التسميات

الجمعة، 16 أغسطس 2013


بعض ما فقهه هنتنجتون ..
بقلم: محمد الهامي
نشر في: الحملة العالمية لمقاومة العدوان

كثير من المتعة كامنٌ في قراءة إنتاج المفكرين الغربيين منذ أن تحول الاستشراق إلى بحث علمي وتخلى عن مرحلة الخرافة وحتى هذه اللحظة، ذلك أن إنتاج المجتمعات وهي تشعر بالرسوخ والاستقرار يتميز عامة بالهدوء النفسي ويعبر عن حالة من التفكير الناضج حيث لا يظللها خطر داهم يدفعها نحو التفكير والإنتاج الانفعالي!

ولهذا تنتج الأمم فلسفاتها –عامة- في أوقات رخائها واستقرارها، ويكون خير ما تكتب الأمم –حتى عن أعدائها- في المرحلة التي لا تشعر فيها بالتهديد حيالهم، والمتابع لتطور الإنتاج الاستشراقي يعلم كم هو الفارق الشاسع الرهيب بين أوائل هذا الإنتاج (وقت التهديد الإسلامي) مثل "تاريخ شارلمان" وبين وصوله إلى الاحتراف والنضوج العلمي في عصور الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية.

ولئن كان من فضيلة للشعور الغربي بالتفوق، حتى وهو يعترف بإمكانية التهديد الإسلامي الماثل في الأفق، فهو أن كتاباتهم تتميز بصراحة ووضوح، وقد بلغ الأمر مبلغه لدى فوكوياما حين كتب "نهاية التاريخ"، ففي هذا الكتاب رأى فوكوياما أن الدنيا كلها ستنتهي إلى الليبرالية الغربية، وساق من جميع أنحاء العالم ما يدلل على رأيه، ثم اصطدم الواقع الإسلامي بنظريته تماما فلم يجد إلا التضحية بالمنهج العلمي وسلك سبيل التلفيق الاحترافي والعبارات الخجولة الملتفة التي تريد أن تقول بأن الإسلام ما زال حجر عثرة ولكن.. هناك أمل! انظر ماذا يقول:

"بالرغم من القوَّة التي أبداها الإسلام في صحوته الحالية، فبالإمكان القول: إن هذا الدين لا يكاد تكون له جاذبية خارج المناطق التي كانت في الأصل إسلامية الحضارة (!!!) [هنا ينسى عمدا أن الإسلام أوسع الأديان انتشارا في أوروبا وأمريكا]... ورغم أن نحو بليون نسمة يدينون بدين الإسلام؛ أي خمس تعداد سكان العالم، فليس بوسعهم تحدِّي الديمقراطية الليبرالية على المستوى الفكري، بل إنه قد يبدو أن العالم الإسلامي أشدَّ عرضة للتأثُّر بالأفكار الليبرالية على المدى الطويل من احتمال أن يحدث العكس؛ حيث إن مثل هذه الليبرالية قد اجتذبت إلى نفسها أنصارًا عديدين وأقوياء لها من بين المسلمين على مدى القرن ونصف القرن الأخيرين، والواقع أن أحد أسباب الصحوة الأصولية الراهنة هو قوَّة الخطر الملموس من جانب القيم الغربية الليبرالية على المجتمعات الإسلامية التقليدية"[1].
[1] فوكوياما: نهاية التاريخ ص56، 57.

وعلى كل حال، فأكثر من عشرين سنة بين كتابة هذا الكلام والواقع الحالي يثبت فشله بوضوح!

لكن صمويل هنتنجتون كان أبصر بالواقع من فوكوياما، فلم يغره ما غرّ فوكوياما من انهيار الاتحاد السوفيتي، ولم يأمل في أن يدخل المسلمون يوما في الفلك الغربي، بل قال بأنهم لن يتغربوا أبدا!

فعلى عكس فوكوياما الذي امتلأ كتابه بالتمنيات المصبوغة بقشرة من أبحاث ودراسات، جاء كتاب صمويل هنتنجتون راسخا على معطيات علمية وإحصائيات، وإن كان منطلقا من منهجية غربية لا تريد لا أن تلتقي أو تتفاهم أو حتى تحترم الآخر.. ولذلك كان الرجل بشير القوم بمنهجية "صدام الحضارات"!

