عدنان إبراهيم والعودة إلى المربع الأول
صالح الحساب الغامدي
https://twitter.com/#!/Saleh_Hassab
قبل نحو مائة عام ظهرت في العالم الإسلامي حركة تدعو إلى إصلاح الدين وتجديده؛ للخروج من كبوة الضعف والوهن التي عصفت بالعالم الإسلامي؛ ولكن تلك الدعوة - للأسف- باتت أشد ضرراً على العالم الإسلامي من العدو الخارجي المستعمر والذي سعى لسلب الثروات وامتصاص المقدرات، وأما تلك الدعوة فقد سلبت من الإسلام روحه وقوامه، وباتت خادمة لذلك المستعمر الآثم من حيث تشعر أو لا تشعر، والسبب ببساطة أنها لم تقم على أصل قويم من الدين، بل قامت على أُسس عقلية، غايتها تطويع الدين لمقتضيات العصر، كما كان حال سلفها (التجديدي) في اليهودية والنصرانية.
وتلك الحركة (التجديدية) عُرفت فيما بعد بالمدرسة العقلانية، لتقديمها العقل على النص، وعرفت أيضاً بالمدرسة العصرانية، وكذلك بالمدرسة الإصلاحية الحديثة.(وهي مدرسة فكرية وليست نظامية).
تلك المدرسة التجديدية العقلانية - كما يصفها د أحمد اللهيب - تسعى سعياً حثيثاً لإعادة تفسير الإسلام وأحكامه، بحيث يبدو متفقاً مع الحضارة الغربية، أو قريباً منها، وغير متعارض معها. (أنظر كتابه: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر)
ويمكن تلخيص أبرز المعالم الفكرية لتلك المدرسة التجديدية العقلية فيما يلي:
1. التوسع في تفسير القرآن الكريم على ضوء العلم الحديث بكافة جوانبه، ولو أدى ذلك إلى استحداث أقوال مجانبة لتركيب الآيات من الناحية اللغوية، أو غير موافقة للمنقول عن السلف -رضي الله عنهم-.
2. رد السنَّة النبوية كلياً أو جزئياً؛ فمنهم من يردها مطلقاً، ومنهم من يقبل المتواتر العملي فقط، ومنهم من يقبل المتواتر مطلقاً عملياً كان أو قولياً، أما أحاديث الآحاد فمنهم من يردها مطلقاً، ومنهم من يقبل منها فقط ما وافق روح القرآن، أو ما اتفق مع العقل أو التجربة البشرية.
3. التهوين من شأن الإجماع إما برفضه كلياً، أو بتقييده بضوابط جديدة لم تكن معروفة بين العلماء، مثل إضافة أهل الحل والعقد الذين بيدهم السلطان في اشتراط انعقاد الإجماع، وهذا تعطيل له.
4. الحرية الواسعة في الاجتهاد مع غض النظر عن الشروط المطلوبة في المجتهد، وعن الأطر العامة التي تضبط الاجتهاد، ونتج عن هذا وعن موقفهم من الإجماع آراء شاذة ومنكرة لم يُسبقوا إليها.
5. الميل إلى تضييق نطاق الغيبيات ما أمكن، فأقحموا العقل في المسائل الغيبية، ومن هنا جاءت تأويلاتهم للملائكة والجن والشياطين والطير الأبابيل وغيرها على غير حقيقتها.
6. تناول الأحكام الشرعية العملية تناولاً يستجيب لضغوط الواقع، ومتطلباته، وذلك في مثل قضايا الربا، والوحدة الوطنية، وحرية الفكر (أقول أنا : وقطع اليد والجلد) وغيرها.
7. المواءمة والتوفيق بين نصوص الشرع ومعطيات الحضارة الغربية وفكرها المعاصر، وذلك بتطويع النصوص وتأويلها تأويلاً جديداً يتلاءم مع المفاهيم المستقرة لدى الغربيين، وعرض الإسلام عرضاًيقبله المثقفون ثقافة عصرية.
8. اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام بدل الفهم النصي، فالنصوص عندهم يجب أن تُفهم وتؤول على ضوء المقاصد(العدل،التوحيد،الحرية الإنسانية) ونصوص الحديث يُحكم على صحتها أو ضعفها لا حسب منهج المحدثين في تحقيق الروايات؛ وإنما حسب موافقتها أو مخالفتها للمقاصد.
