التسميات

الثلاثاء، 26 فبراير 2013


ما هو العلم ؟.. وما هو الدين ؟..

بقلم أ.د محجوب عبيد طه ..
بروفيسور سوداني من علماء الفيزياء والرياضيات الحديثة عالميا ..
مجلة المعرفة -العدد ٦٣ - نقل الأخ شاهد - منتدى التوحيد ..

تناقش هذه المقالة طبيعة كل من العلم والدين، وتبين الفهم السليم للعلاقة بينهما. وفي غضون ذلك تشير إلى عدد من المفاهيم الخاطئة فتصححها وإلى محاولات بعض الملاحدة للهجوم على الدين من منطلق العلم الطبيعي فتفندها.

أبادر فأوضح أن ما أعنيه بالدين هو عقيدة الإيمان بوجود خالق مدبر وما يترتب عليها من نهج في الفكر وفي الحياة. وما أعنيه بالعلم هو العلم الطبيعي الأساسي، وهو معرفة حصّلها الإنسان من التجارب المعملية ومن ملاحظة سلوك الموجودات وتأمل التأثيرات بينها.ثم أشير إلى أن موضوع العلاقة بين العلم والدين أصبح من موضوعات الفكر المعاصر المهمة، يتناوله المحللون في الكتب والصحف ويناقشونه في وسائل الإعلام كافة. كثير من المثقفين يتابعون هذا الحوار باهتمام كبير. ولهذا الاهتمام بالعلاقة بين العلم والدين ما يسوغه.

أولاً:
التطور الكبير الذي حدث في العلم الطبيعي جعله يقترب من قضايا كانت تعتبر إلى عهد قريب خارج نطاق العلم، وكان أهل البحث العلمي يتركونها لأصحاب الفلسفات والعقائد. هذا الاقتراب أدى إلى اهتمام عدد من المفكرين- من علماء الطبيعة ومن علماء الدراسات الدينية- بموضوع العلم والإيمان. وظهر بين هؤلاء من أدرك جدية الموضوع فقصر اهتماماته الفكرية عليه.

ثانياً:
ما عاد ممكناً، في ظني، للمثقف المعاصر أن يكتفي بأنصاف الحلول، فيدس أموراً فكرية وعقائدية يعتمد عليها تحركه في الحياة تحت السجادة كما يقولون. وهو، إن يفعل، يقدم دعوة إلى الآخرين ليصقلوا له كينونته الذاتية وفق رؤاهم وتصوراتهم.

ثالثاً:
الجمع بين معرفة كل من العلم والدين بقدر من العمق كاف للمساهمة في نقاش العلاقة بينهما لا يتيسر إلا لقلة من الناس. ولذلك فإن هذه القلة تؤثر على عامة المثقفين بأكثر من وزنها في أي من مجالي العلم والدين. أدى هذا الاعتبار إلى ولوج مفكرين آخرين للحلبة، ليدفعوا بمساهمات مختلفة ويقللوا من غلواء هذا التأثير، الذي كثيراً ما تكون خلفياته فلسفات وعقائد سابقة للكتابات والأطروحات المقدمة في وسائل الإعلام. بسبب هذا نجد المجال في اتساع من حيث الرغبة في الكتابة والمشاركة في النقاش.

ولاشك أن هناك مسوغات أخرى للاهتمام المعاصر بموضوع العلاقة بين العلم والدين. ولكني أكتفي بما ذكرت لأنتقل إلى مدخل هذه المقالة التي تستهدف الإجابة عن السؤالين المطروحين في العنوان.
وقد رأيت أن أكتب حول موضوع ماهية العلم وماهية الدين، لما لمسته من سوء فهم عند عدد قليل ممن كتبوا وتحدثوا في هذا الشأن.

في المدخل أحدد مفاهيم خاطئة عن العلم والدين تكاد تكون مشتركة بين المؤلفات التي وقفنا عليها.- مفاهيم خاطئة : وأصوغها بتقديم بعض الدعاوى الفاسدة والردود الخاطئة التي تتصدى لها (نرجو من القارئ مراعاة الأسلوب).

