نظرات في سلفية الإلحاد !
بقلم : هشام البوزيدي ..
أو : هشام بن الزبير (منتدى التوحيد) ..
ختم بهاته الكلمات مقاله, نظر إليه في زهو, وأعاد قراءته مرة أخيرة ثم كتب العنوان: (نظرات في سلفية الإلحاد) ثم ضغط على الزر فأرسله إلى أكبر منتديات (الجرب والجذام). ذهب ليحضر فنجان قهوة و لفافة دخان, ثم تفقد موضوعه فلم يجده.! عبثا حاول أن يفهم الذي جرى. بعد دقائق استلم رسالة خاصة من مشرف الموقع. فتحها فإذا فيها: "عزيزي أبا الإلحاد, لقد تم إلغاء اشتراكك. لمزيد من التوضيح يرجى مراسلة المشرف العام."
عاد أبو الإلحاد من عمله وهو يفكر في مقالة جديدة يدبجها, ثم يضعها لبنة في بناء (التنوير) الذي لا يفهم معناه (خفافيش الظلام). تفكر في تراجع القيم الإنسانية البحتة لحساب القيم البالية الموروثة. تفكر في عودة (الميتافيزيقا) إلى عالم يحلم رواده باستيطان المريخ. عجبا لهؤلاء المتعلقين بالأوهام, كيف يصدقون المحال؟ كيف يسلمون عقولهم للخرافة؟ تصور (الميتافيزيقا) امرأة ذميمة تركب حصانا بلا سرج تغير على الأميين وأنصاف المتعلمين لتسلبهم (الفكر الحر) و(الشك المنهجي). توقف عند هذه النقطة قليلا وتساءل: "هل صحيح أن خصوم (التنوير) وحدهم يصدرون عن فكر موروث؟ هل غيرهم بريء من التقليد؟ (المتنورون) يدعون التحرر والاستقلال الفكري, فهل تصمد هذه الدعوى أمام النقد؟ وهل تسلم من الاعتراضات نفسها التي يرمون بها خصومهم؟"
أحس أن تفكيره يقوده في وجهة طالما هرب منها. دعته غريزة حب البقاء الداروينية إلى توخي الحذر. خشي على إلحاده أن يتدنس بشوائب (الهرطقة الدينية). شعر باقترابه من مأزق. هم بالنكوص, لكنه تذكر تشدقه الممجوج بالحرية الفكرية والموضوعية والنقد الذاتي فأصر على أن يمضي خلف تأملاته إلى آخر الطريق, مهما كلفه الأمر.
حينها جلس إلى حاسوبه وافتتح صفحة جديدة. بدأ يكتب مقالته:
"إسهاما في جهود (التنوير) التي يقودها جنود مجاهيل في العالم الافتراضي, وإتماما لسلسلة مقالاتي السابقة الموسومة بـ (نقد الفكر الديني من منظور لاديني) أعرض اليوم لأكبر شعار يحمله رواد (التزمت الديني المعاصر) ألا وهو (السلفية) إنه شعار يصيبني بالسعار, إنه سيف قدّ من كلمات, فماذا يقصد بهذا الشعار أصحابه؟ وسترون أني لن أحيد عن المنهج العلمي في هذا البحث, وأني سأتحرى الموضوعية إلى أبعد حد حتى أصل إلى رؤية واضحة للمسألة المطروحة.