9. إقامة الرابطة الاجتماعية بين الناس لا على أساس الإسلام والكفر، إنما على أساس الوطن والإنسانية، وعليه يجب إعادة النظر في مسائل عدة؛ نحو: مسألة دار الإسلام ودار الكفر، ومسألةاستعلاء المسلم بدينه على غيره وتميُّزه عنه، ومسألة منع غير المسلمين من تقلد المناصب في الدولة الإسلامية، وغيرها.
لقد شابهت تلك المدرسة العقلانية التجديدية فرقة "المعتزلة" في إعلاء شأن العقل وتقديمه على النص، إذ الاعتماد على العقل يُعد من مبادئ المعتزلة في الاستدلال للعقائد؛ فكانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلاً، وكان من نتائج اعتمادهم ذلك أن أوّلوا الصفات (أقول أي صفات الله) بما يناسب عقولهم، وطعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب! مما أدى إلى رد أحاديثهم وعدم قبولها، بل إن طوائف من المعتزلة ترد أحاديث الآحاد وتنكرها، بل وحتى الأحاديث المتواترة إذا تعارضت مع العقل، وكان من جرَّاء ذلك إنكار المعتزلة لكثيرٍ من العقائد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كعذاب القبر، والإيمان بالحوض، والصراط، والميزان، والشفاعة، ورؤية الله في الآخرة، هذا في باب العقائد وأما في باب الأعمال والأحكام الشرعية فاشترطوا -أيضاً- لقبول الحديث أن لا يُعارض العقل والقرآن.
والعجيب أن المعتزلة أولئك قاموا للدفاع عن الدين ضد الفلاسفة وغيرهم من المجسمة والرافضة والزنادقة والجهمية والمرجئة والخوارج، ولكنهم بتقديسهم العقل وتقديمه على النقل هدموا من حيث أرادوا البناء!
أما مؤسسو تلك المدرسة الإصلاحية العقلية التجديدية وروادها فيُعد (السير) أحمد خان الهندي أول من بدأت على يديه معالم تلك المدرسة، ثم على يد جمال الدين الأفغاني، ثم ترسخت على يد تلميذه وصاحبه محمد عبده المصري، ثم كان لتلامذة محمد عبده الأثر الكبير مع مطلع القرن العشرين في ترجمة هذا الفكر إلى أرض الواقع؛ تأليفاً، ونشراً، ودعوة إليه.
وهاهو الدكتور عدنان إبراهيم يجدد لنا في عالم اليوم فكر تلك المدرسة العقلية التجديدية، ليعيدنا إلى ذلك المربع الأول (مربع المدرسة العقلية) بعد أن تقدمت بنا الصحوة الإسلامية المباركة خطوة إلى الأمام، وأخرجتنا من ذلك المربع العقلي الذي أوهن المسلمين واستعمر فكرهم، بمباركة ودعم المستعمر الغربي، والذي ما إن رحل تماماً في ستينيات القرن المنصرم حتى بدأت بوادر العودة إلى المعين الصافي وانطلقت صحوة العودة إلى ما كان عليه الرسول الكريم -عليه السلام- وأصحابه الكرام.
لقد شاهدتُ الكثير من خطب ومحاضرات د عدنان إبراهيم وهي ذات أسلوب بليغ آسر، ولكن ما فائدة الأسلوب إذا شاب المضمون لوثة عقلية تصادم النصوص، وتنكر المعلوم، وتزعزع إيمان العامة، والذين لم يطالبهم الشرع الحنيف جميعاً بالتفقه في الدين و(البحث عن الحقيقية) التي لا يفتأ د عدنان يرددها في خطبه ومحاضراته، ونسي قول الحق تبارك وتعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم).
يكفي العامي - مثلاً- حتى يدخل في دوامة من التساؤلات و(الشك) في دين الله : أن يشاهد برنامجاً تلفزيونياً واحداً للدكتور عدنان إبراهيم؛ ويشاهده وهو يطعن خلاله في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينكر أحاديث الآحاد، ونزول عيسى بن مريم، بل ويشكك في أحكام آيات المواريث ويطالب بإعادة النظر فيها..الخ، (أنظر: حلقتي برنامج اتجاهات مع د عدنان إبراهيم)
كل هذه الآراء الصادرة من الدكتور عدنان إبراهيم وغيرها ليست تحت شعار الطعن في الدين أو انتقاصه، بل تحت شعار البحث عن الحقيقية والنهوض بالأمة الإسلامية!! وهو ذات شعار مدرسةمحمد عبده (مفتى الديار المصرية) العقلية قبل مائة عام، بل وذات المضمون!
