التسميات

الأحد، 7 يوليو 2013

الإسلام وتحرير العبيد

الإسلام وتحرير العبيد ..
تجميع مشاركات للدكتور أمير عبد الله من منتدى حراس العقيدة ..

في البداية أنوِّه أن هذا الموضوع عُمْدتي فيه :

1- كتاب الأستاذ محمد قطب - شبهات حول الإسلام.. واعتمدتُ ما كتب مع تعديلٍ وتبديلٍ واضافةٍ واعادة تنسيق.
2- كتاب مبدأ المساواةِ في الإسْلام مقارنة بالديمقراطيالت الحديثة للمستشار الدكتور فؤاد عبدالمنعم.
3- كتاب الرق ماضيهِ وحاضره لعبدالسلام الترمانيني.


السؤال :
لو أن الإسْلام جاء لتحرير العبيد .. فلماذا لم ينُص صراحةً على حرمة العبودية؟!!
------------------

الإجابة :

قبل أن نُفصِّل في الحكمةِ من ذلِك .. يجب أن نُجلِّيَ أمورًا فكرية وتاريخية ليتنبّه لها القارىءُ الكريم .. 

1- هذه الشبهة يُكرِّرها العلمانيون هذه الأيام ..

والغايةُ تبيانُ أن الإسْلام ليْس صالحًا لكل زمانٍ ومكان وأنهُ قد استنفذ غرضَهُ الذي نزل لأجلِه.. ولو كان صالحًا لحرّم الرق تحريمًا قاطِعًا .. ولكنه جاء في زمانٍ كان الرقُّ فيهِ مُباحًا وأما اليوم فأصبَحَ في ذمّةِ التاريخ.. فالعلمانيون عامةً واليساريون على وجهِ الخصوص يقسِّمون الزمان اقتِصادِيًّا إلى أقسامٍ أربعة " الشيوعية الأولى، والرق، والإقطاع، والرأسمالية، والشيوعية الثانية نهايةُ الفكر البشري", ثم زاد الرأسماليون عليهم بالليبراليةِ لتكون هي قمة تطور الفكر الإنساني..!! .. فيزعمون أن شرائِعَ الإسْلام جاء لفترةٍ محددةٍ فاعترفت بالرق، وأباحت الإقطاع, ولم يكن في طوق الإسلام أن يسبق التطور الاقتصاد.. وبالتالي فلا يوجد نظامٌ واحِد يستحق أن يكون لكل الأجيال كما قال كارل ماركس " إن هذا مستحيل!".

2- وينقُلُ هذه الشبهةَ عنهُم بعْضُ الشباب المؤمن الذي تساوره بعض الشكوك ..

فيتساءَلون " كيف أباح الإسلام الرق؟ .. فالدين الذي قام على المساواة الكاملة.. و رد الناس جميعاً إلى أصل واحد .. كيف جعل الرق جزءاً من نظامه وشرع له؟ أَوَ يريد الله للناس أن ينقسموا أبداً إلى سادة وعبيد؟ أَوَ تلك مشيئته في الأرض؟ أَوَ يرضى الله للمخلوق الذي أكرمه إذ قال: " ولقد كرمنا بني آدم " أن يصير طائفة منه سلعة تباع وتشترى كما كان الحال مع الرقيق؟ وإذا كان الله لا يرضى بذلك، فلماذا لم ينص كتابه الكريم صراحة على إلغاء الرق كما نص على تحريم الخمر والميسر والربا وغيرها مما كرهه الإسلام؟؟..ونتمنى في حرارة الانفعال أن لو كان الإسلام قد أراح قلوبنا وعقولنا فنص على تحريمه بالقول الصريح.... فيتساءَلونَ من بابِ " ليطْمئِنّ قلبي".

3- وقفة تاريخية لا بد منها :

شتان ما بين مفهوم الرق في الاسلام .. ومفهوم الرق في الأذهان .. فلا شكّ أنه ما مِن أحدٍ منا ينظُرُ إلى الرقِّ في القرن الحادي والعشرين، إلا وفي عقلِه الشناعات التي ارتكبت في عالم النخاسة، والمعاملة الوحشية البشعة التي سجلها التاريخ في العالم الروماني خاصة، فنستفظع الرق .. وبالعقل الباطِنِ نُمرِّرُ هذه الشناعات ونعممها على كل مفاهيم الرق , ولكنّ الحقيقةَ أن مفهوم الرقِّ في تاريخِ الإسْلام لا يعرف ولا يُقر بهذا المفهوم الرومانيِّ البشِعِ الذي سادَ في الأذهان وامتلأت به الكُتُب .. ومن يُقارن بين هذا المفهوم وذاك .. سيرى الفارق أبلَج والفرق بين الحقِّ والباطل.


