الدهماء الجدد .. المثقفون الجدد ..
بقلم الأخت واسطة العقد - منتدى التوحيد ..
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
قرأتُ فيما قرأت أن من علامات الانهيار الحضاري كثرة المفكرين والمنظرين والمثقفين لأمةٍ ما، وأحسب أن القائل لم يعن إلا نوعية مفكرينا ومنظرينا ومثقفينا، أو قل سوادهم الأعم أن طلبت الانصاف، ليسَ الأمر أننا أمةٌ تشتكي كثرة مثقفيها الأكابر ومفكريها العظماء ومن الزحام والتقاتل عند المكتبات على أنفس الكُتب التراثية والحديثة ... لا، لسنا نصدر فكرنا الى العالم ونظرتنا إليه ولا نملك رصيدًا من المنظرين والمفكرين ذوي الفكر الأصيل التجديدي المنسجم مع اصول الدين وحداثة العصر دونما اي لمحة من استغراب او استخراب، مثلما كنا نفعل ونملك في قروننا الفاضلة الغنية فكريًا وحضاريًا، بل نحن الآن لا نعيش الا على الفتات و لا نقتات به و لا نتداول - او قل لا يتداول مثقفونا - الا أفكارًا و مؤلفاتًا غريبةً عن هويتهم و امتهم و نسيجهم الثقافي، تجد الواحد منهم يكعف على مؤلفات هيجل و نيشته و على اشعار غوته و شك ديكارت و صراع الإكويني و تجديداته غارقًا حتى اخمص قدميه بهذا "التراث" الغربي دارسًا له و حافظًا، فإذا طلبت منه ان يقرأ في "التراث" الإسلامي و العربي نظر اليك مستسفهًا قولك و ربما رد عليك بكلمة او كملتين يحقر فيهما هذا "التراث المتخلف الرجعي القديم" و ليس معنى قوله على حقيقته الا ان ما تدعوني اليه عربي مُحتقر و ما أحب غربي معتبر! فإن خلعت عن المعنى حجابه ظهرت لك عقدة الخواجة الي تنخر بنفسيات "مثقفينا" نخرًا و التي ماهي الا نتيجة أتباع المغلوب للغالب في كل امره كما يقول ابن خلدون "العربي".
القضية مع "مثقفينا" هي دستة قضايا نحاسبهم بها و عليها، ليس الاستغراب و السلبية و السطحية بالطرح و الفكر، و التقليد الأعمى و العيش ببروج عاجية بعيدًا عن المجتمع ذاته الا جزءً من تلك القضايا، المثقفون و المفكرون لأي امةٍ هم صمام الأمان و هم دفة القيادة التي تدفع مجتمعها لاعتناق افكارٍ و معتقدات و اخلاقيات جديدة، و ايما فكرة كانت تتداول بين المثقفين ردحًا من الزمن فثق ان اثرها سيظهر على العوام اجلاً غير عاجل، ألا ترى بنفسك اثر افكار نيشه و الداروينية و نسبية الاخلاق، بل افكار متنوري اوربا بالعصور الوسطى ماثلة امامك في سلوكيات عوام الغرب؟ الم ينتقلوا من حال الى حال بعد ان تغير اتجاه مثقفيهم و نظرتهم الى الحياة و الاخلاق و المادة و الكون، حتى تشرب العامة هذه الافكار - دون وعي - و اصبحت جزءًا من ثقافتهم و سلوكياتهم؟ و المثقفُ على كلٍ حال هو جزء من مجتمعه لا ينفصل عنه و لا ينفك تأثير مجتمعه عليه لهذا تجد سمةً مميزةً تكون غالبةً على مثقفي كل عصر و بلد، تصبغهم بها اذكر منها على سبيل المثال قرنُ التنوير و قرن التعطيل و قرن الشك في الشك و اترك لك التفصيل، فإن انفصل المثقف عن قضايا عصره و مجتمعه غارقًا بقضايا لا تمت له بصلة او مستعليًا على ثقافته الأم، فما هو بمثقف بل وراق، وراقٌ على الرف.