يقول مفتي الدولة العثمانية الشيخ مصطفى صبري-رحمه الله-:
«كان المسلمون قبل عهد الشيخ محمد عبده على طول ثلاثمائة وألف عام يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ومعجزات رسله وبكل ما ورد في نصوص الله وسنَّة رسوله السليمة الإسناد، من الأوامر والنواهي والقصص وأحوال الآخرة.. وكان لهذين الركنين الأساسيين مهابة عظيمة في قلوب علماء الإسلام.. لا يجترئ أحد منهم على تأويلهما والعدول عن ظاهر نصوصهما.. وكان مما لا يطوف ببال أحد أن ينكر وجود الملائكة ووجود الشيطان الرجيم الذي نعوذ بالله منه في أول كل صلاتنا.. ولم يكن المسلمون في تلك الأعصار الطويلة يعتريهم أي شك في وجود الأنبياء وتأييدهم من عند الله بالمعجزات الخارجة عن طور البشر.. حتى جاء الأستاذ الإمام فوضع منهاجاً عجيباً لتأويل النصوص يُمثِّل باسم النهضة الدينية الحركة القهقرية أمام خصوم الإسلام الغربيين المسلطين على كتابه ويلقي الشك في قلوب المسلمين الذين يعتقدونه كتاباً منزلاً من عند الله.. قائلاً: إن وجود شيء في القرآن لا يقتضي صحته. وقد ارتكزت فكرة إنكار معجزات الأنبياء في قلوب العلماء الأزهريين من تلامذة الإمام، وفيهم من تولى مشْيخة الأزهر.. وقد فتح الأستاذ الإمام لهم طريقاً معبدة رغم خطرها، في كل أمن وحصانة وهي طريق التأويل وتفسير النصوص تفسيراً يؤدي إلى إلغائها».
(أنظر كتابه: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)
فأخشى ما أخشاه اليوم أن نردد ما قاله الشيخ مصطفى صبري ونقول: كان المسلمون قبل عهد الدكتور عدنان إبراهيم على طول أربعمائة وألف عام يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ومعجزات رسله وبكل ما ورد في نصوص الله وسنَّة رسوله السليمة الإسناد..الخ !!
ولا يفوت التنبيه هنا أن الشيخ محمد عبده كان جليلاً في نظر الغربيين المحتلين، ولا غرو في ذلك بعدما ذكرناه آنفاً من فكر مدرسته العقلية، ففي تقريره السنوي لعام 1905م يقول الحاكم الإنجليزي لمصر اللورد "كرومر":
«لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه بني ملتهم إذا ساروا فيه، فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين. هذا وإني أوافق السير "ملكولم مكلريث"على ما قاله عن الضربة التي أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت المرحوم الشيخ محمد عبده فقد أشرت إلى خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير، وأعود فأبسط الرجاء أيضاً أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده بل يظهرون احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته».
(انظر:محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده)
وإني أعيذ الدكتور عدنان إبراهيم من أن يصل اليوم بتبنيه فكر تلك المدرسة إلى رضا الغرب ومساندتهم، لا سيما وأنهم ينادون- كما هو حال مؤسسة راند (أقول : الصهيو أمريكية)- بدعم المجددينمن المسلمين، ويقصدون بهم أتباع فكر تلك المدرسة العقلية في العالم الإسلام اليوم.
(انظر تقرير مؤسسة راند: إسلام حضاري ديمقراطي)
وأختم بدعوة صادقة أوجهها للدكتور عدنان إبراهيم بأن لا يُعيد المسلمين إلى ذلك المربع الأول المشئوم، وأن يثوب إلى الرشد، ويتبنى التجديد الحق للإسلام؛ بتجديد علاقة الناس بدين الله -على نحو ما كان عليه النبي الكريم وأصحابه-، وإحيائه في نفوسهم، وعلى أرض الواقع، وإحياء ما اندرس من سننه ومعالمه، وتنقيته من كل شائبة ونقيصة.
اللهم اهدنا جميعاً سواء الصراط، والحمد لله رب العالمين.