4- مفهومُ الرق بين الرومان والعالم الغربي والأوربي , وبين مفهوم الإسْلام : 


أ) مفهوم وحال الرق في روما التي ورثها عنهم الأوربي الحديث, وحتى القرن الثامن عشر الميلادي:

كان الرقيق في عرف الرومان " شيئا " لا بشرا, شيئا لا حقوق له البتة، وعليْهِ كل ثقيل من الواجبات وكان يأتي من طريق الغزو أو السطوِ والسلبِ .. وكان سببه الوحيد شهوة استعباد الآخرين وتسخيرهم لمصلحة الرومان قديمًا أو الأوربيين حديثًا. فلكي يعيش الغربي عيشة البذخ والترف، يستمتع بالحمامات الباردة والساخنة، والثياب الفاخرة، وأطايب الطعام من كل لون، ويغرف في المتاع الفاجر من خمر ونساء ورقص وحفلات ومهرجانات، كان لا بد لكل هذا من استعباد الشعوب الأخرى وامتصاص دمائها. في سبيل هذه الشهوة الفاجرة كان الاستعمار الروماني، وكان الرق الذي نشأ من ذلك الاستعمار. أما الرقيق فقد كانوا - كما ذكرنا - أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر. كانوا يعملون في الحقول وهم مصفدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من الفرار. ولم يكونوا يُطْعَمون إلا إبقاء على وجودهم ليعملوا، لا لأن من حقهم - حتى كالبهائم والأشجار - أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء. وكانوا - في أثناء العمل - يساقون بالسوط، لغير شيء إلا اللذة الفاجرة التي يحسها السيد أو وكيله في تعذيب هذه المخلوقات. ثم كانوا ينامون في " زنزانات " مظلمة كريهة الرائحة تعيث فيها الحشرات والفئران، فيلقون فيها عشرات عشرات قد يبلغون خمسين في الزانزانة الواحدة - بأصفادهم - فلا يتاح لهم حتى الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة الحيوانات .. ولكن الشناعة الكبرى كانت حلقات المبارزة بالسيف والرمح، وكانت من أحب المهرجانات إليهم، فيجتمع إليها السادة وعلى رأسهم الإمبراطور أحياناً، ليشاهدوا الرقيق يتبارزون مبارزة حقيقية، توجه فيها طعنات السيوف والرماح إلى أي مكان في الجسم بلا تحرز ولا احتياط من القتل. بل كان المرح يصل إلى أقصاه، وترتفع الحناجر بالهتاف والأكف بالتصفيق، وتنطلق الضحكات السعيدة العميقة الخالصة حين يقضي أحد المتبارزين على زميله قضاء كاملاً، فيلقيه طريحاً على الأرض فاقد الحياة!, ولا نحتاج أن نقول شيئاً عن الوضع القانوني للرقيق عندئذ، وعن حق السيد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون أن يكون له حق الشكوى، ودون أن تكون هناك جهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها، فذلك لغو بعد كل الذي سردناه. ولم تكن معاملة الرقيق في فارس والهند وغيرها، تختلف كثيراً عما ذكرنا من حيث إهدار إنسانية الرقيق إهداراً كاملا ً، وتحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقاً مقابلها، وإن كانت تختلف فيما بينها قليلاً أو كثيراً في مدى قسوتها وبشاعتها.

ب) ثم جاء الإسلام .. وجاء مفهوم الرق , ليرد لهؤلاء البشر إنسانيتهم .. فجاء ليقول للسادة عن الرقيق:

بعضكم من بعض " .. جاء ليقول: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه " .. جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير: " أنتم بنو آدم وآدم من تراب " .. وأنه "لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى ". جاء ليأمر السادة أمراً أن يحسنوا معاملتهم للرقيق: " وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ". وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد، أو التسخير أو التحقير، وإنما هي علاقة القربى والأخوة. فالسادة " أهل " الجارية يُستأذنون في زواجها: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم. بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف " .. وهم إخوة للسادة: " إخوانكم خولكم.. فمن كان " أخوه " تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم " .. وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " لايقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي " .. ويستند على ذلك أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري: " احمله خلفك، فإنه أخوك، وروحه مثل روحك ".

5) مراحل التعامل مع الرقيق في الإسْلام:

أ) مرحلة التحرير الروحي :

وهي نُقلة الرق من الشيء إلى الاخوة والإنسانية كما بيناه في رابعًا .. قولًا وفعلاً:

فلم يعد الرقيق " شيئاً ".. وإنما صار كائناً إنسانياً له كرامة يحميها القانون، ولا يجوز الاعتداء عليها له روح كروح السادة .. وأصبح الرقيق انسانًا وأخًا له كل الحقوق بالقول و بالفعل.. لا في عالم المثل والأحلام، بل في عالم الواقع .. 

فأما القول كقوله صلى الالله عليه وسلم " لايقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي " .. ونهى صلى الله عليه وسلم السادة عن تذكير أرقائهم بأنهم أرقاء. وأمرهم أن يخاطبوهم بما يشعرهم بمودة الأهل وينفي عنهم صفة العبودية، وقال لهم في معرض هذا التوجيه: " إن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم " فهي إذن مجرد ملابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقاً، وكان من الممكن أن يكونوا سادة لمن هم اليوم سادة! 