و صفةُ الوراق تليق بأكثر من يطلقون على انفسهم لقب "مثقف" في أمتنا بعصرها الحالي، ليس لسلبيتهم في تعاطيهم مع مجتمعهم فحسب، و لا لضعفهم العلمي و غياب الملكة النقدية و التوليدية عندهم حتى يعجز عمومهم عن شيء الا كتابة الروايات و الشعر الحر و تلخيصات لكتب و ترجمات تنشر على انها من بنات افكار "المثقف" فقط! بل لأنهم كما دون كيشوت، يحاربون طواحين الهواء و يخوضون معارك وهمية ضد اعداء وهمين لا وجود لهم الا بعقولهم - و هذه نتيجة التقليد الأعمى ايضًا - تجد الواحد منهم يستل قلمه و يسود مداد صفحاته منتقدًا و محذرًا من طغيان الفكر الديني الرجعي الذي سيرجعنا للعصور الوسطى المظلمة، و انت ترى هنا - ان كنت ترى - ان هذه المعركة مُستعارة بالكامل من التراث الغربي! فالعصور المظلمة عند الغربيين بسبب طغيان الكنيسة كانت تقابلها نهضة فكرية و علمية في العالم الاسلامي الذي كانت تحكمه "الدولة الدينية"! و ان تعجب فلا تعجب من استعارة المعارك و خفاء هذه الحقيقة عن هذا "المثقف"، بل اعجب لطوابير "المثقفين" و المتنويرين ممن يصفقون و يعتنقون هذه الافكار "عمياني" ثم يجعلونها ذخيرة لمعاركهم العقلية لاحقًا، تجد مثقفةً اخرى - وهذه رأيتها بأم عيني - تضرب لك مثلاً عن طغيان الرجل العربي و ظلمه للمرآة بحزام العفة و اهانة هذا الحزام لكرامة المرأة و كبريائها و أنه دليل على استحقار المرأة، بينما هذا الحزام المشؤوم لم يوجد بتاريخ الارض قاطبةً الا عند اهل اوربا وقت الحروب الصليبية و لم يعرف عند المسلمين ابدًا! و لولا اني اخاف ان تسئم - قارئي العزيز - لعددت عليك اصنافًا و معارك اخرى ان لم تكن كلها مستعارة بشكل او بأخر فهي كلها تفتقد للجدية و البراجماتية، و غياب هاتين الصفتين عن اي قضية او معركة يعني انها ليست الا لغوًا و كثرة كلام، و لضيق المقال سأتجاوز الأولى للثانية و هي غياب البراجماتية و بعد النظر عند كثير منهم، فلستُ اجادل هنا عن ان كثيرًا من اوضاع المرأة - كمثال - تحتاج لتعديل و تصحيح بعيدًا عن التهويل المبالغ فيه، لكني اتسائل ايهما اولى بالنقاش و الحل، مشكلةُ قيادة المرأة للسيارة ام مشكلةُ انعدام الوظائف الممكنة للنساء او عجز الكثير منهن عن اكمال دراستها لأسباب مجتمعية او الفقر الذي يدفع بكثيرات للتسول او قوانين العمل التي تجحف بحق المرأة كثيرًا...الخ؟
اتسائل مجددًا ما هي القيمة الفعلية لهذه القضية مقارنة بقضايا كثيرة اولى بالاهتمام و الحل، و لم كل هذا التركيز و القاء الضوء على قضية تكاد تكون هامشية مقارنة بما ذكر مع تجاهل بقية تلك المشاكل الا ربما بشكل عابر في مقال او تعليق، و اقول هنا غياب البراجماتية و الجدية و أنا احسن الظن بمن اوجه له الكلام من المقصودين، و الا فلستُ اجهل ان غالبية القائمين على تلك القضايا ليسوا سوى طالبي شهرة و رصيد اعلامي و "غيره"، ما يفسر هزال الخطاب الذي يقدمونه و اعتماده على استجرار العواطف و الفرقعات الاعلامية دون طرح اي خطوات و حلول جدية لحل قضايا هامشية اساسًا.
قارن بين القضايا و المشاكل التي تواجهها هذه الأمة و بين القضايا و المشاكل التي يثيرها هؤلاء "المثقفون"، الأمة تئن تحت استعمار "مبرقع!" - على ذكر حقوق المراة! - و احتلال عسكري و فقر و بطالة و أمية و مشاكل اجتماعية و صحية و اقتصادية و ديون خارجية، ثم تفسخ اخلاقي و شيوع مذهب اللذة عمليًا بين العوام و تدني المستوى الثقافي و انشغال الشعوب عن مشاكلهم و حروبهم باخبار المغنيات و المسلسلات ... كل هذه القضايا لا تكاد تجد لها صدى في خطاب مثقفينا المعاصرين، و ان وجدت فعلى عجالة و دون طرح حلول عملية جدية بدل السرد و الاكتفاء بالنقد! ...
ان من واجب "المثقف" ان يعيش لحظته و زمنه و مجتمعه، واجبه ان يحدث تغييرًا في الفكر فيحدث تغيير النفس فيتغير المجتمع و ينصلح، واجبه ان يشخص داء مجتمعه و يعالجه انطلاقًا من خصوصية مجتمعه و تفرد ثقافته بدل ان يطرح بكسل حلولاً مستعارة من غيره، واجبه ان يسعى لتطوير مجتمعه و رفع الوعي فيه و دفع عجلة التقدم للإمام، ليس من واجبه الثرثرة حول قضايا هامشية او كتابة روايات رومنسية و اشعار ، ليس واجبه ان ينعزل عن مجتمعه و هويته - بالتالي ذاته - و يحتقرها مفضلًا ان يكون غيره لا ان يكون "هو"، فإن عجز المثقف عن دوره و اكتفى بالسلبية فهو سيظل على كل حال عجلةً تقود مجتمعه .. صحيح، لكن الى الوراء.