صالح الحساب الغامدي
https://twitter.com/#!/Saleh_Hassab
قبل نحو مائة عام ظهرت في العالم الإسلامي حركة تدعو إلى إصلاح الدين وتجديده؛ للخروج من كبوة الضعف والوهن التي عصفت بالعالم الإسلامي؛ ولكن تلك الدعوة - للأسف- باتت أشد ضرراً على العالم الإسلامي من العدو الخارجي المستعمر والذي سعى لسلب الثروات وامتصاص المقدرات، وأما تلك الدعوة فقد سلبت من الإسلام روحه وقوامه، وباتت خادمة لذلك المستعمر الآثم من حيث تشعر أو لا تشعر، والسبب ببساطة أنها لم تقم على أصل قويم من الدين، بل قامت على أُسس عقلية، غايتها تطويع الدين لمقتضيات العصر، كما كان حال سلفها (التجديدي) في اليهودية والنصرانية.
وتلك الحركة (التجديدية) عُرفت فيما بعد بالمدرسة العقلانية، لتقديمها العقل على النص، وعرفت أيضاً بالمدرسة العصرانية، وكذلك بالمدرسة الإصلاحية الحديثة.(وهي مدرسة فكرية وليست نظامية).
تلك المدرسة التجديدية العقلانية - كما يصفها د أحمد اللهيب - تسعى سعياً حثيثاً لإعادة تفسير الإسلام وأحكامه، بحيث يبدو متفقاً مع الحضارة الغربية، أو قريباً منها، وغير متعارض معها. (أنظر كتابه: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر)
ويمكن تلخيص أبرز المعالم الفكرية لتلك المدرسة التجديدية العقلية فيما يلي:
1. التوسع في تفسير القرآن الكريم على ضوء العلم الحديث بكافة جوانبه، ولو أدى ذلك إلى استحداث أقوال مجانبة لتركيب الآيات من الناحية اللغوية، أو غير موافقة للمنقول عن السلف -رضي الله عنهم-.
2. رد السنَّة النبوية كلياً أو جزئياً؛ فمنهم من يردها مطلقاً، ومنهم من يقبل المتواتر العملي فقط، ومنهم من يقبل المتواتر مطلقاً عملياً كان أو قولياً، أما أحاديث الآحاد فمنهم من يردها مطلقاً، ومنهم من يقبل منها فقط ما وافق روح القرآن، أو ما اتفق مع العقل أو التجربة البشرية.
3. التهوين من شأن الإجماع إما برفضه كلياً، أو بتقييده بضوابط جديدة لم تكن معروفة بين العلماء، مثل إضافة أهل الحل والعقد الذين بيدهم السلطان في اشتراط انعقاد الإجماع، وهذا تعطيل له.
4. الحرية الواسعة في الاجتهاد مع غض النظر عن الشروط المطلوبة في المجتهد، وعن الأطر العامة التي تضبط الاجتهاد، ونتج عن هذا وعن موقفهم من الإجماع آراء شاذة ومنكرة لم يُسبقوا إليها.
5. الميل إلى تضييق نطاق الغيبيات ما أمكن، فأقحموا العقل في المسائل الغيبية، ومن هنا جاءت تأويلاتهم للملائكة والجن والشياطين والطير الأبابيل وغيرها على غير حقيقتها.
6. تناول الأحكام الشرعية العملية تناولاً يستجيب لضغوط الواقع، ومتطلباته، وذلك في مثل قضايا الربا، والوحدة الوطنية، وحرية الفكر (أقول أنا : وقطع اليد والجلد) وغيرها.
7. المواءمة والتوفيق بين نصوص الشرع ومعطيات الحضارة الغربية وفكرها المعاصر، وذلك بتطويع النصوص وتأويلها تأويلاً جديداً يتلاءم مع المفاهيم المستقرة لدى الغربيين، وعرض الإسلام عرضاًيقبله المثقفون ثقافة عصرية.
8. اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام بدل الفهم النصي، فالنصوص عندهم يجب أن تُفهم وتؤول على ضوء المقاصد(العدل،التوحيد،الحرية الإنسانية) ونصوص الحديث يُحكم على صحتها أو ضعفها لا حسب منهج المحدثين في تحقيق الروايات؛ وإنما حسب موافقتها أو مخالفتها للمقاصد.