وأما بالفعل فمن كان " أخوه " تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم" .. وبالعقوبة الصريحة " ومن قتل عبده قتلناه.. " وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانية بين الرقيق والسادة .. وهي ضمانات كاملة ووافية، تبلغ حداً عجيباً لم يصل إليه قط تشريع آخرمن تشريعات الرقيق في التاريخ كله، لا قبل الإسلام ولا بعده، إذ جعل مجرد لطم العبد في غير تأديب (وللتأديب حدود مرسومة لا يتعداها ولا يتجاوز على أي حال ما يؤدب به السيد أبناءه) مبرراً شرعياً لتحرير الرقيق.

ب) مرحلة التحرير الواقعي.

لم يكتف الإسْلام بضمان الأخوةِ والحقوق للرق .. بل عمل فعلاً على تحرير الأرقاء، بوسيلتين كبيرتين: هما العتق والمكاتبة..بعكْس عقائِد أهل الكتاب التي أمرت صراحة بالإسْتعباد .., ولم تحُض قط على العتق والتحرير !!!


- فقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم كل من عنده من الأرقاء .. وتلاهُ في ذلِك أصحابُه .. 
- وكان أبو بكر ينفق أموالاً طائلة في شراء العبيد من سادة قريش الكفار، ليعتقهم ويمنحهم الحرية؛ 
- وكان بيت المال يشتري العبيد من أصحابهم ويحررهم كلما بقيت لديه فضلة من مال. قال يحيى بن سعيد: " بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فجمعتها ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم".... 
- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق من الأرقاء من يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، أويؤدي خدمة مماثلة للمسلمين. 
- ونص القرآن الكريم على أن كفارة بعض الذنوب هي عتق الرقاب ..فجعل عتق الرقاب واجبًا في الكفارات, ومندوبًا كقربى إلى الله .. فالأصل في كتاب الله قوله " فتحرير رقبة" .. بل جعل اللهُ كفارة القتل الخطأ دية مسلمة إلى أهل القتيل وتحرير رقبة: " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله " , فصار تحرير الرقيق حق للقتيل بالدية , وحقًا للمجتمع بتحرير الرقيق .. وجعله كفارة للظهار .. " والذين يُظاهرون من نسائِهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحريرُ رقبةٍ من قبل أن يتماسّا" .. وجعل من كفارة الإفطار في رمضان " تحرير رقبة".
- بل جعل الله مكانة عتق العبيد عتقًا من النار .. فقال صلى الله عليه وسلم : " أيما امرىء مسلِم اعتق امرءأ مسلمًا, استَنْقَذَ الله بكلِّ عضوٍ منه عضوًا من النار" .. 
- كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على العتق تكفيراً عن أي ذنب يأتيه الإنسان، وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم، فالذنوب لا تنقطع، وكل ابن آدم خطاء كما يقول الرسول. 

كلُّ ما سبقَ دفع المسلمين إلى شراء العبيد وعتقهم اما كفارة لما وقعوا فيه , وإما قربى , ويذكر المؤرِّخون الغرب أن عدداً ضخماً من الأرقاء قد حرر بطريق العتق، وأن هذا العدد الضخم لا مثيل له في تاريخ الأمم الأخرى، لا قبل الإسلام، ولا بعده بقرون عدة حتى مطلع العصر الحديث.. كما أن عوامل عتقهم كانت إنسانية بحتة، تنبع من ضمائر الناس ابتغاء مرضاة الله، ولاشيء غير مرضاة الله.
--------------------- 

ماذا لو بقي من الرقيق من لم يُعتق بالكفارة أو بالقُربى ..؟!!.. 

له الحق الكامل في أن يعتق نفسَه .. وللقاضي أن يُجبر سيده على ذلِك .. فاعطى الإسْلام للعبد حقّ المكاتبة .. وهي منح الحرية للرقيق متى طلبها بنفسه .. مقابل مبلغ من المال يتفق عليه السيد والرقيق .. والعتق هنا إجباري لا يملك السيد رفضه ولا تأجيله بعد أداء المبلغ المتفق عليه.. بل يُصبح عمله عند سيده بأجر، أو يتاح له - إذا رغب - أن يعمل في الخارج بأجر، حتى يجمع المبلغ المتفق عليه.وإلا تدخلت الدولة (القاضي أو الحاكم) لتنفيذ العتق بالقوة، ومنح الحرية لطالبها. وبتقرير المكاتبة، فتح في الواقع باب التحرير في الإسلام، لمن أحس في داخل نفسه برغبة التحرر، ولم ينتظر أن يتطوع سيده بتحريره في فرصة قد تسنح أو لا تسنح على مر الأيام.

وماذا إن لم يكن للعبد مال او لم يستطع جمع المال ليعتق نفسَه؟!

يُصرف له من بيت مال المسلمين أو من الصدقات : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها... وفي الرقاب … " .. فتقرر الآيةُ أن الزكاة تصرف من بيت المال - وهو الخزانة العامة في العرف الحديث - لمعاونة المكاتبين من الأرقاء لأداء ثمن التحرير، إذا عجزوا بكسبهم الخاص عن أدائه. 

