فضح منهج عدنان إبراهيم ...
أو : عدنان إبراهيم ..أين الخلل ؟
بدر بن سليمان العامر
الأحد 11 / 4 / 1433 هــ
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
لعل هذا المقال يكون مقدمة لسلسلة حلقات تلفزيونية صالحة أن تنشر في موقع اليوتيوب إن شاء الله ، وما دعاني إلى كتابة هذه الحلقات إلا حين سمعت بعض الفضلاء يصف الدكتور عدنان إبراهيم بأنه يحترم العقل ، ولأني من أشد الناس إعجاباً بمن يحترم العقل ذلك أن الذي يحترم العقل هو يحترم الدين ، ويحترم إنسانية الإنسان ، ذهبت لأستمع إلى محاضراته وقراءة مقالاته وفتاواه في موقعه ، فلم أهجم على الدكتور عدنان من نظرة مسبقة تحكم عليه وتنقب عن الأخطاء والمؤاخذات ، وإنما سمعت وقرات له قراءة الطالب للمعرفة ، ولو أني تماسكت لما استطعت أن أكمل له ربع حلقة من حلقاته وخاصة التي تتحدث عن معاوية رضي الله عنه في الميزان .
وهذه المقالة ليست مقالة أتتبع فيها جزئيات المسائل ومناقشة الموضوع من جانبه الحديثي والتاريخي والعقدي – فهذا لعله يأتي في المستقبل - ، وإنما التركيز فيها على جانب " المنهجية " التي هي عندي أخطر وأهم من موضوع الجزئيات المتناثرة التي تشكل الرؤية الكلية للإنسان ، فإن صلحت المنهجية هان بعد ذلك النتائج التي تعقبها ، وإن انحرفت المنهجية أو اختلت اختل معها كل مخرجاتها ، ولربما تسلسلت بالإنسان إلى أمور لم تكن بالحسبان ، وقد أستخدم في مناقشة منهجية الدكتور شيئا من القضية الكلامية أكثر من النقاش العقدي المدرسي التقليدي لاني أظن أن هناك الكثير ممن ناقشه في الأمر ، وما تحمست لمناقشة هذه القضية إلا حين رأيتها تتعلق بجانب أصولي خطير ، فالموضوع يمس الصحابة والصحبة ، وهو بالنسبة لأهل الإسلام شأن مقدس وحمى لا يوطأ ، فكان حقيق بمن يرى في نفسه القدرة أن يتقدم حتى ولو اعتور كلامه شيئ من الخطأ ، فإن مثل هذه المسائل مهمة لترتباتها الفكرية والعقدية ، وحفظاً لجناب الشريعة من الأيدي العابثة ، فالصحابة نقلة الوحي ، وخير البشر ، عاصروا النبي الأكرم ، وتمتعوا برؤيته ، وآمنوا به ، وأثنى الله عليهم في كتابه ، ولذلك كان أهل السنة يثلمون من يثلمهم لهذا الاعتبار ، لا لقداسة خاصة في أعيانهم ، بل لموقعهم من مقام النبوة ، والقرب من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم .
والدكتور عدنان يبهرك بادئ الأمر حين تسمع له ، حاله حال كثير من المتكلمة والمتفلسفة حين يعرضون آراءهم وأفكارهم ، ويستخدمون في ذلك التأثير النفسي والعاطفي ، فيخيل إليك قوة الفكرة ومتانتها ، ولو اقتصر الإنسان في قناعاته على سماع أولي ، أو ترك التأمل والنظر لاقتنع بكثير مما يقول ، وبمجرد أن يجيل الإنسان فكره في الفكرة مرة تلو أخرى ، ثم يعرضها على قواعد النظر والاستدلال الشرعي ، يدرك مباشرة بانها كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .. ولو قلت بأن كل دليل يأتي به الدكتور في حديثه عن قضية" معاوية رضي الله عنه " يصح أن يكون ضده لم أكن بذلك مجانباً للصواب في هذا الأمر .
أين هو الخلل فيما يطرحه الدكتور عدنان إبراهيم ؟
حين يرى الإنسان الكتب أمام الدكتور ، يقلبها بين يديه ، ثم يقرأ أقوال اهل العلم لربما سلم بكثير مما يقول ، غير أن المعول عليه ليس الرجوع إلى كتب التاريخ والتراجم والسير والأحاديث ، فهي بمتناول الجميع ، وقد سهل "البحث الالكتروني " المهمة على الكثير ، وقارب إلى الناس المعلومات والمعارف ، ولكن حجم هذه المعارف إن لم يكن لها منهج جامع يرجع إليه في ضبط التصورات والتصديقات ، فإنها ستكون عبئا على صاحبها ، وطريقاً إلى الخطأ والانحراف بل والضلالة .. وعليه فإني سأركز في هذه الدراسة السريعة القصيرة على بعض المؤاخذات المنهجية على الدكتور ، ولعله يعقبها إن شاء الله دراسة موسعة لكثير مما يطرح في موضوع" معاوية رضي الله عنه " ، وفي غيره ، حتى يكون هناك مجال أكبر أمام الجيل للمقارنة والمدارسة ، وحتى لا يوجد مصدر التلقي لطليعة الشباب الجديدة في موضوعات مهمة كهذه ، والحكمة في النهاية ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها ..
أولا : الأصابع الأموية في كتابة السنة :
حين يمر حديث يعكر على الدكتور عدنان صفوه في تأصيل فكرته التي يريدها ، مباشرة يحيلها إلى " مؤامرة أموية " ، هي التي " دست " هذا الحديث في التاريخ ، حتى تنتصر لطرف على طرف في الصراع الذي جرى بين الصحابة ، وكثير من الكتاب الذين هم على شاكلة الدكتور عدنان يستخدمون حاسة " الشم " بدلاً من المنهج العلمي في بيان الدور الأموي في كتابة الحديث ، وهذه الطريقة " الذوقية أو الشميّة " هي محاولة لأن يبدوا أمام الناس سالمين من التناقض ، ولذلك يبطل كثيراً من السنة والأحاديث بدعوى أن هذا من صنع بني أمية ، وينسى الدكتور عدنان ، أنه بالقدر الذي يظن أنه يهدم مناهج المخالفين بهذه الطريقة هو يهدم منهجه كذلك وإليك البيان :
ينطلق الدكتور عدنان من موقفه من معاوية رضي الله عنه بأنه " منافق " لم يدخل الإيمان في قلبه من قول علي رضي الله عنه : ( والله إنه لعهد النبي الأمي إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ) ، ثم تأتي المعادلة المنطقة عنده كالآتي : لا يبغض علياً إلا منافق ، معاوية يبغض علياً = معاوية منافق .
هذا الأصل الذي ركن إليه الدكتور عدنان في موقفه من معاوية رضي الله عنه جعله يتعامل مع الأحاديث التي وردت في فضل معاوية رضي الله عنها تعاملاً عجيباً ، فكل حديث يأتي في " فضل معاوية " هو حديث أموي ، وكل حديث يأتي في " الحط من معاوية " هو حديث في قمة الصحة والسلامة ، فحتى الأحاديث التي جاءت مؤولة بأنها دلالة على فضل معاوية كحديث : ( لا أشبع الله له بطناً ) لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (عن عائشة رضي الله عنها قالت:دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان. فكلمها بشيء لا أدري ما هو. فأغضباه. فلعنهما وسبهما. فلما خرجا قلت: يا رسول الله! من أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان. قال "وما ذاك" قالت قلت: لعنتهما وسببتهما. قال "أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم! إنما أنا بشر. فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا"
رواه مسلم
وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" اللهم فأيما مؤمن سببته، فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة "
إن مثل هذا الحديث ينغص على الدكتور عدنان حياته ، لأن فيه قلب لحديث ( لا أشبع الله له بطناً ) ، فإن كان ظاهره دعاء على معاوية رضي الله عنه ، إلا أنه من زاوية أخرى فيه تزكية له ، لأن هذا ما شارط النبي صلى الله عليه وسلم ربه بأن يجعل من سبه أو لعنه يكون هذا السب واللعن زكاة وأجرا ، بل وقربة إلى الله يوم القيامة ، ولو كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لتمنينا إن يسبنا إن كان هذا هو حال من يسبه عليه الصلاة والسلام .
ماذا سيصنع إن الدكتور عدنان في هذا الحديث ؟
1:
يحاول أن يبطله بتكلف النكارة ، فهو يستغرب كيف يغضب النبي عليه السلام ، وهنا تجرأ وجرد النبي صلى الله عليه وسلم من إنسانيته ، وجعله لا يغضب ولا ينفعل ، ونسي أن الله تعالى أرسل إلى الناس " بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " ، وأنهم يعترضهم ما يعترض البشر من العوارض إلا أنهم لا يقرون على الخطأ إن وقع منهم ، وتناسى الدكتور أن موسى كليم الرحمن ، ومن أولي العزم من الرسل في القرآن – حتى لا يقول أن هذا من صنع بني أمية – ألقى الألواح وفيها كلام الله من الغضب ، وأخذ بلحية نبي ، و ( رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً ) ، وان الغضب الذي يقع من النبي لا يقلل من مكانته لبشريته ، ولذلك قلب الله ما يحدث من النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين في زمانه ليكون لهم زكاة وتطهير ورحمة وقربى إلى الله .
2:
جعل هذه الأحاديث من صنع بني أمية ، وهي في الصحيحين الذين اتفق أهل السنة على صحة أحاديثهما في الجملة ، ولا يدري عدنان إبراهيم مآلات وعاقبة هذا المنهج " الذوقي " الخالي من المنهجية العلمية ، فإن كان يرى أن بني أمية يحيكون المؤامرات لإدخال الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلماذا إذن لم " يمحوا " الأحاديث التي في ظاهرها مؤاخذة لمعاوية رضي الله عنه ؟ لماذا رووا فضائل علي ؟ لماذا لم ينكروا ويخفوا الحديث الذي رواه سعد بن أبي وقاص في فضائل علي في مجلس معاوية نفسه ، فقد روى مسلم في صحيحه قال :حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد وتقاربا في اللفظ قالا حدثنا حاتم وهو ابن إسمعيل عن بكير بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال :
" أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال ما منعك أن تسب أبا التراب فقال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له خلفه في بعض مغازيه فقال له علي يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال ادعوا لي عليا فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه ولما نزلت هذه الآية فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي " !!..