إن الفكر الديني يُتهم بأنه يحتكر الحقيقة, ولست أدري من استعمل هذا التعبير (السوقي) أول مرة؟ لعله بقال أو خضار, وإلا كيف نفسر أن يتهم أحد باحتكار الحقيقة؟ وهل الحقيقة سلعة في دكان؟ طبعا يقصدون أن المتدينين يعتقدون أن ما معهم هو الحق, لكن هل يوجد صاحب فكرة يحسب نفسه على باطل؟ يجب في رأيي المتواضع, أنا أبو الإلحاد, أن نراجع هذه التهمة التي أراها منافية لأصول المنهج العلمي. فلنحتكم جميعا في نقاشنا للمتدينين إلى الموضوعية العلمية, وإلى الحجج العقلية, أما الحقيقة فكل يدعي بها وصلا, وإلا ففيم الخلاف أصلا؟
إذن الفكر الديني يدعي معرفة الحق, فيخالفه الفكر اللاديني فينسب ما معه إلى الحق, لكن ليس هذا موضوعنا, إنما أردت أن أضع مصطلح (السلفية) على طاولة البحث, أو على مشرحة (الأفكار الميتة). حسنا, ماذا لدينا؟ (سين و لام و فاء.), المعاجم تقول (سلف أي تقدم), والسلف أي المتقدمون. أصحاب الفكر الديني إذن يدعون أنهم أتباع لسلف ما. إنهم لا يمتلكون فكرا خاصا بهم أصلا. فكيف يجدون لقولهم صدى في زمان ما بعد الحداثة وفي عصر التكنولوجيا؟ لماذا تنتشر (سلفيتهم) في مجتمعاتنا المتمدنة انتشار النار في الهشيم؟ توقف عن الكتابة وتمعن فيما كتبه للتو: (سلفيتهم) وهل لغيرهم(سلفية)؟ أخذته قشعريرة. همّ بإلقاء الموضوع في سلة المهملات, لكنه أصر على الإنسياق وراء حبل أفكاره, فاستأنف الكتابة: "ماذا لو وضعنا فكرنا اللاديني الإلحادي بدوره على المشرحة؟ دعونا نعامل أنفسنا بما نعامل به الخصم, فصاحب الحق لا يخشى شيئا, والمنهج العلمي لا يحابي أحدا. إذن نحن نرمي المتدينين باجترار فكر قديم بال, فدعونا نتأمل (فكرنا التقدمي المتحرر), دعونا ننفذ إلى جذوره, حتى يتبين لنا بالبرهان الساطع أن (سلفية) القوم بدعة في ميزان العلم, وأننا أهل الحداثة والإبداع والإبتكار.
لا شك أن مجتمعاتنا المدنية المعاصرة (بثرة حسناء) في جبين الزمان. إنها مجتمعات تنزهت عن كل الأديان, وتنكرت للإيمان بالغيب وآمنت بما في الجيب. لكن دعونا نقلب صحائف التاريخ لنفتش عن جذور مذهبنا. هل هو وليد اليوم أم أن له أصلا وسلفا؟ هل كان ثمة من يخالف سلف هؤلاء المؤمنين في الزمن الغابر ويرد عليهم؟ أم أن العصور القديمة كانت أرضا خصبة لأديانهم لا ينازعهم فيها أحد؟ لا شك أن الفلاسفة عاشوا جنبا إلى جنب مع قساوسة الأديان ورهبانه. لقد كانوا حقا فرسان (التنوير) ربما كان أولئك (سلفنا الصالحين), فأعظم بهم وأكرم بتراثهم, سقراط, أفلاطون, أرسطو كانوا فلاسفة أنوار غير متدينين, لكن مهلا, إنهم لم يكونوا ملحدين أيضا, لا يصح لنا أن ننسب مذهبنا الإلحادي الراديكالي إلى هؤلاء, هذا تدليس, فنحن برآء من تهمة (السلفية) نحن (متنورون أقحاح) إذن.