9. إقامة الرابطة الاجتماعية بين الناس لا على أساس الإسلام والكفر، إنما على أساس الوطن والإنسانية، وعليه يجب إعادة النظر في مسائل عدة؛ نحو: مسألة دار الإسلام ودار الكفر، ومسألةاستعلاء المسلم بدينه على غيره وتميُّزه عنه، ومسألة منع غير المسلمين من تقلد المناصب في الدولة الإسلامية، وغيرها.
لقد شابهت تلك المدرسة العقلانية التجديدية فرقة "المعتزلة" في إعلاء شأن العقل وتقديمه على النص، إذ الاعتماد على العقل يُعد من مبادئ المعتزلة في الاستدلال للعقائد؛ فكانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلاً، وكان من نتائج اعتمادهم ذلك أن أوّلوا الصفات (أقول أي صفات الله) بما يناسب عقولهم، وطعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب! مما أدى إلى رد أحاديثهم وعدم قبولها، بل إن طوائف من المعتزلة ترد أحاديث الآحاد وتنكرها، بل وحتى الأحاديث المتواترة إذا تعارضت مع العقل، وكان من جرَّاء ذلك إنكار المعتزلة لكثيرٍ من العقائد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كعذاب القبر، والإيمان بالحوض، والصراط، والميزان، والشفاعة، ورؤية الله في الآخرة، هذا في باب العقائد وأما في باب الأعمال والأحكام الشرعية فاشترطوا -أيضاً- لقبول الحديث أن لا يُعارض العقل والقرآن.
والعجيب أن المعتزلة أولئك قاموا للدفاع عن الدين ضد الفلاسفة وغيرهم من المجسمة والرافضة والزنادقة والجهمية والمرجئة والخوارج، ولكنهم بتقديسهم العقل وتقديمه على النقل هدموا من حيث أرادوا البناء!
أما مؤسسو تلك المدرسة الإصلاحية العقلية التجديدية وروادها فيُعد (السير) أحمد خان الهندي أول من بدأت على يديه معالم تلك المدرسة، ثم على يد جمال الدين الأفغاني، ثم ترسخت على يد تلميذه وصاحبه محمد عبده المصري، ثم كان لتلامذة محمد عبده الأثر الكبير مع مطلع القرن العشرين في ترجمة هذا الفكر إلى أرض الواقع؛ تأليفاً، ونشراً، ودعوة إليه.
وهاهو الدكتور عدنان إبراهيم يجدد لنا في عالم اليوم فكر تلك المدرسة العقلية التجديدية، ليعيدنا إلى ذلك المربع الأول (مربع المدرسة العقلية) بعد أن تقدمت بنا الصحوة الإسلامية المباركة خطوة إلى الأمام، وأخرجتنا من ذلك المربع العقلي الذي أوهن المسلمين واستعمر فكرهم، بمباركة ودعم المستعمر الغربي، والذي ما إن رحل تماماً في ستينيات القرن المنصرم حتى بدأت بوادر العودة إلى المعين الصافي وانطلقت صحوة العودة إلى ما كان عليه الرسول الكريم -عليه السلام- وأصحابه الكرام.
لقد شاهدتُ الكثير من خطب ومحاضرات د عدنان إبراهيم وهي ذات أسلوب بليغ آسر، ولكن ما فائدة الأسلوب إذا شاب المضمون لوثة عقلية تصادم النصوص، وتنكر المعلوم، وتزعزع إيمان العامة، والذين لم يطالبهم الشرع الحنيف جميعاً بالتفقه في الدين و(البحث عن الحقيقية) التي لا يفتأ د عدنان يرددها في خطبه ومحاضراته، ونسي قول الحق تبارك وتعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم).
يكفي العامي - مثلاً- حتى يدخل في دوامة من التساؤلات و(الشك) في دين الله : أن يشاهد برنامجاً تلفزيونياً واحداً للدكتور عدنان إبراهيم؛ ويشاهده وهو يطعن خلاله في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينكر أحاديث الآحاد، ونزول عيسى بن مريم، بل ويشكك في أحكام آيات المواريث ويطالب بإعادة النظر فيها..الخ، (أنظر: حلقتي برنامج اتجاهات مع د عدنان إبراهيم)
كل هذه الآراء الصادرة من الدكتور عدنان إبراهيم وغيرها ليست تحت شعار الطعن في الدين أو انتقاصه، بل تحت شعار البحث عن الحقيقية والنهوض بالأمة الإسلامية!! وهو ذات شعار مدرسةمحمد عبده (مفتى الديار المصرية) العقلية قبل مائة عام، بل وذات المضمون!