أ-
«كل من العلم والدين يقدم لنا معلومات عن العالم الذي نعيش فيه. ما أفادنا به الدين قليل، ويغلب عليه الغموض، ولا يزداد بمرور القرون. أما المعلومات التي حصلناها من العلم فقد غيرت وجه الحياة على الأرض، وأحدثت ثورة في تصورنا للكون من حولنا، وعطاء العلم يزداد بمعدلات رهيبة بمرور السنوات».
يجيب بعض المؤمنين بأن ما تعلمناه من الدين هو التوحيد والمعاملات والأخلاق الفاضلة ومعرفة الصلة بالله ورعايتها، وهذا هو عصب الحياة الطيبة وأهم من التطور المادي.هذا الحوار مبني على فرضية خاطئة، مفادها أن العلم والدين يتنافسان في إمداد الإنسان بالمعلومات التي تعينه على الحياة، وأن علينا أن نقارن بين عطاء كل من المصدرين فنصدر حكماً باتباع أهل العلم أو أهل الدين، وليس الأمر كذلك.

ب-
« الإيمان بوجود الخالق مبني على التسليم بوجود ظواهر لا يفسرها العلم ولا بد لحدوثها من سبب. السبب عند المؤمنين هو أن الله أحدثها بإرادته المباشرة، ولذلك فإن رقعة الإيمان تتقلص كلما تطور العلم الطبيعي، ومتى اكتملت معرفتنا ففسرنا كل الظواهر التي نشاهدها ما عادت بنا حاجة لفرضية وجود الخالق».
يرد بعض المؤمنين بأن العلم لن يستطيع الإجابة عن كل الأسئلة، بصفة خاصة تلك التي تتعلق بالحكمة في وجود المخلوقات وفي تباين أحوالها. كما أن هناك حوادث فريدة خارقة ومعجزات لا تتكرر. وكل ظاهرة لا تتكرر، لا يمكن السيطرة عليها في المعمل وتقع خارج نطاق العلم.هذا رد يتجاهل العلاقة السليمة بين العلم والدين، ومعرفة هذه العلاقة لابد منها في التصدي لمثل هذه الدعاوى.

جـ-
«لو أن للعالم خالقاً يراقبه ويدبر أمره لوجدنا خصائصه مختلفة عما هي عليه في الواقع. كنا نجد الخير والسعادة، ولا نجد الشر والبؤس. بل إن تاريخ العالم يزخر بالطغاة الذين استغلوا الدين ليثيروا الكراهية والحروب وليسيطروا على الآخرين بتخويفهم بعذاب الآخرة إن هم خالفوا الأوامر».
يرد المؤمنون بأن الأنبياء والرسل كانوا هداة حق ودعاة خير. ولكن الإنسان لا يخلو من ضعف في السلوك والأخلاق، حتى إن بعض أتباع الرسل حرفوا أساسيات الدين وغيروا أصول الرسالات. وهذا رد لا بأس به ولكن يلزمه أن يصاغ في ظل تصور إيماني شامل لمكانة المخلوق من الخالق وعما إذا كان بمقدوره طرح أسئلة، سواء من الواقع الراهن أو التاريخ، تستهدف إنكار حكمة الخالق وحسن تدبيره.

د-
«في العلم الطبيعي يمكن أن تتغير القوانين والنظريات إذا اكتشف لها تناقض مع التجارب أو الملاحظات. بهذه الكيفية تتطور المعرفة البشرية. ولكن الدين يقدم مقولاته على أنها مطلقة، فلا يتطور، ومع ذلك نجد أصحاب العقائد الدينية يعيدون تفسير الكثير من هذه النصوص المطلقة، بحيث تتسق مع تطور العلم البشري».
أقول إن هذه هي قصة التنافس المزعوم بين العلم والدين كمصدرين للمعرفة، وقد سبق أن أشرنا إليها، مع إضافة اتهام المؤمنين بالاستفادة من العلم البشري لترميم نصوص بائدة يدعون أنها إلهية. وسنأتي على ذكر هذه القضية في نطاق توضيح العلاقة الصحيحة بين العلم والدين في ختام هذه المقالة.ولعلي أكتفي بهذا القدر من أمثلة المفاهيم الخاطئة في هذا الموضوع وأنتقل إلى صلب هذه المقالة فأتحدث عن طبيعة كل من العلم والدين.