3:
إن كان يقرر عدنان هذه المنهجية في تناول الحديث بعيداً عن منهج أهل العلم ، فحتى مخالفوه وخصومه يمكن أن يمحوا كل حديث ورد في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنفس الحجة نفسها حذو القذة بالقذة ، فالحديث الذي جعله عمدة في فضل علي رضي الله عنه ، وبسببه طعن في معاوية رضي الله عنه جاء بأسانيد كلها لا تخلو ممن رمي بالتشيع ، فحديث ( إنه لعهد النبي الأمي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ) جاء في صحيح مسلم من طريق الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي به ، ومعروف أن عدي بن ثابت شيعي فقد قال الدار قطني أنه (يفرط في التشيع ) ، وقال الذهبي : ( شيعي جلد ) ، ولو طبقنا منهج الدكتور عدنان عليه لقلنا بأن هذا الحديث ماهو إلا صناعة المتشيعة الذين يريدون أن يعظموا علياَ عليه السلام من جهة ، ويحطوا من قدر خصومه من الجهة الأخرى، ولذلك انتقد الدار قطني هذا الحديث في الالزامات والتتبع ، وأعله بعدة علل ، ومع ذلك لم يكن أهل الحديث والعلم يسيرون على منهجية عدنان ابراهيم في الذوقيات ، والشم ، أو لعل هناك من دس أو افترى أو صنع أو تآمر ، بل هم يسيرون على منهجية علمية دقيقة ، ولو أراد أحد أن يعامل الدكتور بمنهجيته لهدم الأصل الذي يتكئ عليه ولم يبق لعلي فضائل تذكر ، ولربما جاء الخارجي والناصبي المبغض لعلي عليه السلام وعامل الدكتور بنفس منهجيته ولا بد أن يسقط في يده حين يدعي بلا منهج ولا سبيل قويم بأن فضائل علي كذبها وافتراها شيعته ومحبوه .
إن الذي لا يسير على منهجية علمية سيجد الحفر أمامه كثيرة جدا ، فالذي يريد أن يسقط حديث علي الآنف الذكر سيجد له مبررا لوجود شيعي غال في سند الحديث ، وهو قرينة قوية على انه روى ما يعزز رؤيته العقدية ، ولذا لم يرو البخاري له شيئا مما يؤيد بدعته ، ومسلم أخرج له في الشواهد والمتابعات ولم يخرج له في الأصول ، ولكن أين المنهجية العلمية التي مضى عليها عدنان إبراهيم في رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمن سبه ولعنه ؟ أين هي القرينة التي تدل على تدخل أحد من بني أمية في الحديث ، فالحديث لم يرو في لعن معاوية وسبه ، بل في لعن رجلين آخرين .. ولكنها المنهجية العرجاء التي تودي بصاحبها في غياهب الجهالة من حيث يدري ولا يدري ، ولربما لا يدري الدكتور بان رأس بني أمية معاوية رضي الله عنه هو الذي قال كما جاء في عند الإمام أحمد بسند صحيح :
" رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يمص لسانه أو قال شفته ( يعني الحسن بن علي ) عليهما السلام ، وإنه لن يعذب لسان أو شفتان مصهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم " !!..
إن هذه العماية الايدلوجية التي يقوم بها عدنان ابراهيم في موقفه من معاوية رضي الله عنها تنطلق من موقف إيدلوجي بسيط ، وقد يكون موقفاً سياسياً في بادي الأمر جعله ينكفئ على التاريخ ليتلمس مشكلات الماضي وأثرها على الحاضر ، ثم تبدأ تكبر في خلده إلى أن تصل به إلى إحراق التاريخ ، والضلال الواقعي، فموقفه مثل موقف الشيعة من التاريخ الإسلامي ، جعلوه كله صنيعة من الملوك والخلفاء ، أدى بهم ذلك إلى موقف سلبي من الصحابة ، ثم تدرج بهم الأمر إلى النكاية بالسنة ، والتشكيك بها ، كل ذلك نصرة لفكرة هي قائمة في أصلها على أساس هش لا يقوى على مواجهة الحجج والبراهين ، وكثير ممن يبدأ باللمز في معاوية ويتحمس للتحيز إلى أحدى الطائفتين المتناحرتين سيجد نفسه غالياً في هذا الطرف إلى درجة تحطيم كل ما أمامه من منغصات تقف في طريق تمرير فكرته ، وها هو حسن المالكي كمثال بدأ بموقف بسيط من معاوية ثم تسلسل به الحال إلى لعنه والشناءة عليه وإخراجه من دائرة الصحبة والحكم بنفاقه ، وهاهو عدنان يسير بنفس الطريق ، مخالفين بذلك قول علماء الأمة من زمن الصحابة ، منطلقين من " غلو " في الموقف من آل البيت ، مزايدين على علي والحسن والحسين موقفهم من الفتنة ، حتى وصل الحال بالمالكي إلى إخراج جماعات من الصحابة من مفهوم الصحبة الشرعية ، وقد تكلف العناء والكد حتى يقنع الناس بأنه ليس كل من لاقى النبي وآمن به هو صحابي شرعي ، فصارت فكرة إيدلوجية تحيزية صغيرة تضخمت عنده قاضية عليه وعلى سلامة منهجه ، مفاصلة له عن أمته وبيئته ، قد شط عن السبيل ، ولن يقف إن سار على هذا النهج إلا على منهج الرفض المحض إن لم يتدارك نفسه ويلجمها بلجام العقل والحكمة والعلم .
ثانياً : ماهي القضية عند الدكتور عدنان ؟
حتى نستطيع فهم الموضوع بدقة لابد أن نؤصل تساؤلاً معرفياً وضرورياً ، لماذا يلجأ سني مع أن " المقرر " عند أهل السنة قاطبة فضل معاوية وصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن هذا قدر يمايزون فيه المتشيعة ، وأنهم وإن خطئوه وانتقدوه في بعض التصرفات ، ورأوا مخالفته في التوريث ، ونطقوا بذلك ، بل يكادون يجمعون بأنه هو ومن معه هم " الفئة الباغية " ، وأن علي وصحبه هم الطائفة المحقة ، وأنهم يجمعون ويتفقون على أن علي خير من معاوية بغير مقارنة وأنهم يفاصلون " الناصبة والخوارج " الذين لهم موقف سلبي من آل البيت ، ويرون أنهم ضلال ومبتدعة .. ويخالفون المعتزلة الذين " يفسقون" من اقتتل من الصحابة ، فكيف يدعي رجل " سني " كما يدعي ويلجؤه إلى الطعن في معاوية ، بل والحكم عليه بالكفر والنفاق والضلال كالدكتور عدنان إبراهيم ؟؟
هناك منطلقان ينطلق منهما كل من طعن في " معاوية " رضي الله عنه في القديم والحديث ، بل ليس في معاوية بل في عموم الصحابة الكرام والذي من خلاله نشأت فرقاً كثيرة في الواقع الإسلامي منذ زمن الصحابة إلى الآن :
# المنطلق الأول:
التشيع لعلي عليه السلام وآل بيته (عقدي) ، ولا نقصد في التشيع هنا " محبة آل البيت وولاؤهم وتعظيمهم " فإن هذا قدر متفق عليه عند كل أهل الإسلام ، وإنما يقصد في التشيع ما جاء من إفرازات قضية " الإمامة والعصمة والنص والوصاية " ، والتي تنطلق من كون علياً أفضل الصحابة ، وأحق بالإمامة ، وكانت بداية التشيع هذا بداية غالية في زمنه رضي الله عنه ، فقد ظهرت السبئية الذين عظموه حتى خرجوا به من إطاره البشري إلى تأليهه وعبادته ، ثم ظهرت فرقاً أخرى تزيد وتنقص في درجة الغلو في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وهذا المنطلق أحدث شرخاً كبيراً في جسد الأمة ، وانقسمت الأمة إلى ( شيعة ) و ( سنة ) يعاني الناس من ويلاتها إلى الآن ، وقد ظهرت الفرق التي أوصلها أهل الفرق إلى قرابة السبعين فرقة كلها تتمحور حول ( تعظيم علي وآل بيت النبي ) ، واقتضى ذلك مقتضيات كثيرة من الموقف السلبي من الذين اختلفوا وتقاتلوا معه من الصحابة ، ووصل إلى تكفير وسب والشناءة على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة الكرام ، وقد صاحب ذلك غلوا في آل البيت نقلهم من الطبيعة البشرية إلى " العصمة "المطلقة ، وإدعاء رجوعهم في آخر الزمان ، وأن الإمامة لا تصلح إلا بهم ، ثم ظهرت فكرة " المهدية " و" الاثنا عشرية " وغيرها من المسائل الذي ليس هذا مجال تفصيلها والحديث حولها ، فكانت الخصومة مع " معاوية " رضي الله عنه ومن كان معه من الصحابة من منطلق عقدي أصلي يقوم على أصول ومنطلقات ظاهرة وواضحة بحيث لا يشتغرب من الشيعي أن يطعن في معاوية بهذا الاعتبار .
# المنطلق الثاني (سياسي):
وهذا لا يقتصر على الشيعة الذين تشيعوا لعلي وغالوا في التشيع ، بل هؤلاء السياسيون حتى من أهل السنة يرون أن معاوية رضي الله عنه قد أحدث خطأ كبيراً في نقل " الخلافة الراشدة " إلى " ملك ووراثة " ، ويرون أن كل قضية سياسية منحرفة في الأمة هي من ذلك التصرف الذي وقع من معاوية رضي الله عنه باستخلافه لابنه يزيد بن معاوية ، وخاصة الذين تحمسوا لفكرة الديمقراطية ، ورأوا ان تأصيلها يأتي من خلال ( سنن الخلافة الراشدة ) والتي أفسدها معاوية رضي الله عنه ، وخاصة ( الاختيار ) ، وعليه فإن ( هدم ) فكرة ( التوريث ) التي بدأت مع بني أمية ، ومن معاوية حتى سبيل التحديد والذي يتذرع به من يرى " شرعية الأنظمة الوراثية " ، وعليه فإن " الانقضاض " على معاوية وبني أمية شرط لهدم هذه الفكرة ، ومن ثم إقناع الناس بأن " الملك والتوريث " بدعة وخطراً تسقط الشرعية .