وما كتبه هنتجتون منذ نحو عشرين سنة أحرى أن يفهمه كثير من المسلمين، لا سيما تلك النخبة التي ما تزال تدافع عن أفكار كفر بها الغربيون أنفسهم منذ زمن، فلقد اعترف هنتنجتون بأن الديمقراطية في دول الحضارات والشعوب غير الغربية لن تصل بهم أبدا إلى التغريب، ورصد بأن المسلمين منذ خمسينات القرن العشرين لم يعودوا يرون أنهم محتاجين إلى القيم الغربية بل يحتاجون إلى ما لدى الغرب من تقنيات فقط مع إيمانهم بأن استمساكهم بما لديهم من قيم خاصة وموروثة هو سر نجاحهم! وهذا ما شاع في أوروبا نفسها!!

ويعتبر كتاب "صدام الحضارات" واحدا من أهم ما ينبغي أن يقرأه المسلمون من الإنتاج الغربي، ففيه الكثير من الرصد لظواهر مهمة، تريد النخبة المتغربة في بلادنا أن تُغفلها، أو لربما كانت تجهلها أصلا، ذلك أن النخب الغربية قد تجاوزت منذ زمن ما تردده النخب التغريبية في بلادنا، وفيه –بعد رصد الظواهر- توصيات بكيفية المواجهة وخوض المعركة.

ولئن كانت الدراسات الكثيرة التي كُتِبَت عن هنتنجتون قد اهتمت بتحليل ودراسة والتعليق على توصياته "الصدامية" في المواجهة، فنحسب أننا في حاجة لأن نعيد ذكر بعضا من أهم ما رصده من ظواهر عالمية وواقع جديد، ونحسب أن فهم هذه الأمور سيكون فارقا في إدراك طبيعة ومستقبل المعركة التي تخوضها الأمة الإسلامية.
***

1. فشل وانحسار العلمانية ظاهرة عالمية

يقول:
"في النصف الأول من القرن العشرين كان المثقَّفُون يعتقدون أن التحديث الاقتصادي والاجتماعي سيُؤَدِّي إلى ذبول الدين، وكانت ثمة مخاوف وانزعاجات في المقابل من انتهاء الدين، ودخول البشر في فوضى شاملة، لكن النصف الثاني من القرن العشرين أثبت أن آمال المثقفين، ومخاوف المنزعجين لا أساس لها؛ فالتحديث الاقتصادي والاجتماعي تعاظم، وصار كونيًّا من ناحية الحجم، وفي الوقت نفسه حدثت صحوة دينية كبرى، انتشرت في كل قارة وكل حضارة وكل دولة، وبدلاً من أن تظهر توجهات دينية تحاول التكيف مع العلمانية، ظهرت التوجهات التي تُريد استعادة الأساس المقدَّس لتنظيم المجتمع، بل وتغيير المجتمع، فلم تَعُد القضية قضية تحديث، وإنما "أنجلة[2]
[2] أنجلة: كأسلمة ولكن عن "الإنجيل".
ثانية لأوربا"، ولم يَعُد الهدف تحديث الإسلام، وإنما "أسلمة الحداثة"، لقد اتسعت رقعة الأديان وكسبت أرضًا جديدة ومعتنقين جدد، وعاد أناس كثيرون إلى قيم مجتمعاتهم الدينية، وظهرت في كل الأديان والحضارات حركات أصولية ملتزمة بتنقية للعادات والتقاليد الدينية، وإعادة تشكيل السلوك الشخصي والاجتماعي العام بما يتَّفق مع العقائد الدينية[3].[3] صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات ص158.

"الصحوة الدينية في أرجاء العالم هي ردُّ فعل ضدَّ العلمانية، والنسبية الأخلاقية، والانغماس الذاتي، وإعادة تأكيد لقيم النظام والانضباط، والعمل والعون المتبادل والتضامن الإنساني. الجماعاتُ الإنسانية تُلَبِّي الاحتياجات الاجتماعية التي أهملتها بيروقراطيات الدولة (الأجهزة الإدارية)، وهي تتضمَّن توفير الخدمات الطبية والعلاجية، ودور الحضانة والمدارس، ورعاية المسنين، والإغاثة السريعة بعد الكوارث الطبيعية .. وغيرها، والمساعدة الاجتماعية أثناء فترات الحرمان الاقتصادي. انهيار النظام والمجتمع المدني يُحدث فراغًا تملؤه الجماعات الدينية والأصولية غالبًا"[4].
[4] صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات ص162.