طبيعة العلم:
محتوى العلم البشري هو مجموعة النظريات والقوانين والحقائق التي استنتجت من التجارب المعملية والمشاهدات ومن إعمال الذهن لاكتشاف أنماط سلوك الموجودات. موضوع العلم الأساسي هو دراسة البيئة التي يجد الإنسان نفسه محصوراً فيها، وهي- في أوسع نطاق لها- كل العالم المشاهد. الموجودات في العالم هي مادة العلم المعطاه ومهمته دراسة صفات هذه الموجودات وتحليلها واكتشاف تفاعلاتها والروابط بينها.

وعبر القرون أدت وسائل العلم التجريبي إلى تقدم هائل في فهم تفاعلات المادة على المستوى النووي وعلى المستوى الذري وعلى مستوى الأرض ثم المجموعة الشمسية والمجرات. كما حدث تقدم باهر في جانب علوم الحياة، بصفة خاصة في مجال الموروثات، وفي تقنية المعلومات. ولقد قاد هذا التقدم العلمي إلى تطبيقات واسعة النطاق يسرت مشاق الحياة وغيرت أنماط النشاط الإنساني.ولقد كان الإنسان، منذ بداية مسيرة العلم، يعي أن ما يحصله من المعارف بوسائل العلم التجريبي يخضع للمراجعة المستمرة وللتصحيح كلما دعا لذلك داع. وليس هذا بغريب في أي مجهود بشري.

ولكن الذي يهمنا الآن هو شرح خاصية المحدودية في العلم الطبيعي. فلقد ذكرنا أن مهمته دراسة صفات الموجودات في العالم المشاهد. كل القوانين والتعميمات والنظريات تستهدف حصر هذه الصفات واستنباط الصلات والروابط بينها. وهذا يعني أن العلم البشري لا يستطيع أن ينفذ إلى خارج العالم المشاهد، وليس بمقدوره تقرير أي شيء عن أصل هذا العالم، أو عما إذا كان المشاهد هو كل الوجود أو عن طبيعة القوانين خارج العالم المشاهد.هذه المحدودية أساسية، وللأسف يجهلها الكثيرون ممن يعملون في مجالات العلوم التجريبية، وبعض هؤلاء يستنكر القول بأن القوانين الطبيعية هي تقرير لصفات الموجودات، لظنه أن هذه القوانين تعلو وتهيمن على صفات المادة وقد يعتقد أنها تشرحها وتسوغها. 

والواقع أن وجود القوانين نفسه حقيقة تجريبية، أي صفة من صفات المادة. إذ ليس هنالك سبب لما نراه من انتظار في سلوك المادة عبر الزمان والمكان. بل ولا يوجد مسوغ لتوقع استمرارية هذا الانتظام سوى أنه كان موجوداً في الماضي. لذا فإن انتظام السلوك خاصية ظرفية جعلت العلم الطبيعي ممكناً، وتوقع استمراريته فرضية تجعل التنبؤ العلمي ممكناً. هذه الفرضية مما جبل عليه الأحياء، نجدها عند الحيوانات التي تتجنب مواقع الأذى، بعد التجربة، بسبب توقع استمرارية الصفات.سقت هذا الحديث بهدف توضيح أن العلم الطبيعي لا يقوم فقط على التجربة والملاحظة، وإنما أيضاً على فرضيات ضرورية خارج نطاق التجارب.

من هذه مثلاً فرضية أن القانون الذي اتفق مع التجارب التي أجريت في معامل معينة في أوقات معينة، سيظل يتفق مع كل تجربة مماثلة يمكن أن تجرى في أي مكان وزمان. هذه فرضية بأن القوانين المكتشفة في معاملنا على ظهر الأرض، تظل صحيحة على مستوى العالم المشاهد من أقصاه إلى أقصاه. رغم قوة هذه الفرضية وضرورتها للعمل العلمي إلا أنه يستحيل التأكد من صحتها تجريبياً.هذه الفرضيات، مع إعمال الذهن البشري لتقديم تعريفات محددة للمقيسات من خواص المادة، هي التي تمكن من التعميم والتنظير والصياغة الرياضية. والتنظير لا غنى عنه، إذ هو في الحقيقة روح العمل العلمي وعليه تبنى التأملات الفكرية كما تبنى التطبيقات التقنية.