ماذا صنع السياسيون في هذا الأمر ؟
لقد وظفوا " مجمل " الصراع بين السنة والشيعة ونصوص الطرفين لصالح رؤيتهم السياسية ، فاستفادوا من " التراث الشيعي " من خبرته بــ( النكاية في معاوية ) ، ووظفوا ولا بد لهم حتى يتحقق هذا أن يلجأوا إلى عملية " تأويلية " للنصوص التي تنكأ في معاوية –ظاهراً - ، والتي تدينه لاجل إسقاطه ، ولذلك حين تقرأ لأحدهم لا تدري هل هو سني أم شيعي ، فهو يدعي أنه سني ، والمنهج الذي يسير عليه في تناول النصوص شيعي ، ولذلك وجدت الحيرة من هؤلاء هل هم سنة أم شيعة ؟
وحتى يتم لهم الأمر ، فإن الأمر الذي لا يمكن قبوله أن الهجوم على" معاوية " غير مبرر إن كان صحابي وعلي صحابي ، اختلفوا ، وانتهى الأمر ، ومنهم المصيب ومنهم المخطئ ، وهذاقد ألجأهم إلى النكوص إلى " المنطلق الشيعي " في تعظيم علي ليعظم جرم معاوية ، ولا بد لهم أن يفعلوا ذلك شاءوا أم أبوا .. فكان المنطلق أن " علي لا يحبه إلا مؤمن .. ولا يبغضه إلا منافق " !!!..
في هذه اللحظة التي يلتقي فيها الطرفان يبدأ " التحيز " إلى الصف الشيعي بلا شعور ، لأنه يشعر أن المنطلق والغاية واحدة ، مع إدعاء الفريق السني بأنه يرفض التشيع أو الرفض – أي التعدي على الشيخين ابي بكر وعمر والصحابة – ولذلك يختلط عند الناس الشيعي من السني في هذا الباب الدقيق .
ولذلك يندر من سياسي يرشح " الديمقراطية " ويجعلها هي (الاختيار ) الذي حصل في وقت الخلافة الراشدة إلا وينال معاوية بسوء ، فحتى بعض الإسلاميين والإصلاحيين يرون أن قضية معاوية هي قضية أصلية ، وعلى طريقة "السياسيين " ، فإن تحطيم الأصنام التي تقف في طريق إيدلوجيتهم مهمة حتى لو نزعوا نزوعاً غير أخلاقي في التعامل مع هذا المخالف ، بل حتى لو كان صحابياً اتفق أهل السنة على صحبته واجتمع الصحابة عليه في ( عام الجماعة ) ، وأثنى عليه الأئمة الكبار ، بل جعلوا الموقف منه فيصلاً بين السني والمبتدع ، ومن هذا المنطلق نستطيع أن " نفهم " منطلقات هؤلاء السياسيين في الموقف من معاوية بله والأمويين عموما .
يقول الدكتور عدنان إبراهيم في أحد أوصافه لمعاوية رضي الله عنه في سلسلته المرئية في صفحته في الجزء الثاني أنه (بداية كارثتنا ) وهو يقصد في الجانب السياسي وقضية التوريث وإنتهاء العصر الراشدي ، وهذا يؤكد على قضية ذكرتها في الحلقة الثانية بان الموقف السياسي الإيدلوجي يشكل رؤية عقدية في الموقف من الصحابة ، ويظن الدكتور عدنان أنه بمجرد أن يسقط معاوية أو يحكم عليه بالضلالة والخطأ والانحراف بله والنفاق بأن أمورنا ستصبح تمام التمام ، ولذلك حرث في التاريخ ليصل إلى هدم " بني أمية "حتى تخرج الأمة من " الكارثة " هكذا يخيل للدكتور عدنان ، وهكذا أملى عليه عقله وضميره ، وهكذا درس قضية معاوية في التاريخ ، وسوف آتي إن شاء الله على قضية " التوريث " ودراستها شرعياً وعلمياً بعد أن أكمل حلقات النقاش المنهجي مع الدكتور عدنان في بعض رؤاه .
ثالثا : التأصيل المعــــّوج :
لا ينقضي عجبي من حجم التجاوزات المنهجية في كلام الدكتور عدنان ، وخاصة في فهم كلام أهل ( الحديث ) ومنهجهم في القبول والرد والحكم على الرجال ، وخاصة حين يترك الإنسان الإنصاف من نفسه والذي يخرجه من نزعات الهوى والتشهي ، وعلامة ذلك هو : إبراز الأقوال التي تؤيد فكرته ، ومحاولة إخفاء كل قول ينقض كلامه ، وكان الحري بالدكتور وهو يتكلم عن قضية حساسة مثل هذه أن يأتي بالأقوال التي تنقض كلامه ويرد عليها حتى يحقق " الاتساق المنهجي " ، ويسلم من "التناقض المعرفي " ليكون لكلامه قوة وقبولاً ومن ذلك :
1-
الجهل بأبجديات علم الحديث ، فالدكتور عدنان يظن أن : كل راوٍ يخرج له أصحاب الكتب الست وأهل الحديث يدل على " سنيته " ، ثم يخرج بنتيجه بأن موقفه من معاوية رضي الله عنه يعبر عن قول سني ، ولا يدري بأن أهل الكتب الستة وغيرهم يخرجون للرجال حتى لو كانوا خوارج أو روافض أو شيعة أو قدرية ما دام يتحقق عندهم شرط الإتقان والضبط ، وينقلون عن أناس حكموا عليهم بالبدعة والضلالة ، بل إن بعضهم يروون عن بعض المبتدعة ويقبلون حديثهم حتى فيما ينصر بدعتهم إذا رأوا من القرائن والأدلة صحة الرواية ، او يذكرون روايات هؤلاء في كتبهم لانهم لم يشترطوا الصحة فيما ينقلون ، وهذا يدل على ان أهل الحديث يملكون منهجاً معيارياً علمياً دقيقاً في القبول والرد للروايات ، لا يحكمون على الروايات بالتشهي أو الموقف العقدي ومخالفة الناس لهم ، ولولم يكن إلا هذا الدليل لكان كافياً على إنصافهم ، ولا يدعي أحد بأن مجرد إلتحمل عن الراوي هو حكم بصحة عقيدته أو تصرفه إلا رجل لم يعرف طرائق أهل الحديث في الحكم على الرجال ، ولذلك يكرر دائما هذه المقولة حين يذكر أي راو تعدى على معاوية بأن ( أصحاب الكتب السنة أخرجوا له ) ، ولا يدري بأن أهل أهل الحديث تحملوا عن أناس أشد من مجرد الطعن في معاوية ، بل في أناس تعدوا على عثمان حين رأوا ضبطهم وإتقانهم بما يروون حتى ولو كانوا يقعون في الشناعات العقدية وإليكم هذا المثال :
عبد الرحمن بن صالح الازدي ـ
هو ابو محمد الكوفي . ذكره صاحبه وتلميذه عباس الدوري ، فقال : كان شيعيا ، وذكره ابن عدي فقال : احترق بالتشيع ، وذكره صالح بن جزرة فقال : كان يعترض عثمان ، وذكره ابوداود فقال : الف كتابا في مثالب الصحابة ، رجل سوء ، ومع ذلك فقد روى عنه عباس الدوري والامام البغوي ، وأخرج له النسائي . وذكره الذهبي في ميزانه فوضع على اسمه رمز النسائي ، اشارة إلى احتجاجه به ، ونقل من اقوال الائمة فيه ما سمعت . وذكر ان ابن معين وثقه. وأنه مات سنة خمس وثلاثين ومئتين ، وكان يجالس الإمام أحمد ، وقد قال ابن معين عنه لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم – أو كما قال – فهل يصح أن يقال للأزدي الذي يؤلف في مثالب الصحابة ، ويعترض عثمان ذي النورين أن يقال بأنه سني لمجرد رواية أهل الحديث عنه في كتبهم ثم يصحح فعله ويحتج به ؟
ولو ذهبت أستقصي من كان رافضي غاليا في رجال الكتب الست لطال المقام ، ولكن لأشير إلى أن هناك خلل في فهم معنى " رجال الحديث " ، وخلل كذلك في معنى " التحمل " ومنهجية أهل الحديث في قبول الأخبار ، وهذا ما أوقع الدكتور عدنان في هذه الطامات الكبيرة والأغلاط المنهجية .
2-
إخفاء الحقائق و نقص الأمانة العلمية والإيهام بسنية الرجل لمجرد طعنه في معاوية ، ولعلي أقف عند هذا المثال الذي ذكره الدكتور عدنان إبراهيم حين تكلم عن ( عبيدالله بن موسى العبسي مولاهم ) ، فهو يبدأ بمقدمة طويلة في ثناء أهل العلم عليه حتى يقنع القارئ بأن ( سنياً ) يطعن في معاوية فقدم أنه إمام ثقة (أخرج له الكتب الستة – وهي عنده كافية كما بينت سابقاً بسنية الرجل وسلامة معتقده) ثم يأتي بمن أثنى عليه من العلماء في الضبط والإتقان ، وبعدها يخبرنا أن هذا (السني ) كان يكره معاوية بل لا يحدث قوما فيهم اسم معاوية ، بل لا يدخل أحدا اسمه معاوية في بيته ، وليت الدكتور علق تعليقاً تربوياً برد هذا "الغلو " حتى لو كان يكفر معاوية ، لأن هذا يدل على مبالغة في المواقف ، وكرها خارجاً عن الإطار الشرعي ..
