل ظلم أبو بكر بارتكاب الكبائر ؟ حاشا وكلا.
هل ظَلَمَ بِظُلْمِ العباد ؟ حاشا وكلا.
هل ظلم أبو بكر -رضي الله عنه- بالتقصير في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الاستجابة لله ولرسوله الظلم الكثير ؟ حاشا وكلا.
ولكن ينظر العبد إلى ما يُفَاضُ عليه من النِّعَمِ في كل لحظة، فيشعر بأنه مُقَصِّرْ، والله -عز وجل- وصف القليل من الإعراض في حق العبد بأنه من الظلم، ووَصَفَ الكثير بأنه من الظلم، فلهذا يشعر المؤمن بأنَّهُ ظلم نفسه ظلمًا كثيرًا؛ لأنه لا يمكن أن يشكر حقيقة الشكر.
فلو حاسَبْ الله -عز وجل- العباد، حاسب أهل السموات وأهل الأرض على حقيقة شكر ما أنعم الله به عليهم، وأعظم ذلك أن جعلهم مُتَّصِلِينَ منه بسبب، ومرفوعين إليه -عز وجل-، وأنهم من المنيبين، وأنهم من المهتدين، لما قامت حيلة العبد، ولما قام إيمانه، ولما قام له شيء؛ ولكن ما ثَمَّ إلا رحمة الله -عز وجل- (لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة) قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلاً).
فإذًا ننظر إلى قوله (لو عذَّب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبه وهو غير ظالم لهم) لأنَّ الشكر لن يكون في تمامه، فإذًا هم لن يُعْدَمُوا؛ بل لن يكونوا إلا مُقَصِّرِين، لن يكونوا إلا لم يُوَفُّوا مقام الشكر حقه.
بل حتى التوبة والإنابة إذا العبد كَمَّلَ الشكر بتوبته وإنابته دائمًا واستغفاره؛ فإن قَبُول التوبة وحصول المغفرة وقبول الإنابة من العبد أليست هذه نعمة تستحق شكرًا مجددًا ؟
فإذًا؛ لو عَذَّبَ الله أهل سمواته وأهل أرضه لَعَذَّبَهُم وهو غير ظالم لهم، فلا يبرح العبد أن يرى نعمة الله -عز وجل- تُفِيْضَ عليه في أمر دينه وفي أمر دنياه، وليس ثَمَّ أمامه سبيل إلا أن يشعر بالتقصير...
هذا تفسير الظلم عند الطوائف المشهورة: القدرية وهم المعتزلة والجبرية وهم أصناف والمتكلمين وقول أهل السنة فيما بين هؤلاء وهؤلاء) اهـ