غير أن بعض هذه التأملات يشطح فيخرج عن مجال العلم الطبيعي وهو العالم المشاهد. من ذلك مثلاً محاولات عدد من الفيزيائيين تطبيق القوانين الطبيعية لاستنتاج كيف ظهر العالم من العدم! وهذا أمر مستحيل لأنه يعني أن خصائص الكائنات كانت موجودة قبل وجود هذه الكائنات. فالقوانين الطبيعية ليست إلا صياغة لهذه الخصائص، كما أنه يعني أن العلم يستطيع أن يصف العدم بمعادلات وقوانين، ونحن لا نعلم للعدم متغيرات ولا نعلم قانوناً يحوله إلى وجود، ويستحيل أن يشمل العلم البشري شيئاً من ذلك في أي يوم من الأيام.

في هذا المنزلق وقع للأسف عدد من كبار الفيزيائيين. خلاصة القول أن القانون يصف سلوك الكائنات وأن شمولية التنظير، مهما اتسعت، محصورة في هذا العالم ولا تعطي الفكر البشري هيمنة على الوجود.

ولعلي أضرب مثلاً بما تفضل به الفيزيائي المشهور بول ديفيز عن نشأة الكون، قال:
" إما أن تكون ظاهرة انبثاق الكون خارقة، وإما طبيعية. في الحالة الثانية تفسر القوانين الفيزيائية هذا الحدث، ولكن هذا يقود إلى إمكانية ظهور عدد لا نهائي من الأكوان بذات الطريقة، إذن خيارنا حدث خارق أو عدد لا نهائي من الأكوان ". انتهى قوله.
ورغم أن بعضنا قد يستبشر بأن سخف فكرة الأكوان لا نهائية العدد فيه تأييد لكون حدث الانبثاق خارقاً، إلا أننا نرفض أن يطبق العلم الطبيعي حيث لا يمكن تطبيقه، فنحن، كما ذكرنا، لا نستطيع معرفة نشأة الكون من دراسة مكوناته وتطبيق نتيجة الدراسة على العدم، كما أننا لا نعلم شيئاً عن الظواهر الخارقة التي قد تكون حدثت قبل وجود العالم.

وبول ديفيز من الذين يقحمون مبدأ اللاتحددية، في النظرية الكمية، في نقاش إمكانية انبثاق الكون من العدم. وأنا أستغرب أن يذكر مبدأ اللاتحددية في هذا الشأن. مبدأ اللاتحددية يتعلق بمقدار تبعثر القيم المقيسة لمتغير حول القيمة المتوسطة، بعد تكرار القياس عدداً كبيراً من المرات في ذات الحالة الفيزيائية. يقرر مبدأ اللاتحددية بأن مضروب مقداري التبعثر لمتغيرين، في ذات الحالة، يكون أكبر من مقدار محدد، إذا حقق المتغيران شرطاً معيناً. وهذا تقرير تجريبي إحصائي، لا يحفل به المرء إلا إذا كان بصدد تحليل نتائج تجارب من هذا القليل. كيف يمكن أن يكون لهذا التقرير التجريبي شأن بتصور الكيفية التي ظهر بها الكون من العدم؟

والذين يتحدثون عن عدد لا نهائي من الأكوان كثر. وهم لا يتحدثون علماً . ذلك أن برهان وجودها مستحيل، بسبب فرضية عدم تأثيرها في عالمنا، وإلا لكانت جزءاً منه، وأخذ بعضهم بفكرة الأكوان المتعددة لأن فيها مسوغاً لمجموعة القوانين المعينة التي نجدها. يقول هؤلاء إن لكل كون قوانينه المختلفة. ولقد صادف أن العالم الذي نعيش فيه محكوم بهذه المجموعة من القوانين. والسؤال عن القوانين ليس علمياً، إذ إنه يكافئ السؤال:
«لماذا نجد هذه المادة بالذات في العالم؟»،
ومن الواضح أن العلم لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال.

خلاصة القول أن معنى العلم الطبيعي يتضمن معرفة الأسس التي بني عليها التقرير العلمي، ومعرفة حدود وظرفية تطبيقه، والتأكد من إمكانية إخضاعه للتمحيص التجريبي، الذي هو عمدة القبول في المقاولات العلمية.