وبهذا وذاك تسقط حذلقة الشيوعيون ودعاواهم " العلمية " الزائفة، التي تزعم أن الإسلام حلقة من حلقات التطور الاقتصادي جاءت في موعدها الطبيعي حسب سنة المادية الجدلية - فها هي ذي قد سبقت موعدها بسبعة قرون - والتي تزعم أن كل نظام - بما في ذلك الإسلام - إن هو إلا انعكاس للتطور الاقتصادي القائم وقت ظهوره، وأن كل عقائده وأفكاره تلائم هذا التطور وتستجيب له، ولكنها لا تسبقه، ولا تستطيع أن تسبقه، كما قرر العقل الذي لا يخطىء ولا يأتيه الباطل من فوقه ولا من تحته، عقل كارل مارس تقدست ذكراه! فها هو ذا الإسلام لم يعمل بوحي النظم الاقتصادية القائمة حينئذ في جزيرة العرب وفي العالم كله، لا في شأن الرقيق، ولا في توزيع الثروة، ولا في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو المالك بالأجير، وإنما كان ينشئ نظمه الاجتماعية والاقتصادية تطوعاً وإنشاء على نحو غير مسبوق، ولا يزال في كثير من أبوابه متفرداً في التاريخ. 
---------------------

6- والآن نُعالِجُ السؤال الحائر: 

إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخطوات كلها نحو تحرير الرقيق، وسبق بها العالم كله متطوعاً غير مضطر ولا مضغوط عليه، فلماذا لم يخط الخطوة الحاسمة الباقية، فيعلن في صراحة كاملة إلغاء الرق من حيث المبدأ؟

الغاء الرق بقرار أو حكم أو تشريع أثبَتَ فشلَهُ تاريخيًا ويدُلُّ على قصور فهم النفوس البشريّة .. وفي المقابِلِ يثبت عمق إدراك الإسلام للطبيعة البشرية.. فلا يُمكِن اصدار قرار بالغاء الرق دون النظر الى :


1- تذويبِ الفوارق واعلاء قيمة العبيدِ ومساواتِهم بالأحرار مساواةً حقيقة 
2- طبيعة النفوس البشرية وتكيفها النفسي 
3- مراعاةِ التدرجِّ و وواقِع المجتمع وما يتعرض له من مخاطر الحروب 


وحتى يكون الرد عمليًا .. لا نظريًا .. وتاريخيًا لا فلسفيًا .. نعرض مثال حقيقي للتجربة التاريخية الوحيدة التي أتت بعد الإسْلام بأكثر من ألف عام .. وهي التجربة الأمريكية التي قام بها إبراهام لينكولن عام 1860 م .. باصدار تشريع بتحرير العبيد في أمريكا .. وتناسى أن الحرية لا تمنح وإنما تؤخذ .. وتحرير الرقيق بإصدار مرسوم كما يتخيل البعض لم يكن ليحرر الرقيق بجرةِ قلم !!

1- تحرير العبيد الخارجي دون تذويبِ الفوارق واعلاء قيمة العبيدِ ومساواتِهم بالأحرار مساواةً حقيقة لا قيمةَ له

لم يستطِع لينكولن أن يُنشيء منظومة أخلاقٍ انسانية ترفع من قيمةِ العبيد وانسانيتهم وأخوتهم قبل أن يشرع في تحريرهم .. بل هو نفسهُ خالفَ ذلِك .. ولم يكُن لديهِ هذه المُثلأ والقيَم .. 

ففي مناظرته الشهيرة مع القاضي ستيفن دوجلاس في مناظرتِهِ الأولى بتاريخ (21 أغسطس 1858 ) قال لينكولن " ليس لديّ أي غرضٍ لتنفيذِ المساواة الإجتماعية والسياسية بين الجنس الأبيضِ والأسود" .. بل قال " أنا ومِثلي في ذاِك القاضي دوجلاس نفسُه ندينُ بالفضلِ لعرقنا الابيض , والذي إليه أنتمي , والذي به وصلتُ إلى هذه المكانةِ العُظْمى " .. وفي (17 يوليو 1858 ) قال لينكولن : " أكثر شيْىء أتمناهُ هو الفصْلُ بين البيضِ والسود" .. وفي مناظرته الرابعة ( سبتمبر 1858 ) قال لينكولن " سأقف بجوار قانون هذه الولاية لأقصى حد , والتي تمنعُ زواج الشعب الأبيضِ من النيجرو (السود) ". بل أيّد بكل حماسٍ دستور ولايته إلينوي , والتي منعت في ذلِك الوقت هجرةَ السودِ إلى ولايتِه.. بل أيّد عدم تمتُع الأقلية السوداءِ الأحرار في ولايتِه بحقوقِ المواطنة .. بل أنه صفّق بكل ترحاب للقانون الذي يعطي الشماليين الحق في القبض على العبيد السود الهاربين وإعادتهم إلى أصحابِهِم !!