المهم .. أن عدنان ابراهيم غفل وهو يخبر عن هذا الكوفي بقول ابن مندة بــأنه ( معروف بالرفض ) ، ولكنه احتفى بقوله بأنه لا يحدث قوماً فيهم اسم معاوية ولا يدخل أحدا في بيته بهذا الاسم ، فلم لم يقف عند قول ابن مندة ( معروف بالرفض) ، وهل ينتظر من رجل معروف بالرفض إلا سب معاوية بل وتكفيره والشناءة عليه ؟ ولماذا لم يذكر بأن الإمام أبو داوود قال عنه : شيعي محترق ؟ ولماذا حين ينقل أن الإمام أحمد كان يدل الناس عليه أن يذكر أنه قال عنه : ( حدث بأحاديث سوء وأخرج تلك البلايا فحدث بها ) ؟ إن هذا نوع من التدليس الخفي لتمرير الأفكار المقررة سلفاً ، ولذلك ختم الدكتور عدنان كلامه عن عبدالله بن موسى بقوله :
( موجود من ( أهل السنة ) ومن رجال الكتب الستة ، ومن شيوخ البخاري ، وشيوخ أحمد من كان منحرفاً جداً عن معاوية ) ؟ وهذا تدليس ظاهر في تقرير أن من أهل السنة من كان يتهم معاوية في دينه أو يتنقص منه أو ينحرف عنه .
وإن كانت هذه الجلالة للأئمة والتي جعلته يعظم من أخرجوا له ليدل على " سنيته " فلم غفل عن أقوالهم فيمن تكلم عن معاوية وفي الثناء عليه ؟ أم هو الهوى ؟ أين هو عن قول الإمام أحمد حين سئل عمن يقول بأنه لا يقول أن معاوية كاتب وحي ، أو لا أقبل أنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصباً فقال : ( هذا قول سوء رديء ، يجانبون هؤلاء القوم ، ولا يجالسون ، و نبين أمرهم للناس ) كما في السنة للخلال ؟ ولماذا إذا كان يعظم أهل الحديث ويكتفي بإخراجهم للرجال أنه تزكية له لم يقبل قول عبدالله بن المبارك وهو أمير المؤمنين في الحديث في معاوية رضي الله عنه : (معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه على القوم ، يعني الصحابة ) ؟ أليس هؤلاء من أئمة السنة ومن أعظم المحدثين الذين نقلوا السنة وهم أعلم بما ينقلون من غيرهم ؟أم هو التشهي والهوى ؟
إن صنيع الدكتور عدنان مع عبيدالله بن موسى صنعه مع غيره في إخفاء" تشيعهم " ، وإيهام الناس بأنهم " أهل سنة" ، كما فعل مع جريرالضبي الذي كان يشتم معاوية ، وكما فعل مع " غسان النهدي " الذي فيه تشيع ، ثم يأتي بهؤلاء الشتمة الذين خالفوا الهدي النبوي في حرمة السب والشتم بسبب بدعتهم ، ولذلك فمن التناقضات أنه حين قرأ شتم أبي جريرالضبي لمعاوية قال : ولا نقر الشتم ، ثم بعد قليل وهو يتحدث عن ( ابي الغسان النهدي ) وأن الذهبي قال بأنه كان ينال من معاوية قال الدكتور عدنان إبراهيم ( وهذا ما نريده ) أي النيل من معاوية ، فأخبرنا يا دكتور هل أنت تريد الشتم أم لا تريده ؟ فهو يقول ( نازلين في معاوية وجماعته ثم يقول : ( كويس ) .. فما أقبح التناقض .
3-
ومن الأمثلة الدالة على عملية " الإخفاء " المتعمد للأقوال التي تعكر صفو الدكتور وتقف أمام ما يريد أنه حين تحدث عن ( يحيى بن عبدالحميد الحماني ) قال :
أخرج له مسلم حديثاً واحدا ، وهذا كذب وزور ، فلم يخرج للحماني هذا أحد من الكتب الست ، لضعفه ، وإنما ذكره الإمام مسلم فقط في ضبطه لاسم راو فقد قال الإمام مسلم بعد سوقه لحديث إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي ابواب رحمتك قال: سمعت يحيى بن يحيى يقول : كتبت هذا الحديث من كتاب سليمان بن بلال ، قال :وبلغني أن يحيى الحماني يقول : وأبو أسيد . فلم الإيهام بأن الإمام مسلم أخرج له ؟
ثم ذكر أن الحماني هذا يقول : ( مات معاوية على غير الإسلام) ، وقد فرح الدكتور عدنان بهذا لأنه وفي سبيل نكايته بمعاوية يقبل الانحرافات ، ويقبل التكفير والقطع بالموت على غير الإسلام ، وهكذا يفعل الهوى بصاحبه ، يرديه إلى مهاوي الردي ، ويقبل الموبقات حتى يتحقق له ما يريد ، وإلا كيف يقبل هذا الكلام من رجل شيعي يغلو في الخصومة حتى يشابه الخوارج في التكفير ؟ ثم يقبل منه الدكتور بسرور ، فمن يميل عن عثمان لا يستغرب منه أن يكفر معاوية ، فقد قال أبو داوود سألته – أي الحماني – عن حديث لعثمان فقال : تحب عثمان ؟
أوليس الذي لا يحب عثمان سيكفر معاوية ؟
وهنا يعود الدكتور لإخفاء الحقائق التي لا يريدها من جديد ، فلم لم يذكر بعد قوله ( مات معاوية على غير الإسلام ) قول أحمد بن محمد بن صدقة وأبو شيخ ، عن زياد بن أيوب دلويه ، سمعت يحيى بن عبد الحميد يقول : مات معاوية على غير ملة الإسلام . قال أبو شيخ : قال دلويه : كذب عدو الله . فأين هذه العبارة ، لم أخفاها ؟ لم لم يذكر أن من يقول هذا هو : عدو لله كما ذكر ؟
4-
الضعف في فهم الكلام ، وإخراجه على غير ما يراد منه ، وهنا سأذكر مثالا ذكره الدكتور عدنان عن " الإمام النسائي " ، وكالعادة فهو يقدم مقدمة ينفخ فيها من يشاء حتى يتقبل الناس قوله حتى لولم يفهمه ، فهو يريد أن يقرر بأن الإمام النسائي يطعن في معاوية ، فقال : (أنَّ محمد بن إسحاق الأصبهاني قال: "وخرجَ إلى دمشق، فسُئِلَ بها عن معاويةَ بنِ أبي سفيان، وما رُويَ من فضائلِه؟ فقال: ألا يَرْضَى معاويةُ رأسًا برأسٍ، حتى يُفضَّل؟ فمازالوا يدفعون في حِضنَيْهِ حتى أُخرج من المسجد، ثم حُمِلَ إلى مكةَ ومات بها".
فقال عدنان إبراهيم في أثناء ذكر هذه الحادثة عن الإمام النسائي : ( معنى الكلام إنكم تسكتوا عن معاوية ، إحنا ساكتين عنه ، وخلاص ، بدكوا أفضليات إليه ، فضائل معاوية ؟ إله فضائل ؟ ) ، ثم ذكر في الرواية الأخرى أن من فضائله التي ذكرها النسائي لا أشبع الله له بطنا ، وبعيداً عن مقصد الإمام النسائي من عدم ذكره لفضائل معاوية عند أناس نواصب يغلون فيه ويكرهون خصمه وان هذا قد يزيد من غلوائهم في بدعتهم أو منكرهم ، وأنهم قد سألوه عن فضل معاوية ليكون بمنزلة فوق منزلة علي بن ابي طالب عندهم وذلك يفهم من قوله : ( رأساً برأس) ، وهو قد ذكر في كتابة " خصائص علي رضي الله عنه " أن الذي حمله على التأليف أنه حين دخل دمشق كان المنحرف فيها عن الإمام علي كثير فضنفت كتاب الخصائص رجاء أن يهديه الله " ، أو أنه لا يقصد من قوله : لا أشبع الله له بطناً أنه فضيلة بناء على مشارطة النبي صلى الله عليه ربه أن يجعل من سبه قربة له وزلفى ، وما قيل في تشيع الإمام النسائي الخفيف ، لماذا نغفل عن تصريح الإمام النسائي نفسه بجلالة قدر الصحابة بما فيهم معاوية رضي الله عنه ؟ فقد علق الإمام الحافظ ابن عساكر رحمه الله على قول الإمام النسائي فقال : (هذه الحكاية لا تَدلُّ على سوءِ اعتقادِ أبي عبد الرحمن في معاوية بن أبي سفيان، وإنما تَدلُّ على الكفِّ في ذكره بِكُلِّ حال" ثم روَى بإسنادِه إلى أبي الحسين علي بن محمد القابسيِّ قال: سمعت أبا عليٍّ الحسن ابن أبي هلال يقول: سُئل أبو عبد الرحمن النسائي عن معاوية بن أبي سفيان صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما الباب كدار بها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذَى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب؛ إنما يريد دخول الدار، قال: فمن أراد معاوية، فإنما أراد الصحابة ) كما في تهذيب الكمال.
فإن كان عدنان إبراهيم يرى أن الإمام النسائي بهذه الجلالة وعظيم القدر في السنة ، فلم لم يأت بقوله هذا في الصحابة ومعاوية ؟ أم هو التوظيف المتطرف للنصوص في تأييد فكرة قائمة على شفا جرف هار ، لا يقويها في أنظار البسطاء إلا تمويهات وإخفاءات تنكشف عند مناقشتها بدقة منهجية ، فيظهر الزيف ، وتبين الحقائق .. ويتضح الحق والصواب .