وأما طبيعة الدين:
فعبر التاريخ، وبغض النظر عن وجود العلم الطبيعي أو وجود تأثير له في حياة الناس، كانت المجتمعات البشرية مسرحاً لظهور الأفكار والفلسفات والعقائد المختلفة. ولايزال الأمر كذلك في العصر الحالي، ذلك أن المعرفة المعاصرة لا تمنع اعتناق العقائد ولا تستطيع أن تبرهن على فسادها. وبالطبع فإن هذه العقائد متباينة، يجمع بينها أنها لا تحصر نفسها في العالم المشاهد. وأنا أستخدم كلمة الدين بمعنى الدين السماوي، بصفة عامة، وبمعنى الإسلام، إذا كنت بحاجة إلى التخصيص.
أقول، وبالله التوفيق، إن أهم ما يميز الدين عن العلم أمران:

الأمر الأول:
الإيمان بوجود خالق للكون، خلقه بتدبيره وإرادته لحكمة يعلمها، هذا الخالق هو الله الذي لا يسأل عما يفعل، وقدرته وكافة صفاته مطلقة.

الأمر الثاني:
الإيمان بأن أهم مصدر للمعرفة هو الوحي السماوي، أي ما أوحاه الله لرسله ليبلغوه للناس، والوحي هو المصدر الوحيد للمعرفة اليقينية وللمعرفة بعالم الغيب، وهو الوجود غير المشاهد.في الدين أن الله خلق العالم المشاهد، كائناته وسنن سلوكها وتفاعلاتها، وأن الله ميز الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل والتكليف وبقليل من العلم مكنه من السيطرة على الأرض، وأن الله أمر بتحصيل العلم وبالسير في الأرض والنظر في كيفية بداية الخلق وبالتأمل في خلق السماوات والأرض وجعل كل ذلك عبادة له متى ما اشتغل به المؤمن استجابة لأمر الله. والدين يربط هذه الدنيا بالآخرة، فالدنيا دار ابتلاء واختبار، والآخر دار جزاء وقرار. وللمؤمنين في حياتهم التزامات محددة يلزمهم بها الدين، لا نتحدث عنها كما لم نتحدث عن شروط الطريقة التجريبية.

الذي يلزمنا تقريره بوضوح هو أن الدين يشمل العالم المشاهد والعالم الغيبي. لذلك، فإن الدين يقبل العلم الطبيعي كله، ويزيد عليه بالإيمان بوجود عالم غيبي لا يمكن بلوغه عن طريق العلم الطبيعي ولا يخضع للتمحيص التجريبي. والمؤمنون يعتبرون القوانين الطبيعية الجزء اليسير من سنن الله الذي اقتضت مشيئته أن تجري به الظواهر الرتيبة المتكررة في العالم المشاهد، وقد من الله علينا بمعرفته بعد بذل الجهد في البحث والتأمل. أما سنن الله التي تتحقق بها إرادته في كل الوجود، فهي أعظم ما يسعه العقل البشري المحدود.

النص الأساسي في الدين كتاب سماوي يهتدي به المؤمنون في كل شؤون الحياة. بعض آيات هذا الكتاب تتعلق بمجالات العلم الطبيعي، ويلزم تحري الأمر من الجانبين بهدف تحقيق التطابق بين العلم الصحيح والفهم الصحيح لكتاب الله. وهذا محك اختبار. وإذ إن المعرفة اليقينية عند المؤمنين هي كتاب الله، فإنهم في حال الاختلاف يعتبرون العلم يقدم تقريراً مرحلياً بما يبدو عليه الأمر حالياً، ويتوقعون أن مزيداً من التطور والنضج العلمي سيقود إلى الاتفاق بما جاء في كتاب الله.

من ذلك مثلاً ظن أهل العلم في مرحلة سابقة بأن الشمس ساكنة والله يقول إنها تجري لمستقر لها. ثم علم الفلكيون في القرن العشرين أنها تجري في مدار لها في المجرة. ومما لا يكتشفه العلم الطبيعي حتى الآن الحقيقة اليقينية بأن السماوات سبع كما جاء في كتاب الله.