ولذا تظل إلى يومنا هذا مشكِلة العنصرية برغم التحرر الشكلي للعبيد السود .. إلا أنهم يظلون بدون منظومة أخلاقٍ تجعل منهم مرتبةً أولى بجوار الأمريكي الأبيض .. حتى أن يكون رئيس أمريكا أسودًا "أوباما " لأول مرة .. هو حدث جلل في تاريخ أمريكا في القرن الواحدِ والعشرين .. فماذا يُفيد تحرير العبيد من عبوديتهم واستمرار العنصرية دون ترويض النفوسِ وزرع القيَمِ أولًا التي تجعل من تحرير العبيد حافزًا ومتعة ورضًا للنفسِ قبل أن يكون قرارًا وقانونًا؟!!!

أين هذا من العُمق الإسلامي؟!

فنبي الإسْلام لم يكُن مناقِضًا لنفسِه .. بل كان ما يؤْمِن به قولًا وفعلًا .. فقال صلى الله عليهِ وسلّم " لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى". 

جاء ليأمر السادة أمراً أن يحسنوا معاملتهم للرقيق: " وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ". 

وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد، أو التسخير أو التحقير، وإنما هي علاقة القربى والأخوة. فالسادة " أهل " الجارية يُستأذنون في زواجها: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم. بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف " .. 

وهم إخوة للسادة: " إخوانكم خولكم.. فمن كان " أخوه " تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم " .. 

وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " لايقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي " .. ويستند على ذلك أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري: "احمله خلفك، فإنه أخوك، وروحه مثل روحك ".


فذابت الفوارِقُ .. واصبحت النفوس متشبِعةً بمعنى الأخوةِ على حقيقتِها .. وبدأ الأحرار والرقيق على حدٍ سواء يعتقدون في مفاهيمَ جديدة من الأخوةِ بينهم وذوبانِ الفوارق .. مما ترتب عليه الإعداد النفسي والتقبل عند السيد والعبد للتحرر من العبودية وفك الأسْر.

وقد كان من فضائل الإسلام الكبرى في مسألة الرقيق، أنه قد حرص على التحرير الحقيقي له من الداخل والخارج، فلم يكتف بالنية الطيبة كما فعل لنكولن بإصدار تشريع لا رصيد له في داخل النفوس؛ مما يثبت عمق إدراك الإسلام للطبيعة البشرية، وفطنته إلى خير الوسائل لمعالجتها. وهذا إلى جانب تطوعه بإعطاء الحقوق لأصحابها، مع تربيتهم على التمسك بها واحتمال تبعاتها - على أساس الحب والمودة بين جميع طوائف المجتمع - قبل أن يتصارعوا من أجل هذه الحقوق، كما حدث في أوربا، ذلك الصراع البغيض الذي يجفف المشاعر ويورث الأحقاد. فيفسد كل ما يمكن أن تصيبه البشرية من الخير في أثناء الطريق.


2- لم ينظُر إلى طبيعة نفوس العبيد وتكيفهم النفسي البشري: 


فالعبيد الذين حررهم لنكولن - من الخارج - بالتشريع، لم يطيقوا الحرية، وعادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا، لأنهم - من الداخل - لم يكونوا قد تحرروا بعد.. وظلت الفوارق الطبقية والعنصرية والنظرة الدونية كما هي من الأبيضِ للأسود .. فجعلت العبد لا يُفكر في حريتِهِ وكرامته بل يطالب بالعودةِ إلى عبوديتِه .. والمسألة على غرابتها ليست غريبة حين ينظر إليها على ضوء الحقائق النفسية. فالحياة عادة. والملابسات التي يعيش فيها الإنسان هي التي تكيف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية. والكيان النفسي للعبد يختلف عن الكيان النفسي للحر، لا لأنه جنس آخر كما ظن القدماء، ولكن لأن حياته في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات، فتنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حد، وتضمر أجهزة المسؤولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد.. 


فالعبد يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده، فلا يكون عليه إلا الطاعة والتنفيذ. ولكنه لا يحسن شيئاً تقع مسؤوليته على نفسه، ولو كان أبسط الأشياء، لا لأن جسمه يعجز عن القيام بها، ولا لأن فكره - في جميع الأحوال - يعجز عن فهمها؛ ولكن لأن نفسه لا تطيق احتمال تبعاتها، فيتخيل فيها أخطاراً موهومة، ومشكلات لا حل لها، فيفر منها إبقاء على نفسه من الأخطار!!والشلل المروع الذي يخيم على الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر، لأن أحداً من الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما يأمره به " السيد " الموظف الكبير، وهذا بدوره لا يملك إلا إطاعة " السيد " الوزير، لا لأن هؤلاء جميعاً يعجزون عن العمل، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل وجهاز الطاعة عندهم متضخم، فهم أشبه شيء بالعبيد، وإن كانوا رسمياً من الأحرار!