نصيحة ذهبية :
يقول الدكتور عدنان إبراهيم: (لا تغتروا بي ولا بغيري ، كونوا أيقاظاً ، كونوا مفتحين ، لا تسحموا لاحد أ يدلس عليكم ولا تسمحوا لاحد أن يزيف وعيكم)
واستجابة لهذا التوجيه الجميل من الدكتور ، فإني أقوله له : قطعاً لن نسمح لأحد أحد يدلس علينا ، او يغيب عقولنا ، وهي دعوة تحرر العقل من التبعيات الجاهلية والعمياء ، فإن كان الدكتور مقتنع جداً بهذه الدعوة ، فإن هذه الحلقات هي تطبيق عملي لهذه الدعوة المباركة ، وتحقيق لأمنية يريد أن يراها في شباب المسلمين.. وإنا نشاطره هذا الهم في التحرر العقلي ، والفكر النقدي الذي لا تغره نبرات العاطفة ، أو الدعاوى العريضة ، أو التأثير النفسي ، إذ لا بد أن يكون قادرا على" التنبيش " على المسائل حتى يكشف التدليس ، ليسلم من التغييب التزييف .
رابعا : التركة المعلونة :
يقر الدكتور عدنان بان قضية البحث فيما جرى بين الصحابة ، ومسألة الموقف من معاوية هي قضية " غير ذات موضوع " ، أي أنها لا تشكل حيزاً واقعياً ملموساً ، ولكنه يرى في نفس الوقت أن القضية هي التي جرت علينا الويلات الكثيرة ، فكل مآسي الأمة التي نعيشها هي بسبب " معاوية " ، كل بلاوينا الكبيرة والصغيرة ، تخلفنا ، فقرنا ، تأخرنا عن ركب الحضارة هو بسبب معاوية وما أحدث وبدل ، ولذلك يرى أن معاوية قد خلف لنا تركة ( ملعونــة ) ، يمثل ( الحكم الاستبدادي ) ، ثم يخلص إلى نتيجة مفادها أن مناقشتها ، وإقناع الناس بأن معاوية " صعلوك " ، وانه " منافق " ، وأنه " غير صحابي " ، وأنه " أحدث وبدل" ، هو الذي سوف ينتشلنا مباشرة من حالة التخلف والرجعية ، إلى حالة النهضة والتقدم .. إذا نحن آمنا بما يقوله في الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه ..
أين هو الخلل في هذه القراءة ؟
إن الخلل الذي وقع فيه عدنان إبراهيم ليس حكراً عليه وحده ، بل هو خلل يعتور أكثر " السياسيين " الذي لا ينظرون إلى " تاريخينا" إلا من ثقب الصراع السياسي ، والحكام ، والولاة ، والحروب والصراع والدماء ، إنها قراءة " سوداوية " متشائمة ، تنظر إلى تاريخ المسلمين على أنه" بحر من الدماء " ، وأن المسلمين على مدار 1400 سنة كان كل همهم أن يقتل بعضهم بعضاً ، ولذلك فهم يقرأ اللحظة الارتكاسية للأمة سياسياً من لحظة" معاوية " ، وعليه فإننا نأسى على كل التاريخ الذي ورثنا هذه التركة (الملعونة !)
إن هذه القراءة التي يرسخها عدنان إبراهيم في وعي الجيل تجعله ينظر إلى أمته نظرة أزدراء ، وإلى التاريخ الإسلامي على انه تاريخ دموي بشع ، وهذا يعني أن " الإسلام " قد أفرز هذه البشاعة ، والنتيجة مؤداها أن الخلل هو في التكوين الأساسي الذي أفرز هذه البشاعات ، ولا شك أن هذا سوف يحدث شرخاً في الوعي ، وتزهيداً بتاريخ الأمة الإسلامية .
الإزراء بالتاريخ الإسلامي ، وتسليط الضوء والتركيز على "مشكلاته السياسية " امر ركز عليه الشعوبيون والمستشرقون الذين صوروا للناس ان الأمة الإسلامية أمة وحشية دموية تبحث عن القتل وتعشقه ، مع ان عقلاء المستشرقين ومنصفيهم يردون على هؤلاء حين يدرسون التاريخ دراسة متجردة عن الأهواء الإيدلوجية ، ويركزون على القراءة المعرفية التي تنظر بعيني الفكر ، دون أن تقولب التاريخ بإطار محدد ثم ترميه عن قوس واحدة .
إن التاريخ الإسلامي ليس هو تاريخ " السياسي " فقط ، إنه تاريخ حضارة ضربت أطنابها في الأرض ، وسادت الدنيا علماً ونوراً وهداية ، انارت العقول والقلوب في شرق الدنيا وغربها ، إنه تاريخ ( العلم ) المتراكم الذي أحدث أكبر موسوعة ( فقهية ) عرفها التاريخ ، أنه تاريخ ( التدوين ) الذي قعد القواعد ، وأصل الأصول ، وتنوعت فيه مذاهب الفكر والفقه والدراسة إنه تاريخ العلماء ، والمجاهدين والدعاة الذين ملؤوا الأرض نوراً وحقاً ، إنه تاريخ الفتوح والعدل والأمان ، تاريخ وجد فيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى الأمن والأمان الذي لم يحصلوا عليه في دارهم الأصلية ، إنه تاريخ الفكر والفلسفة والإنارة العقلية ، التاريخ الذي تلمست منه أوروبا منطلقات نهضتها ، واعملت سنن الكون لتقف على أقدامها وتدخل في عالم النهضة والتقدم المادي .
وحتى التاريخ السياسي لم يكن بهذه البشاعة التي يصورها الدكتور عدنان ، فحتــى معاوية رضي الله عنه " عدوه المفترض " حين يقرأ تاريخه السياسي بإنصاف ستتغير الصورة التي يريد أن يعممها ، لكنه حين يذكر في سياق واحد بأنه تاريخ ( القتل ، والخيانة ، والدجل ، والفتك بالخصوم ، والتآمر ) في سلسلة غير منتهية من التهم التي تصاغ في سياق واحد حتى يخلص الإنسان إلى نتيحة سوداوية لذلك التاريخ وهذه قراءة مجحفة وغير منصفة ، وفيها إخفاء متعمد لمن أنصف عهده وأثنى عليه ، فتاريخه ليش بشعاً كما يريد أن يصوره الدكتور عدنان ، فإن كان ينبش عن روايات ومقولات لبعض المتشيعة والرافضة في كره معاوية وثلبه والنيل منه ، فلماذا يعرض صفحاً عن نقولات وأقوال كثيرة في الثناء عليه ، لم يخفي تلك الأقوال التي تحدث على الأقل توازناً في نظر القارئ للموضوع محل البحث والنظر ؟
ألم يمر عليه ويقرأ قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في معاوية : (ما رأيت احدا بعد عثمان أقضى بحقّ من صاحب هذا الباب ، يعني معاوية رضي الله عنه )كما في سير أعلام النبلاء ؟
ألم يمر عليه مثلا قول قول ابن عباس في صحيح البخاري حين قيل له بان أمير المؤمنين معاوية يوتر بواحد ، فقال ابن عباس : ( إنه فقيه ) ؟
ألم يكن معاوية رضي الله عنه أميراً للشام في مدة طويلة تعلق فيه أهل الشام لحسن إمارته وعدله وحكمته وإدارته للأمور ؟ وكان هذا في زمن خير البشر بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم ؟ ما كل أولئك العلماء والمؤرخين والمحدثين الذين أثنوا على معاوية رضي الله عنه وأشادوا بإدارته للأمور ، فقد قال ابن القطقطا:
"وأما معاوية رضي الله عنه كان عاقلاً في دنياه لبيبًا عالمًا حاكمًا ملكًا قويًا جيد السياسة، حسن التدبير لأمور الدنيا عاقلاً حكيمًا فصيحًا بليغًا، يحلم في موضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة إلا أن الحلم كان أغلب عليه، وكان كريمًا باذلاً للمال محبًا للرياسة شغوفًا بها، كان يَفْضُلُ على أشراف رعيته كثيرًا، فلا يزال أشراف قريش مثل: عبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر الطيار، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأبان بن عثمان بن عفان، وناس من آل أبي طالب رضي الله عنهم يفدون عليه بدمشق فيكرم مثواهم، ويحسن قِرَاهم ويقضي حوائجهم، ولا يزالون يحدثونه أغلظ الحديث ويجبهونه أقبح الجَبَه، وهو يداعبهم تارة، ويتغافل عنهم أخرى، ولا يعدهم إلا بالجوائز السَّنِيَّة، والصلات الجمَّة... إلى أن يقول: واعلم أن معاوية رضي الله عنه كان مربي دول وسائس أمم، راعي ممالك، ابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه إليها أحد "
أولم ير هؤلاء الأشراف ( التركة المعلونة ) التي يتحدث عنها الدكتور عدنان ؟ أم جاءه من العلم مالم يأت من عاشره ورأى تصرفاته وأثنى عليه ؟ حتى قال ابن خلدون في وصف مدته : (وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة، التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يدًا، من أهل الترشيح من وَلَدِ فاطمة وبني هاشم، وآل الزبير وأمثالهم )
وقد يقول الدكتور بان هناك من ثلبه وتكلم به ؟ أوليست قواعد العدل والإنصاف والحق تقتضي أن نعامله بالأصل حتى يأتينا ( اليقين ) الذي ينقضه ؟ وهل اليقين الناقض للأصل تلك الروايات العليلة التي يتذرع بها الدكتور ؟
خامساً: عدنان إبراهيم .. والنزوع إلى غير الأصل .
من أبسط الأمور العلمية أن " الأصل " لا يقضى ليه بفرع، والكلي لا يقضى عليه بجزئي ، وما يصنعه الدكتور عدنان هو قلب المعادلة ، بحيث يجعل الفرع الجزئي قاض على الأصل الكلي ، فحين يتحدث عن معاوية يهمل " الأصل " فيه والذي عليه" أهل السنة " من الصحابة وكبار التابعين ، وأئمة المذاهب المتبوعة ، والعلماء القدماء والمعاصرين من أهل السنة والذين يرون أن معاوية رضي الله عنه من جملة " الصحابة " الكرام الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وشهدوا التنزيل ، وكتبوا الوحي ، ورووا الأحاديث ، وأن كل ما ثبت من " فضيلة " للصحابة فهو داخل فيها بالأصالة ، وأن هذا الأصل لم يخالف فيه إلا المتشيعة الذين ثلموه وسبوه ، أو الخوارج الذين كفروه .