مسوغ الإيمان هو في الأصل تصديق الرسول ثم تثبيت ذلك بالعبادة وبالتأمل في الحياة وفي المخلوقات وفي مقاصد الوجود. يقود هذا إلى اتساق الإيمان مع الحياة بحيث يصبح يقيناً لاشك فيه. ولا يستطيع غير المؤمن أن ينكر على المؤمن شيئاً من دينه، ذلك أن الدين يشمل كل العلم الطبيعي ويضيف عليه معرفة عن الوجود يستحيل أن يقرر العلم الطبيعي بشأنها شيئاً. 

لو أن أصحاب فكرة الأكوان المتعددة قالوا إن هذه هي عقيدتنا وتصورنا لعالم الغيب، ما استطعنا أن نجادلهم، وإنما كان ادعاء اعتمادهم على العلم الطبيعي هو المفروض.بقيت مسألة في غاية الأهمية تتعلق بالجهود التي يبذلها بعض ملاحدة العلماء الطبيعيين من أمثال آتكنز ودوكنز لمهاجمة الدين من موقع العلم الطبيعي.

هؤلاء يجهلون أساس الدين ولا يفهمون معنى الإيمان بالخالق. عند المؤمنين أن الله خلق الكون، ولا يضيرهم أن يكون ذلك من العدم أو لا يكون، بقانون مما نعرفه من القوانين أو بكيفية أخرى نجهلها. كل ذلك لا يؤثر في الإيمان بوجود الله خالق الوجود.

مثل ذلك يقال في موضوع نشأة الحياة، ويقع في نطاق العلم الطبيعي، متى ما استقر رأي أصحاب الاختصاص على قانون ظهور الحياة وتطور أنواعها، قبله المؤمنون كما قبلوا قوانين الميكانيكا والكهرومغناطيسية؛ يجمع بينها أنها من سنن الله التي تحقق بها إرادته في خلقه، إن الاعتماد على مفاهيم ساذجة عن الدين هو سبب تخبط هؤلاء، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.

خاتمة:
تحدثت في الفقرتين السابقتين عن العلم والدين وشمل الحديث توضيح العلاقة بينهما . في هذه الخاتمة أعلق باختصار على ما ذكرته في الفقرة الأولى عن بعض المفاهيم الخاطئة بهدف تصحيحها في ظل الفهم السليم لعلاقة العلم بالدين.

أ-
العلم الطبيعي جزء من الدين وليس منافساً له، وفي الدين إضافة إلى العلم، معرفة يقينية عن الحقائق الكبرى في الوجود، من لم يفتح لها عقله وقلبه ضل ضلالاً مبيناً.

ب-
ليس صحيحاً أن الإيمان بالله مبني على الجهل بتفسير بعض الظواهر الطبيعية. تفسير الظواهر وقوف على الكيفية التي تتحقق بها إرادة الله في بعض ما نشاهده. المؤمنون يعرفون كيف ينزل المطر وفق القوانين الطبيعية ومع ذلك يشكرون الله عليه كلما هطل.

جـ-
يقتضي الإيمان بالله أنه لا يسأل عن مشيئته وتدبيره، ولا يقضى عليه في شأن من شؤونه. وليس للإنسان علم إلا ما علمه الله، وهو عاجز عن الإحاطة بما لم يظهره الله عليه. ادعاء الندية جهل بتفرد الله ووحدانيته ويناقض عقيدة الإيمان.

د-
يسعد المؤمنون بتطور العلم التجريبي ويشاركون فيه. وقد يعينهم على فهم بعض آيات كتاب الله التي لم يحسنوا فهمها. من ذلك مثلاً اجتهاد بعضهم بأن آية {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون}، تشير إلى ظاهرة التمدد الكوني الذي اكتشف في القرن العشرين. فليس الأمر أمر ترميم نصوص. وإنما هو الدراسة المقارنة المستمرة بين كتاب الله وخلق الله، طلباً لمزيد الفهم وتثبيتاً للإيمان.

وأختم هذه المقالة بتقرير أن كل زيادة على العلم الطبيعي عقيدة. أكثر هذه العقائد شراذم من تصورات لأمور لا يحفل بها الناس ولا تمس حياتهم. الدين عقيدة شاملة للوجود وتصور واضح للحقائق الكبرى فيه. والتجربة الدينية في حياة المؤمن عميقة ومؤثرة وتمس كل جوانب الحياة. والذي يعيش تجربة الإيمان يعجب لمن يعيش بدونها قال تعالى {...ومَن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.