ولذا تظل إلى يومنا هذا مشكِلة العنصرية برغم التحرر الشكلي للعبيد السود .. إلا أنهم يظلون بدون منظومة أخلاقٍ تجعل منهم مرتبةً أولى بجوار الأمريكي الأبيض .. حتى أن يكون رئيس أمريكا أسودًا "أوباما " لأول مرة .. هو حدث جلل في تاريخ أمريكا في القرن الواحدِ والعشرين .. فماذا يُفيد تحرير العبيد من عبوديتهم واستمرار العنصرية دون ترويض النفوسِ وزرع القيَمِ أولًا التي تجعل من تحرير العبيد حافزًا ومتعة ورضًا للنفسِ قبل أن يكون قرارًا وقانونًا؟!!!

أين هذا من العُمق الإسلامي؟!

فقد بدأ الإسْلام أولًا بارساءِ قواعد المساواةِ والإنسانية .. والمعاملة الحسنة للرقيق .. وزرع فيهم المسئولية بدلًا من الطاعة العمياء , والقيادة بدلًا من التبعية .. والندية بدلًا من الدونية .. فأعاد توازن وانحراف نفوس العبيد وعالجها معالجةً نفسيّة .. ولا شيء كحسن المعاملة يعيد توازن النفس المنحرفة، ويرد إليها اعتبارها، فتشعر بكيانها الإنساني، وكرامتها الذاتية، وحين ذلك تحس طعم الحرية فتتذوقه، ولا تنفر منه كما نفر عبيد أمريكا المحررون.!! .. 

ففي المؤاخاة بين الأحرار والعبيد : كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة العرب فآخى بين بلال بن رباح وخالد بن رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمه حمزة، وبين خارجة بن زيد وأبي بكر، وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقية تعدل رابطة الدم وتصل إلى حد الاشتراك في الميراث!! , 

ولم يكتف بهذا الحد … ففي الزواج بين الحرة والعبد : فقد زوج بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد. والزواج مسألة حساسة جداً وخاصة من جانب المرأة، فهي تقبل أن تتزوج من يفضلها مقاماً ولكنها تأبى أن يكون زوجها دونها في الحسب والنسب والثروة، وتحس أن هذا يحط من شأنها ويغض من كبريائها. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهدف إلى معنى أسمى من كل ذلك وهو رفع الرقيق من الوهدة التي دفعته إليها البشرية الظالمة إلى مستوى أعظم سادة العرب من قريش. 

لم يكتف كذلك بهذا الحد.. ففي المسئولية والقيادة :أرسل مولاه زيداً على رأس جيش فيه الأنصار والمهاجرون من سادات العرب، فلما قتل ولى ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش، وفيه أبو بكر وعمر وزيرا الرسول وخليفتاه من بعده، فلم يعط المولى بذلك مجرد المساواة الإنسانية، بل أعطاه حق القيادة والرئاسة على " الأحرار ". ووصل في ذلك إلى أن يقول: " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله تبارك وتعالى ". فأعطى الموالي بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة، وهو ولاية أمر المسلمين. 

وقد قال عمر وهو يُستخلف: " لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته " فيسير على نفس المبدأ الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم. 

ويضرب عمر مثلاً آخر من الأمثلة الرائعة على احترام الموالي؛ إذ يعارضه بلال بن رباح في مسألة الفيء فيشتد في معارضته، فلا يجد سبيلاً في رده إلا أن يقول: " اللهم اكفني بلالاً وأصحابه "! ذلك وهو الخليفة الذي كان يملك - لو أراد - أن يأمر فيطاع!


3- ولم ينظُر إلى طبيعةِ المجتمعِ وما تجبره عليه الأوضاع والحروب القائِمة:

مما جعل لينكولن نفسه بمجرد أن نشبت الحرب , يُصدر قراراً بمنع تحرير العبيد خوفًا من القلاقِل وعدم تحمل ملاك العبيد لتوقف مصالِحِهم مما يعني الشلل التام في ظل الحرب !!!.. وبالتالي فحُسْن النوايا لم تُسْعِفهُ في علاج أو تفهم نفوس العبيد .. ولم تُسعِفه أثناء الحرب .. واتهموه بالتناقُضِ مع نفسِه .. فقال مقولته الشهيرة " أن موقعه كرئيس يُحتِّم عليه أن يُؤجِّل قناعته الشخصية , وأن المصلحة الاولى هي قيام اتحاد الولايات الأمريكية , فمن رأى أنه لا يستطيع انقاذ الإتحاد الأمريكي إلا بتحرير العبيد فلا أوافِقه , ومن قال أنه لا يستطيع إنقاذ الإتحاد الأمريكي إلا بتدمير العبيد فلا أوافقه .. إذا كان بقاء الإتحاد مرهون بان لا يتحرر عبدٌ واحِد , فسأفعل ذلِك, وإذا كان بقاء الإتحاد مرهون بتحرير العبيد جميعًا فسأفعل ذلِك".(Lincoln, Abraham. "Letter to Horace Greeley, August 22, 1862 ).