إن هذا الأصل هو الذي يوافق الأصول الشرعية بأن من ثبت إسلامه بيقين فإنه لا يزول عنه وصف الإسلام إلا بيقين منه أو أعلى منه ، وأن من ثبتت له الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وآمن به ومات على ذلك فهو داخل في قوله تعالى :
( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزر فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجراً كبيرا ) ، وأن معاوية رضي الله داخل فيهم قطعاً ، وهو داخل كذلك في جملة الصحابة الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام : ( لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مث أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) ، وغيرها من الفضائل الكثيرة والتي امتن الله بها عليهم فصاحبوا محمدأ في حياته ، وشرفهم الله بالإيمان به فكانوا خير القرون .
إن هذا " الأصل " المقرر هو الذي كان عليه أهل السنة ، ولا ينقضه أن ينتقدوا صحابياً في موقف ، أو يرى خطأه في أمر أو اجتهاد ، فإن هذا كذلك أصل مقرر( نزع العصمة ) من الصحابة تنظيراً وتطبيقاً ، مع حفظ حقهم في التوقير والتبجيل حتى لو أخطأوا أو تنازعوا فهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر من النزعات والاختلافات في الآراء والمناهج والتصورات السياسية وغيرها.
إن صنيع الدكتور عدنان إبراهيم يتلخص في أنه نزع من هذا الأصل الأصيل والمتفق عليه عند أهل السنة إلى نقضه بالظن والتكلف ، فأعمل معول التأويل والعسف للنصوص حتى يطقبها على معاوية رضي الله عنه ليبدو أن كلامه متسقاً مع مقدمة خاطئة ، وأن كل أولئك العلماء والفقهاء الذين لم يصلوا إلى ما وصل إليه من نتيجة لم يفهموا مرادات النصوص ، ولا مقاصد الشريعة ، ولا فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمثلة ذلك :
1-
الاعتماد على الأدلة الضعيفة في الحط من قدر معاوية رضي الله عنه كحديث : ( أول ما يغير سنتي رجل من بني أمية ) ، والذي رواه ابو ذر رضي الله عنه ، والحديث رواه أبو العالية عن أبي ذر وهو منقطع ، والبخاري أعل الحديث وقال بأنه لا يعلم أن ابا ذر قدم الشام في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ولو سلمنا جدلاً بأن الحديث صحيح أو حسن كما فعل الألباني رحمه الله فهو لا يدل صراحة على معاوية ، وتطبيق أحاديث الفتن على أعيان معينة هو دخول في حكم الغيب ، وتقول على الشريعة ، وجرأة في غير موضعها ، فضلا بان هذا يكون من الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ، كيف هو جاء من طريق منقطع ومعلول فلا يمكن لمثل هذا الحديث أن يكون سبيلاً لنكاية بصحابي مثل معاوية رضي الله عنه .
2-
أحاديث صحيحة ولكنها لا تدل على جواز الموقف السلبي من معاوية ، وهي مؤولة على أنها له لا عليه ، كحديث : ( لا أشبع الله له بطناً ) ، فالدكتور يغضب حين يجاب على هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم شارط ربه ان من سبه او لعنه فإنها تكون له زكاة وقربى يوم القيامة ، ويقول بأن هذا الكلام مرفوض لأنه لا يتوافق مع صفة " نبي الرحمة " ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، والعجيب أنني رأيت في كلام الدكتور عدنان شيئا عجباً ، فما رأيته يأتي بدليل يريد النيل فيه من معاوية أو يقرر قاعدة أو دليلاً إلا ويكون عليه هو نفسه لا له !! فإن كان رد الأحاديث في الصحيحين التي تدل على مشارطة النبي ربه بأن يجعل سبه زلفى وقربى لمن سبه بحجة أن هذا لا يتوافق مع ( أخلاق النبي ) عليه السلام ، فيمكن أن يقال هذا في حديث ( لا أشبع الله له بطناً ) ، ففيه كذلك دعوة على معاوية بعدم الشبع ، فإن كان يرى أن هذه مثلبة بمعاوية ومضرة له فهل تتوافق كذلك مع ( الرحمة ) أن يدعو عليه بأن لا يشبع نكاية به ؟ فهل هذه تتفق مع الصفة التي اتصف بها النبي صلى الله عليه وسلم ؟
وإني لأسأل الدكتور عدنان وغيره ممن يوافقه على هذا ، هل دعاء ( لا أشبع الله بطنك ) هي من صالح الإنسان أو ضده ؟ هل الشبع محمدة للإنسان ؟ أم التخفف من الطعام وعدم الشعور بالشبع أحسن ؟ ألم يتجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام : ( كف عنا جشاءك فإن أطول الناس ( شبعاً ) في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة ) ؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : ( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ) ؟، فهل مثل هذا الحديث على أي تأويل سواء كان دعاء ( على ) معاوية ، أو دعاء ( له ) ، ينقص الأصل المقرر في فضل الصحبة ، وإجازة التعدي على من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
ولو شئنا تطبيق منهج الدكتور العجيب في تدخل أيدي " السياسي " في صياغة الأحاديث لقلنا له أن كل حديث جاء في ثلب معاوية ، او يفهم منه ثلبه رضي الله عنه هو من " صنع أعدائه " من الشيعة الذين كانوا يكرهونه ، ولأنه منهج لا زمام له ولا خطام ، فإنه يجوز لنا أن " نتشهى " بحيث ننظرإلى كل حديث لا يروق لنا لنجعل طرفاً من الصراع الذي وقع بين الصحابة عاملاً في صياغته ليفتك في خصمه ويبعد الناس عنه ، لكن هذا منهج " غير علمي " ، وإحالة إلى أمر لا يضبط منهجياً ، وفتح لباب الردللسنة بالرأي المجرد والهوى الإيدلوجي ، وهذا بالنهاية سيوصل إلى ( الشك ) بالسنة ورفضها والاقتصار على ( القرآن ) كخطوة سابقة إلى تجريد نصوص الشريعة كلها من قيمتها ومحتواها .
3-
أحاديث ليس فيها النص على معاوية بثلب ولا منقصة ، بل ما يلزم منها – برأي الدكتور – النيل من معاوية كحديث علي رضي الله عنه : ( إنه لعهد النبي الأمي إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ) والذي رواه الإمام مسلم ، فهو يقرر بأن بغض معاوية لعلي يدل على " نفاقه " ، وبغض النظر عن الخوض في صحة الحديث وعلله المذكورة في كتب أهل العلم ، والتسليم بانه صحيح باتفاق ، فهل يدل على ما ذهب إليه عدنان إبراهيم من الحكم بنفاق معاوية ؟ لماذا يزايد الدكتور على ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه وهو الذي عهد إليه النبي بهذا العهد فلم يصف خصومه بالنفاق مع قتالهم وتكفيرهم له ؟ أم يكفره الخوارج ويقاتلوه ويسبوه ويلعنوه فلم لم يكفرهم بل قال لهم : ( إخواننا بغوا علينا ) ، فسواء جاء الحديث في الخوارج أهل النهروان ، او جاء في معاوية وفئته فإنه وصفهم بوصف ( الإخوة ) ، ولا يمكن أن يوصف المنافق بأنه أخ ، ألم يسأل علي رضي الله عن الذين قاتلوه أكفار هم ؟ فقال : ( من الكفر فروا ) ؟ أمنافقون هم فقال : (المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله كثيرا ) ، هل وصل عدنان العلم بفهم الحديث وفقهه بحيث تجاوز فهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو صاحب العهد ؟ أم أن الفارق أن علياً رضي الله عنه كان " فقهياً " يعلم الفرق بين " الخلاف العقدي " ، و " الخلاف السياسي " ، ويرى أن ما جرى بينه وبين معاوية ليس لانه ( علي بن ابي طالب ابن عم النبي ) ، وليس ( لأنه زوج فاطمة الزهراء ) ، فلو كان هذا الحامل على الكره لبصم وبصمنا جميعاً بأن هذا نفاق أكبر ، فلا يكره علياً أحد بهذا الاعتبار إلا منافق معلوم النفاق ، ولأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يدرك أن ما جرى خلاف على آراء أوصلت بهم إلى حدوث فتنة عمياء ندموا عليها جميعا
إن الأمر الذي غفل عنه الدكتور عدنان إبراهيم ان النفاق المقصود في الحديث هو النفاق التام الذي يكون الحامل فيه على كره علي موقعه من الإسلام ، كما أن " بغض الأنصار نفاق وحبهم إيمان " لانهم ناصروا النبي صلى الله عليه وسلم وآزروه ووقفوا معه وآمنوا به ، فكان كرههم نفاق لهذا الاعتبار ، فلا يمكن أن يتصور أن يكره أحد الانصار إلا يكون كرهاً في النبي ودينه وشريعته .
أما ما يحصل بين الأنصار أنفسهم من خلاف على رأي أو دنيا لا يكون نفاقاً بحال لأن الدافع ليس عقديا ، بل دنيوي مادي ، ولذلك جعل الإمام مسلم حديث حب الأنصار هو الأصل في صحيحه ، وحديث علي عليه السلام في الشواهد لتطابق المعنى عنده ، وهكذا الموقف مما جرى بين معاوية وعلي ، خلاف سياسي كل يرى أنه أقرب إلى الصواب ، وهذا أمر فهمه علي ، والحسن والحسين والصحابة ولم يحكم أحد منهم على معاوية بالنفاق لأجل ذلك ، ولذا سلم الحسن أمر الناس لمعاوية ، ووالله لو كان يراه منافقاً او مرتداً أو خائنا لم يجز له أن يوليه على الناس لو فني ومن معه ، ولكنهم قوم استبصروا الأمر وعرفوا حدوده قبل أن تضخم الفرق العقدية والغلاة الأمر ، وتحمله مالا يحتمل ، فقد روى البخاري عن أبي موسى قال :سمعت الحسن – أي البصري - يقول :
استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها فقال له معاوية - و كان خير الرجلين - : أي عمرو ، إن قتل هؤلاء ، هؤلاء و هؤلاء ، هؤلاء من لي بأمور الناس ؟ من لي بنسائهم ؟ من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس - عبد الله بن سمرة و عبد الله بن عامر بن كريز - فقال : اذهبا إلىهذا الرجل فاعرضا عليه و قولا له و اطلبا إليه . فأتياه فدخلا عليه فتكلما و قالا له و طلبا إليه . فقال لهما الحسن بن علي : إنّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال و إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ، قالا فإنه يعرض عليك كذا و كذا و يطلب إليك و يسألك ، قال : فمن لي بهذا ؟ قالانحقن لك به ، فما سألهما شيئاً إلا قالا نحن لك به فصالحه ، فقال الحسن أي البصري - : و لقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - و الحسن بن علي إلى جنبه و هو يقبل على الناس مرة و عليه أخرى و يقول - : إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ".