يقول مفتي الدولة العثمانية الشيخ مصطفى صبري-رحمه الله-:
«كان المسلمون قبل عهد الشيخ محمد عبده على طول ثلاثمائة وألف عام يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ومعجزات رسله وبكل ما ورد في نصوص الله وسنَّة رسوله السليمة الإسناد، من الأوامر والنواهي والقصص وأحوال الآخرة.. وكان لهذين الركنين الأساسيين مهابة عظيمة في قلوب علماء الإسلام.. لا يجترئ أحد منهم على تأويلهما والعدول عن ظاهر نصوصهما.. وكان مما لا يطوف ببال أحد أن ينكر وجود الملائكة ووجود الشيطان الرجيم الذي نعوذ بالله منه في أول كل صلاتنا.. ولم يكن المسلمون في تلك الأعصار الطويلة يعتريهم أي شك في وجود الأنبياء وتأييدهم من عند الله بالمعجزات الخارجة عن طور البشر.. حتى جاء الأستاذ الإمام فوضع منهاجاً عجيباً لتأويل النصوص يُمثِّل باسم النهضة الدينية الحركة القهقرية أمام خصوم الإسلام الغربيين المسلطين على كتابه ويلقي الشك في قلوب المسلمين الذين يعتقدونه كتاباً منزلاً من عند الله.. قائلاً: إن وجود شيء في القرآن لا يقتضي صحته. وقد ارتكزت فكرة إنكار معجزات الأنبياء في قلوب العلماء الأزهريين من تلامذة الإمام، وفيهم من تولى مشْيخة الأزهر.. وقد فتح الأستاذ الإمام لهم طريقاً معبدة رغم خطرها، في كل أمن وحصانة وهي طريق التأويل وتفسير النصوص تفسيراً يؤدي إلى إلغائها».
(أنظر كتابه: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)
فأخشى ما أخشاه اليوم أن نردد ما قاله الشيخ مصطفى صبري ونقول: كان المسلمون قبل عهد الدكتور عدنان إبراهيم على طول أربعمائة وألف عام يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ومعجزات رسله وبكل ما ورد في نصوص الله وسنَّة رسوله السليمة الإسناد..الخ !!
ولا يفوت التنبيه هنا أن الشيخ محمد عبده كان جليلاً في نظر الغربيين المحتلين، ولا غرو في ذلك بعدما ذكرناه آنفاً من فكر مدرسته العقلية، ففي تقريره السنوي لعام 1905م يقول الحاكم الإنجليزي لمصر اللورد "كرومر":
«لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه بني ملتهم إذا ساروا فيه، فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين. هذا وإني أوافق السير "ملكولم مكلريث"على ما قاله عن الضربة التي أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت المرحوم الشيخ محمد عبده فقد أشرت إلى خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير، وأعود فأبسط الرجاء أيضاً أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده بل يظهرون احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته».
(انظر:محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده)
وإني أعيذ الدكتور عدنان إبراهيم من أن يصل اليوم بتبنيه فكر تلك المدرسة إلى رضا الغرب ومساندتهم، لا سيما وأنهم ينادون- كما هو حال مؤسسة راند (أقول : الصهيو أمريكية)- بدعم المجددينمن المسلمين، ويقصدون بهم أتباع فكر تلك المدرسة العقلية في العالم الإسلام اليوم.
(انظر تقرير مؤسسة راند: إسلام حضاري ديمقراطي)
وأختم بدعوة صادقة أوجهها للدكتور عدنان إبراهيم بأن لا يُعيد المسلمين إلى ذلك المربع الأول المشئوم، وأن يثوب إلى الرشد، ويتبنى التجديد الحق للإسلام؛ بتجديد علاقة الناس بدين الله -على نحو ما كان عليه النبي الكريم وأصحابه-، وإحيائه في نفوسهم، وعلى أرض الواقع، وإحياء ما اندرس من سننه ومعالمه، وتنقيته من كل شائبة ونقيصة.
اللهم اهدنا جميعاً سواء الصراط، والحمد لله رب العالمين.