وإن كان لينكولن تراجع عن تحرير العبيد أثناء الحرب , ولم يُعطهم حقوق المواطنة .. فإن نابليون بونابرت أعطى العبيد حقوق المواطنةِ .. ومع ذلِك فمثلهُ مِثْل لينكولن تراجع عن قرارِه .. فنابليون وجد أن صادرات المستعمرات الفرنسية انخفضت , وقالوا له ان انخفاضها مرتبط بالأيدي العاملة التي يؤمِّنُها الزنوج , فكانت النتيجة أن أصدر بتاريخ 19 مارس 1802 قرارَهُ باعادةِ استِرْقاقِ العبيد .. فثار العبيد ضده وقضى على ثورتهم بعد مقاومةٍ دامت ثلاث سنوات وأقام الرقّ من جديد !!!


أين هذا من الفهم الإسلامي؟!

هذا التناقُض الذي وقع فيه لينكولن الداعي الى تحرير العبيد , ثم فجأة ينقُضُ دعوته ويأمر بايقاف تحريرهم وقت الحرب , ليدُلُّك على الفهم البشري الذي لم يُحِط بحكمة كل شيء .. فتحرير العبيد ليْس امرًا افعل ولا تفعل .. وليس قانونًا يتحكّمُ فيهِ مصلحةُ السادة !!!

بل لابُد أن ينبع حق تحريرِ العبيد من العبدِ نفسه !! , و في مجتمعٍ يتربى أفرادُهُ على المسئولية في وطنٍ واحدٍ وأخوةٍ واحدةٍ ومصالِحَ مشتركة .. فوطن يُبنى على أكتاف العبيد لا يمكن أن يُفلِح فيه قانونُ وقْف الرق !! , ووطنٌ لا يتعلّم فيه السادةُ حق الرقيق ومآخاتِهِم والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات لا يُمكِن أن يُفلِح فيه قانون وقف الرق !! , ووطنٌ لا يكون فيه العبْدُ معلِمًا وقائِدًا ومسئولا لا يُمكِن أن يُفلِح فيه وقف الرق !! .. ففي أي وقتٍ وُجِدت الحاجة للرقيق , سيخرُج قانون بذلِك .. بل إن الغرب كله استعاض عن قانون الرق حين وجدوا الحاجة الماسةَ إليْهِ بقانون الإستعمار الدولي , وتسخير الشعوب المستعمرة تحت سلاح العلم لخدمةِ المستعمر وبالتالي الإستفادةُ من ثرواتِهِم, وهكذا انتقل مفهوم الرق بين الشعب الواحد ليكون رقًا بين شعبٍ قوي , وشعبٍ ضعيف.

بينما في الإسْلام فالذي حرّم كل مظاهر العبودية , بل حرّم أن يُستعبد الحُر .. أغلق كل أبواب العبودية .. وحرّم كل أنواع استرقاقِ المسلمين .. وكل من ولدته أمهاتهم أحرارًا يُحْرَمُ استعبادُهُم .. ولم يُبْقِ الإسْلامُ إلا على بابٍ واحد وهو من باب الحرب مع غيرِ المسلمين .. وهذه من الحكمة الكبرى ومن السياسةِ الشرعيةِ .. وترك خيار الرق والتحرُّرِ منه للعبد نفسه .. وجعل مسألةَ الرق حرية شخْصية للعبدِ نفسه, فما إن يجِدُ في نفسِهِ القدرة على أن يقيم شئون حياتِهِ بنفسه فله أن يتحرر , واعطاه كل حقوق المساواة حتى دونَ أن يتحرر .. وحضّهُ على العلم والعمل والعبادةِ والمسئولية .. بل جعل الرق مسئولية ايجابية ومشتركة بين العبد وسيِّدِه , بل حثّ الرقيق على العلم والعمل , وأصبح للرقيقِ الحق في نشرِ العلم مقابل الحصول على حريتهم , بل الحق في حريتهم بمقابل من بيت مال المسْلمين إن أراد أن يقوم بشأنهِ بنفسِه .. واعطاه حق المأكل والمسكن والملبس على أن يقوم باعمال سيِّده وصار عقد بين السيد ومولاه .. فلم تعُد قضية الرقيق مشكلةً عند أهل الإسْلام ولم يُنظَر لها قط على أنها نوع من الدونية أو الظلم أو الإسْتعباد .. كيف وللعبد الحق الكامل ان يقرر مصيرَه؟؟؟ 