إن المآلات المرعبة التي لم يتنبه لها الدكتور عدنان في تقرير هذا الأمر الإلزامي بناء على ظاهر الحديث تجعله يحكم نفس الحكم على عائشة أم المؤمنين ، وطلحة ، والزبير ، وكل الصحابة الذين قاتلوا علياً رضي الله عنه ، فإن " قتال "علي أعظم من سبه وكرهه ، فلماذا قصر حكم النفاق على معاوية ؟ إنه يدرك خطورة الأمر ، ولربما رأيناه في يوم يقرر نفس التقرير ، ولربما انسحب على غيره من الصحابة الذين أخذوا منه الخلافة كما تدعي الشيعة وآذوه في ذلك .
سادساً : التكفير بالإلزام :
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله : (التكفير بالإلزام، من أعظم مزالق الأقدام ، فمن أراد المخاطرة بدينه، فعلى نفسه جنى) ، ومعنى التكفير بالإلزام هو الحكم على الأعيان بالنفاق ، والكفر بناء على ما يلزم من أقوالهم ، أو ما يلزم من تطبيق فهم بعض النصوص على أفعالهم ، وهذا المسلك كان مسلك الخوارج الذين كفروا والصحابة بما يلزم من أقوالهم أو أفعالهم ، أو تطبيق آيات نزلت في " الكفار " فجعلوها في المسلمين ، وقد قال عبدالله بن عمر رضي الله عنه في الخوارج كما في البخاري : ( إنهم أتوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المسلمين ) ، وهنا لابد من الإشارة إلى بعض القواعد المفيدة في هذا :
أولا :
أن " لازم القول ليس بقول " و " لازم المذهب ليس بمذهب " ، فإن قال القائل قولاَ يلزم من كفر أو نفاق أو بدعة ، فإنه لا يجوز أن يحكم عليه بكفر ولا نفاق ولا ضلال ولا بدعة حتى يلتزم هذا اللازم ، وإنما يجوز ذكر اللازم لفساد القول لا للحكم على القائل .
ثانياً :
تنزل نصوص الكفر والنفاق المطلق على " الأعيان " فقه دقيق يحتاج إلى علم ، وخاصة فيما يتعلق بآيات النفاق ، فإنها من أخطر القضايا التي حسمتها الشريعة الإسلامية ، وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة في التحذير من الحكم على السرائر ، وضرورة معاملة الناس بظاهرهم كما قال عليه الصلاة والسلام : (ما أمرنا أن نشق عن قلوب الناس )، وحين جاءه المخلفون بعد تبوك يعتذرون إليه (قبل منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله ) وكان في زمانه وهو يعلم المنافقين بأعيانهم ، ويأتيه الوحي يتنزل عليه بصفاتهم وأسمائهم ، ومع ذلك كان يعاملهم بما يظهرون لا بما يبطنون ، فكيف إذن يستطيع إنسان في القرن الرابع عشر أن يحكم على رجل آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وكتب وحيه ، وسلم له الصحابة الإمامة أنه منافق ؟
لقد كان من المنهجية التي يرسخها النبي صلى الله عليه وسلم في وعي أصحابه عظمة اسم الإسلام ، وأنه يعصم الدم والبغي والعدوان على صاحبه ، وأن " الصلاة " شعيرة عظيمة تدرأ عن الإنسان أموراً كثيرة ، ولذلك حين قال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق لمن قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إعدل ، فقال : لا لعله يكون يصلي ، فقال يا رسول الله إنه يفعل ذلك رياء ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( ما أمرنا أن نشق عن قلوب الناس ) ، فإن كان هذا في حق رجل طعن في عدل النبي صلى الله عليه وسلم ، فما بالك بمن سواه ممن اتفق الصحابة على أنه مسلم وغير منافق كمعاوية رضي الله عنه ..
إن الإشكالية الكبرى فيما يقرره عدنان إبراهيم ليس قضية " تخطئة أو مخالفة لمسلك دون مسلك ، أو نهج دون نهج " ، فإن أهل السنة يقررون عدم عصمة الصحابة وجواز وقوع الشرك والكفر والكبائر منهم ، بل وقد خطئوا معاوية رضي الله عنه في حربه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ولكن القضية عندهم لم تصل إلى الحكم بالفسق أو النفاق أو الكفر ، ولم تصل إلى درجة البراءة التامة ، لأنهم يدركون " المنهج الشرعي " في خطورة الأحكام على الأعيان .
وقد ذكرت في السابق كلام الدكتور عدنان حول كلام الإمام علي : ( إنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ) ، فتعامل الدكتور بهذا اللازم الذي هو مزلة الأقدام ومضلة الأفهام ، ليتوصل بالحكم على معاوية بــ( النفاق ) ، فقرر أنه يلزم من " قتال " معاوية للإمام علي أن يكون " منافق " ، لانه يلزم من سبه وقتاله الحكم بنفاقه ، وهو عين منهج الخوارج الذين جعلوا " التحكيم " يلزم منه رفض الشريعة ، ويلزم منه قول الرافضة في كفر أمنا عائشة رضي الله عنها ونفاقها لأنها ( قاتلت إمام الزمان ) وهو تعبير يستخدمه عدنان مع أنه معروف بالاختصاص للإمامية الاثني عشرية ، ويلزم منه كذلك فسق من دخل في المعركة من الطرفين وتقاتلا عند العتزلة ، لانه يلزم منه مخالفة النهج النبوي ..
فإن كان الدكتور عدنان سيلتزم هذه اللوازم فعليه أن يضطرد في منهجه ، لأنه يلزم منه كذلك الحكم بنفاق وضلال من قاتل الإمام علي رضي الله عنه من الصحابة من المهاجرين والأنصار كطلحة والزبير وعائشة وغيرهم ، فلماذا يستثني هؤلاء من المؤاخذة ، ويحصرها في معاوية ..
حين قرر عدنان إبراهيم أن معاوية باغ علي أمير المؤمنين ، انكر على من حمله على الاجتهاد بانه قتل : سبعين ألفاً من المسلمين ، ثم يشير بالخطبة بيده كأنه يمرر سكيناً على يده الأخرى إشارة إلى فعل " الذبح " وهو تصوير للمشهد بأنه " مجزرة " يقوم بها معاوية رضي الله عنه في حق الصحابة والتابعين ، ولكنه سرعان ما تناقض فحكم على " عائشة وطلحة والزبير " بالاجتهاد في قتالهم لعلي ، مع أننا نعرف أن عشرات الآلاف قتلوا من الصحابة والتابعين في معركة الجمل التي دارت بين علي وعائشة وطلحة والزبير ، فما الذي جعل المتقاتلين هنا مجتهدون والمتقاتلون هناك غير مجتهدين ؟ إن عدنان يدرك خطورة هذا الأمر حين يحكم على أم المؤمنين وطلحة والزبير وهما من المبشرين بالجنة .
والأمر الذي شكل رؤية عدنان حول القضية هو تقريره لمسألة أصلية وهي : قتال معاوية علياً كرهاً فيه ، ورغبة في الملك ، وهاهنا أقرر أنه رغبة الملك قضية قد تقع حتى من الصحابة ، فهم بشر يصيبون ويخطئون ، ويميلون إلى الرغبات كغيرهم ، ويضعفون في موقف فيقعون في الخطأ بل والمعاصي الكبيرة كالزنا والسرقة وغيرها ، ولذلك يستطيع خصوم الدكتور عدنان من الناصبة أن يقولوا : مالذي يخرج أمير المؤمنين علياً من فرضية طلب الإمامة ؟ فالسني إن كان يقرر عدم عصمة الصحابة سيقول : وهذا أمر قد يقع منه ومن غيره من الصحابة ، بل هو كان يرى أنه أحق بها من أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، لكن الرافضي لأنه يرى أنه " معصوم " لا يقرر هذا، بل لا يراه يمكن أن يقع في هوى ، أو في معصية ابداً ، وهو محق ومصيب في ( كل ) تصرفاته ، فيكون الرافضي هنا أكثر اتساقاً من عدنان إبراهيم في تقريراته والتي تؤدي في النهاية إلى ادعاء عصمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ولذلك حين وقف من معاوية موقفاً سلبياً لم يستثن عائشة ولا الزبير ولا طلحة ولا غيرهم من الصحابة الذين يرى أنهم قاتلوا علياً أو عادوه أو أخذوا حقه في الخلافة ، فيدخلون في هذا حتى ابي بكر وعمر وعثمان .. وأظنها هي المآلات التي لابد أن يلتزمها من ينطلق من الغلو في علي ، والشناءة على معاوية .