وبعد استعراض العديد من ظواهر عودة الدين للتأثير في الحياة في البلاد المختلفة، حتى في أرض الاتحاد السوفيتي "عدو الأديان".. يستشهد بقول جورج ويجل: "نزع العلمنة عن العالم هو إحدى الحقائق السائدة في أواخر القرن العشرين"[5].
[5] صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات ص159.
***

2. فرض التغريب على مجتمعات لا تقبله يصنع "البلدان الممزقة".

من أهم ما فقهه هنتنجتون أن المجتمعات لا تقبل التغريب، وأن الحضارة الغربية ليست عالمية ليصح تطبيقها في أي مجتمع، بل كان مجددا حين قرر بأن فرض التغريب في مجتمعات لا تقبله إنما يحولها إلى حالة من التوتر والارتباك، أو بتعبيره هو يجعلها من "البلدان الممزقة".

استعرض هنتنجتون تجربة روسيا التي فرض عليها بطرس الأكبر التغريب لانتشالها من تخلفها، وقد اهتم بحلق اللحى وتقليد الثياب الغربية تماما كما اهتم بإنشاء المدارس وإصلاح الزراعة والتصنيع والتسليح.. ولكن المحاولة فشلت ودخل المجتمع أيام بطرس وبعده في تنازع، فهذا متغرب يؤيد التغرب أكثر فأكثر وهذا قد ضاق ذرعا واشتعل تنديدا بمحاولات "الأَوْرَبَة" وإلباس روسيا نظارة أوروبية.. ثم جاءت الشيوعية بنظرية جديدة مفادها "لن نحاول اللحاق بأوروبا، هي من ستلحق بنا (حين تعم الشيوعية العالم)"، ولهذا كان الترحيب الروسي بالشيوعية أكثر من ترحيبهم بتغريب بطرس الأكبر بل كانت فرحتهم طاغية بعودة العاصمة موسكو بعد أن كانت بطرسبرج عاصمة بطرس الأكبر، ثم حين فشلت الشيوعية وانهار الاتحاد السوفيتي لم تزدد الفجوة بين الروس والأوربيين إلا اتساعا، وما يزال سؤال الهوية يثير انقساما بين الروس والنخبة المتغربة، وما يزال الروس يراودهم حلم الامبراطورية الروسية القومية السلافية!

وأما تركيا، فقد بذل فيها أتاتورك مجهودا عنيفا لانتزاعها من تاريخها العثماني الإسلامي وإدخالها في الجسد الأوروبي، وكانت أوروبا تحتاج تركيا كواجهة تقف أمام التوسع الروسي الشيوعي في البحر المتوسط، فلما سقط الاتحاد السوفيتي لم تعد تركيا تمثل أهمية كبرى للغرب، وفشلت تركيا حتى الآن في عضوية الاتحاد الأوروبي لسبب جوهري: الأوروبيون يرون أن الأتراك ليسوا منهم وأنهم مسلمين، والأتراك لا يغيب عنهم أن هذا هو السبب، وأن ما يقال علنا هو مراوغة وتلفيق!

وفي أثناء كل هذا كان سؤال الهوية يعود ليسيطر على حياة الأتراك، صار الأتراك يُعرفون أنفسهم كمسلمين، وشهدت تركيا صحوة إسلامية واسعة أجبرت الجميع على تقديم التنازلات بما فيهم الأحزاب العلمانية بل والعسكر "حصن العلمانية" أنفسهم، وتغيرت سياسة تركيا لتصبح أكثر إسلامية، ويفوز فيها الإسلاميون، وليس أفضل تعبير عن التمزق الذي تعانيه تركيا ما بين الشعب والنخبة المتغربة المتنفذة أكثر من تصريح المسؤولين الأتراك (العلمانيين) بأنهم "جسر بين الثقافات" أو "تركيا ديمقراطية غربية ولكنها جزء من الشرق الأوسط".. وبهذا يعترفون أنها "دولة ممزقة"!

***
ولنا مع هنتنجتون وما فقهه وقفات أخرى في المقال القادم إن شاء الله تعالى..