ما الفائِدةُ من تحريمِ ما قد انتهى وجفّت منابعه؟!.. وما الفائِدةُ من التحريم إن كان خيار الحرية والتحرر مطلقًا مرهون بإشارة العبدِ نفسِه ورعبتِهِ في ذلِك ؟!.. ثم كيف يكون التحريمُ بنصٍ قاطِع أمر عملي , والإسْلام على مدار ألف عام من الحروب بين المسلمين والصليبيين .. معرض أبناؤه للأسر والإسترقاق؟!!.. لو كان قيْدُ التحريمِ نصًا: لأصبح المسلمون مستحلون بيْنَ الأمم حين يُصْبَح كل الأمم تملك المسلمين في حروبهم بالرق والعبودية , بينما لا يستطيع الاسلام معاملتهم بالمثل مقيدًا بقيد الحرمة !!! .. ولعل أقرب الأمثلةِ حين أُسِر المسلمون في حروبهم مع الفرس والروم , فإنهم استرقوهم وساموهم سوء العذاب .. فأمر الله المسلمين بمعاملة أعدائِهِم بالمثل " فمن اعتدى عليءكُم فاعتدوا عليْهِ بمثل ما اعتدى عليْكُم" .. فراعى الإسْلام المعاملة بالمثل في الحروب .. وصار الرق ضروة وقتيّة قد تفرضها الحروب في أي زمنٍ من الأزمان.. وجعل خيار المن والفداء ومبادلة الأسرى حسْب ما تقتضيِهِ المعاهدات والمصلحةُ ومعاملةُ الأعداءِ بالمثل .. ومع ذلِك فلم يفرِض الله عز وجل استرقاق الكافرين في الحروب .. بل جعل أحد أمريْن إما المن وإمّا الفداء .. ومن الطريف أنك لا تجد في نصوص القرآن والسنة نصاً يأمر بالاسترقاق ولا حتى للكافرين , بينما تحفل آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالمئات من النصوص الداعية إلى العتق والتحرير

وهنا لمحة لابُد من ذكرِها: وهي أن اللهَ عزّ وجلّ جعل انتهاء الرقِّ في الإسْلام مرهون رهنًا تامًا بانتهاءِهِ عند الأمم الأخرى .. فيُصْبِحُ نتيجةً حتْمِيّة .. فلا يوجَدُ في الإسْلام أمر باسترقاق الأسْرى .. ولكن يوجد أمر بالمعاملةِ بالمثل .. فلو أن الأمم الأخرى لا تسترق .. لكان المنبعُ الأخيرُ الذي أبقى عليه الإسْلام قد انتهى .. وبالتالي لا يتبقى إلا مئاتُ الأوامر بتحرير العبيد .. فتكون النتيجةُ انتهاءَ الرقِّ إلى الأبد 

وهكذا يتبيّنُ حكمة الخالق :
1- تحريم استرقاق الحر مسلمًا كان أو كافرًا.. واستثنى باب استرقاق الكافر في الحرب.
2- مئات الأوامر والأحكام القاضيةِ بتحرير الرقاب.
3- جعل أحقية تحرير الرقاب في يد العبد وباختياره وحريته المطلقة.
4- اقامة المؤاخاةِ والمساواةِ بيْن العبدِ وبيْنَ سيِّدِه.
5- جعل باب الرق الوحيدِ مرهونًا باستمرار الرق عند الأممِ الأخرى من عدمِه "فمن اعتدى عليْكُم فاعتدوا عليْهِ بمثل ما اعتدى عليْكُم.. فإن اتفقت الأمم على منع الرق .. فستكون النتيجة أن لا يوجد أي عبدٍ في أمةِ الإسْلام حتى ولو لم يُوقّع المسلِمون على معاهداتٍ مع باقِي الأمم .. لأنه زال السبب الذي به يُمكِن ظهور الرقيق , ولتحريمِ الإعتداء والتعدي.

إذًا اشكاليةُ الرق ليْست عندنا بل عندهم.


وأخيرًا .. الفارق الكبير .. بين النظام الذي يشجع الناس على طلب الحرية ويهيء لها الوسائل، ثم يعطيها لهم في اللحظة التي يطلبونها بأنفسهم، وبين النظم التي تدع الأمور تتعقد وتتحرج، حتى تقوم الثورات الاقتصادية والاجتماعية وتزهق الأرواح بالمئات والألوف، ثم لا تعطي الحرية لطلابها إلا مجبرة كارهة بقانون لا يملِك تغيير كوامن النفوس أو حواجز الأنا بين العبيدِ والأحرار , أو أن تعيد الرق في ثوبٍ آخر وتحت مسمّياتٍ جديدةٍ , حين وجدوا الحاجة الماسّة للعبيدِ والرقيق !!
----------------------

تعقيب بخصو نفسية العبد ...

لقد قدم علماء النفس والطب النفسي في أمريكا وأوربا بالفعل دراساتٍ نفسيّة في سيكولوجية العبودية , وأجمعت هذه الدراسات على أن اجبار العبيد على العمل دون تعويضٍ سحب العبيد إلى مزيدٍ من مستنقع الكراهية للنفس والإكتئاب , وأحد أكثر جوانب الضرر النفسي التي خلفتها مؤسسة العبودية هو تطوير كراهية الذات إلى مرحلةِ اعتِقاد العبد أنه يستحق تِلْك المعاملة التي يتلقاها.

ليس هذا فحسْب بل بينت الدراسات أن تحرير العبيد لم يُنهي معاناة أجيالهم إلى يومنا هذا فلازال الإحساس لديهم بالدونية والوضاعةِ متأصِّلًا .. مما يعني أنهم بالعفعل لم يتحرروا داخليًا حتى يومِنا هذا في ظل كل دعاوى حقوقِ الإنسانِ التي يدعونها .. اهتموا بالشكليات ونسوا الطبيعة البشرية ..