إن مسلك الدكتور عدنان في الضرب على وتر السب والتكفير والحكم بالنفاق لمعاوية يعطي تشريعاً للجيل الذي يسمع له ويقرأ ويربيهم على هذه النزعة الخطيرة ، فكيف يمكن لرجل يدعي أنه يرسم منهجية الاعتدال والسنة والوعي الصحيح للجيل ، ثم يحرث في التاريخ ليثبت أن صحابياً وقع في كفر ، ثم يربي المستمع على مبدأ اللعن ، والشتائم والنزق في القول والجراة على رجل يقرر جماهير أهل السنة منذ ألف سنة على أنه صحابي جليل مهما ادعى الخصوم ، فكيف إذن سيكون تعامل المستمعين مع غير الصحابة ممن يخالفهم ؟
في الحلقة القادمة إن شاء الله سأتناول مفهوم " البغي " .. والله الموفق
سابعا : الدكتور عدنان .. وقضية ( البغي )
بداية .. لم أكن أشأ أن أدخل في الحديث عما جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم من فتنة وقعت تاريخيا ، لأني أدرك أن عدم التغاضي عما جرى بين الصحابة هو الذي سبب الشتات والتفرق بين الأمة شيعة وسنة وخوارج ، والانفعال الذي صاحب الاطراف التي خاضت في الفتنة وتحيزت كل فئة إلى رجل من الصحابة - بغض النظر عن المصيب والمخطئ - في الأمر هو الذي سبب هذا الشقاق والتشرذم والتشظي ، فبسبب هذا التعلق التاريخي احتقنت النفوس ، وتباعدت القلوب ، وتمزقت الأواصر ، وحصل البغي والعدوان بين المؤمنين ، ووجد الشيطان سبيلاً للتحريض حتى تنوعت المذاهب ، وتكاثرت وباضت وفرخت ، وكل ذلك بسبب تلك المشكلة التي وقعت بين الصحابة .
إنني حين وجدت رجلاً مثل الدكتور عدنان وله قامة فكرية ، وله أتباع ومريدون ، وبدلاً من التوجه إلى الإصلاح بعيداً عن نبش مشكلات التاريخ ، وجدته يغوص فيها بشكل لا يليق بفيلسوف ومثقف وفقيه يلقي دروساً كثيرة في فنون علمية وثقافية وفلسفية وتربوية ، وأرى أن خوضه في هذا المجال أذهب بركة كثير من نتاجه المفيد ، وساهم في خلق حالة من الاختلاف في ثوب جديد داخل إطار أهل السنة الذي ينتمي لها ، وهنا أود الإشارة إلى جملة أمور فيما يتعلق بقضية الفتنة وكيفية تناول الدكتور لها :
1- ماهي الفتنة التي وقعت ؟
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالساً مع الصحابة في أثناء خلافته ، وكان من بين الجالسين معهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، كاتم سر النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي اعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أخباراً وأسماء وأحكاماً على معيين لم يعطها أحدا غيره ، وكان عمر رضي الله عنه يدرك أن من ضمن ما أخبره عليه الصلاة والسلام الفتن التي سوف تقع في الأمة فقد أخرج البخاري قال : حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق سمعت حذيفة يقول بينا نحن جلوس عند عمر إذ قال :
" أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة قال فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال ليس عن هذا أسألك ولكن التي تموج كموج البحر قال ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابا مغلقا قال عمر أيكسر الباب أم يفتح قال بل يكسر قال عمر إذا لا يغلق أبدا قلت أجل قلنا لحذيفة أكان عمر يعلم الباب قال نعم كما يعلم أن دون غد ليلة وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط فهبنا أن نسأله من الباب فأمرنا مسروقا فسأله فقال من الباب قال عمر " .
وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله باب الفتنة التي تموج موج البحر فقال : باب الفتنة التي تموج كموج البحر وقال ابن عيينة عن خلف بن حوشب كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن قال امرؤ القيس
الحــــــــــرب أول ما تكون فتية --- تسعى بزينتها لكل جــهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها --- ولت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونــــــها وتغيرت --- مكروهة للشم والتقبـــــــيل
فالصحابة الكرام يعرفون ماذا سيقع من فتن بما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يسمعونه يخبر بأن ( عمار تقتله الفئة الباغية ) ، ولما كان يخطب عليه الصلاة والسلام في المسجد جاءه الحسن بن علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين ) ، وغيرها من الأخبار التي كان الصحابة يعلمون بوقوعها ، لكنهم لا يعرفون كيفية وقوعها ، ولذلك من يقرأ في تسلسل الفتنة التي وقعت بين الصحابة يدرك أنها جاءت متوالية منذ مقتل عثمان الذي أحزن كل الصحابة ، وتتابع الأحداث بخروج عائشة وطلحة والزبير ، وبداية موقف معاوية من خلافة علي واشتراطه إخراج من قتل عثمان ليقتص منه بناء على أنه ولي الدم ، حتى حصلت تلك الحروب التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى ، ولم يكن من الصحابة أحداً يرغب في الدم ، أو يستبيح القتل والقتال ، أو يجيز لنفسه هذا ، ولكنها الفتن التي وقعت بعد أن كسر الباب ( عمر الفاروق ) ، والتي لن تغلق إلى قيام الساعة .
ولذلك حين جاءت هذه الفتن افترق الصحابة إلى ثلاثة فرق :
- الفرقة الأولى : قاتلت مع علي بناء على أنه الخليفة والإمام الشرعي الذي يجب للناس أن تسمع له وتطيع .
- والفرقة الثانية : القاتلت مع معاوية بناء على أنه لم يرفض بيعة علي ، وإنما رأى أن الاقتصاص من قلتة عثمان واجب قبل الدخول في البيعة بناء على أنه ولي الدم .
- والفرقة الثالثة : الصحابة الذين اعتزلوا القتال ولم يشتركوا فيه بناء على أنها فتنة وقعت بين مسلمين لا يجوز الدخول فيها بناء على عموم الأحاديث التي تدعو المسلم إلى تجنب الفتن وأن يكون عبدالله المقتول ولا يكون عبدالله القاتل ، وهذا اختيار سعد بن ابي وقاص ، وعبدالله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وغيرهم ممن اعتزل الفتنة وقعد عنها ، مع معرفتهم بان علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو المحق في الأمر ، وأخذوا بظواهر نصوص الفتن ومن ذلك ما روا ه البخاري قال حدثنا محمد بن عبيد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ح قال إبراهيم وحدثني صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به " .
وبهذا يقول الإمام الطبري : اختلف السلف فحمل ذلك بعضهم على العموم وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقا كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة في آخرين ، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها ، ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة بلزوم البيوت ، وقالت طائفة بل بالتحول عن بلد الفتن أصلا . ثم اختلفوا فمنهم من قال : إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قتل ، ومنهم من قال : بل يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله وهو معذور إن قتل أو قتل . وقال آخرون : إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها ونصبت الحرب وجب قتالها ، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب ، وهذا قول الجمهور ، وفصل آخرون فقالوا : كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة فالقتال حينئذ ممنوع ، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب ، وغيره على ذلك وهو قول الأوزاعي ، قال الطبري : والصواب أن يقال إن الفتنة أصلها الابتلاء ، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه ، فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطئ أخطأ ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها . وذهب آخرون إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين ، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك . وقيل إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان حيث يحصل التحقق أن المقاتلة إنما هي في طلب الملك . وقد وقع في حديث ابن مسعود الذي أشرت إليه : قلت يا رسول الله ومتى ذلك ؟ قال أيام الهرج قلت : ومتى ؟ قال حين لا يأمن الرجل جليسه " .
ومن ينظر إلى القضية بعيداً عن التحيزات يدرك أن الصحابة كانوا ينظرون إلى القضية على أنها فتنة اكتنفها اختلاف آراء حول أولويات ، وان هذه القضية فيها مصيب ومخطئ ، دون المبالغة في تبني آثارها أو التحيز إلى فئة دون أخرى بالمبالغة والتهوين ، ولذلك حين انتهت الفتنة سموا ذلك العام بعام ( الجماعة ) إذ الجماعة الأصل والفتنة طارئة ، وحصلت البيعة لمعاوية بعد تنازل الحسن ، وأمنت الناس ، وحصل الخير ، وهدأت النفوس ، ولم يتعلقوا نفسياً بالقضية مع شدة إيلامها على النفوس حين حدوثها . ولن أدخل الآن في تفاصيل كيف حدث القتال ، وأسبابه ، والأطراف التي تدخلت في إذكاء الفتنة ، فهذا ليس مهماً الآن بقدر أهمية الرؤية الشاملة لما حدث ليتحديد موقف الصحابة منها .
القراءة الايدلوجية :
فالمراد من إيراد هذه القضية والاستطراد بها أن القضية هي " فتنة " قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها إجمالاً ، وأنها سوف تنتهي بصلح يجمع القلوب بعد الفرقة والشتات ، ولكن القراءة " الايدلوجية " التي يمارسها الدكتور عدنان إبراهيم تؤدي إلى " التحيز " إلى فئة بغلو بحيث يكون الموقف من الفئة الأخرى موقفاً شديداً ، وهذه القراءة تؤدي بصاحبها إلى منهجية – سبق ذكرها – من تأويل النصوص ، والتحكم في قبول الأخبار ، ومن ذلك :
1- تضخيم الروايات التي تنصر الرؤية والموقف من الفتنة
2- التهوين من الروايات التي في ظاهرها تقضي على الاختيار الفكري والايدلوجي
3 – التحكم في قبول الأخبار ، فهذا الراوي يقبل حين يروي ما يؤيدني ، ويرفض حين يروي ما يخالفني ، دون اصضراد في المنهج كما حصل في الموقف من معاوية .
4- الأحكام على الأعيان بناء على الموقف العام من الفتنة بناء على رؤية ايدلوجية سياسية .
5- المبالغة في آثار الفتنة ونتائجها الكارثية على الواقع بعد مئات السنين ، في الجانب السياسي وتشويه صورة التاريخ بناء على ذلك .
6- التشنيع على المخالفين بأوصاف غير علمية ، والنزول الأخلاقي في الألفاظ بناء على التشنج الأيدلوجي والموقف الفكري .
7- الوثوقية في الرأي مع الاعتراف بالترحل فيه من حيث الاختيار ، والقطع بصحة القول من دون اعتبار نزعة الاجتهاد النسبية التي قد تصيب وقد تخطئ .
8- تحكم المشكل الواقعي على القراءة التاريخية وممارسة " الإسقاط " الفكري على التاريخ ، ومحاولة عسف النصوص لتوافق الرؤية الايدلوجية في الموضوع .
هذه مقدمة ضرورية للحديث عن قضية " البغي " إن شاء الله في الحلقة القادمة .