يبدو الأمر كذلك لولا أن الفلاسفة انبروا للرد على طائفة أخرى ينبغي أن نلقي على فكرها نظرة عابرة. فكلنا نعلم أن السوسفطائين كانوا متحررين من كل حقيقة. لقد كانوا لا يرون لشيء حقيقة البتة. كانوا يرون السواد بياضا والبياض سوادا, والحق باطلا والباطل حقا, لقد تركوا لكل فرد أن يرى حقيقته, فلا حقيقة على الحقيقة. لقد كانوا رواد النسبية, نسبية الحقيقة ونسبية المعرفة. هل يعقل أن يكون هؤلاء(سلفنا)؟ قوم ينكرون بداهات العقول؟ إن كثيرا من الفلاسفة يرون الإيمان بعلة أولى لهذا الكون من العلوم الضرورية التي يُشك في عقل من يقدح فيها, أما رواد المذهب السوفسطائي فإنهم لم يعترفوا قط بشيء اسمه (علم ضروري) فلا ضرورة في العلم ولا العلم ضرورة. إنهم حقا عظماء. إنهم فرسان شجعان حطموا كل الثوابت وجعلوا معرفة الحق أمرا موكولا لكل إنسان, فما رآه فهو الحق, وليس له أن ينكر على غيره أبدا. هكذا تقوم المجتمعات المنطلقة المتحررة, تصبح بحرا تعوم فيه ملايين الجزر البشرية بآرائها المتناقضة وأخلاقها المتضاربة. ألا يحق لنا أن نفخر بسلفنا الأولين؟ يا لها من نتيجة غير متوقعة! إن المتدينين كانوا يدلسون علينا باحتكار (السلفية) فإن السلفية كما بينا بالبرهان القاطع أمر مشترك بين أهل كل ملة ومذهب. إننا لم نخترع إلحادنا اختراعا; بل إن له جذورا في الفلسفات والوثنيات القديمة. بل إن كتب المتدينين حوت طرفا من تاريخ (سلفنا). كيفلا فكتبهم المقدسة ليست إلا نصوصا موروثة تشهد لمراحل تاريخية منقرضة. إننا إذ نطالع أخبار إبليس ومناظراته (العقلانية)ونتأمل (أقيسته المنطقية); وحين نتدبر ردود قوم نوح وعاد وفرعون على أنبيائهم, نكاد نلمس إرهاصات نشأة مذهبنا الذي نعتز به اليوم; بل إننا حين ننظر في سير فرعون وأبي جهل نكاد نجزم أن هؤلاء عظماء ذوو مناهج فكرية مصيبة : ولكن قد بخسهم المتدينون فضلهم. لقد مهدوا لنا طريق الكفر والإلحاد, وأمدونا بإرث (تنويري) عظيم لا نزال نستقي منه حججنا في نقدنا للأديان. هؤلاء آبائي فجيئوني بمثلهم أيها المؤمنون.
وختاما ألخص فكرة هذا البحث قائلا: إن (السلفية) فكرة إنسانية لا يصح أن نتركها للمتزمتين يشنعون بها علينا فيرمونا بالابتداع, فكما أن لهم دينهم فإن لنا لادينيتنا, وكما أن لهم سلفيتهم فإن لنا سلفيتنا. وشتان بين (دين) و(لادين) وشتان بين (سلفية) و(سلفية). وما أبعد البون بين (سلفية النور) و(سلفية الظلام) وشتان بين (سلفية الإيمان) وبين (سلفية الإلحاد).
أعلم أنكم أيها الزملاء قد تختلفون معي, لكني نقضت للتو إحدى أكبر وأعتى آليات الفكر الديني المعاصر, وسلبت المتزمتين أمضى سلاح يشهرونه في وجوهنا ". ختم بهاته الكلمات مقاله, نظر إليه في زهو, وأعاد قراءته مرة أخيرة ثم كتب العنوان: (نظرات في سلفية الإلحاد) ثم ضغط على الزر فأرسله إلى أكبر منتديات (الجرب والجذام). ذهب ليحضر فنجان قهوة و لفافة دخان, ثم تفقد موضوعه فلم يجده.! عبثا حاول أن يفهم الذي جرى. بعد دقائق استلم رسالة خاصة من مشرف الموقع. فتحها فإذا فيها: "عزيزي أبا الإلحاد, لقد تم إلغاء اشتراكك. لمزيد من التوضيح يرجى مراسلة المشرف العام."