الرقاقتان .. والحلوى ..!
روعة عمل الخير في الإسلام ..
روعة عمل الخير في الإسلام ..
---
لا شك أن فعل الخير في هذه الدنيا : ربما واجهته بعض
الصعوبات والعقبات !!!..
وذلك لمخالفة معظمه لهوى النفس وشهواتها .. وخصوصا ً:
ما تعلق بالصدقة مثل إخراج :
المال أو الطعام أو الملابس : لوجه الله تعالى بغير مقابل
ولذلك : فقد سمى رسولنا الكريم صلى الله عليه
وسلم الصدقة : ( برهان ) (والحديث في صحيح مسلم)
أي أن الصدقة :
مِن أكبر الأدلة والبراهين (العملية) على (إيمان) العبد
بربه : وباليوم الآخر !..............
---
<< الرقاقتان والحلوى >> ...
قصة نقلها لنا (مصطفى صادق الرافعي) رحمه الله : في الجزء الثاني
مِن كتابه (مِن وحي القلم 135 : 142) .. وقد استقطعتها من قصة :
(الصياد والسمكة) لعدم الإطالة ...
مع تغييري لبعض تفاصيل الموقف الأخير من القصة ليكتمل
المعنى بها دون الحاجة لما قبلها .. وأترككم مع الأحداث ..
مع بعض التصرف والاختصار .. ومع ملاحظة أيضا ً:
قوة بلاغة القصة : وحُسن كلماتها !....
--------------------
الرقاقتان .. والحلوى ......
قال (أحمد بن مسكين) (وهو بطل هذه القصة في بغداد) :
ا ُمتحِنت بالفقر في سنة تسع عشرة ومائتين .. وانحسمت
مادتي (أي أموالي) .. وقحط منزلي قحطا ًشديدا ً: جمع عليّ
الحاجة والضر والمسكنة !.. حتى لو انكمشت الصحراء
المُجدبة : فصغرت ثم صغرت : حتى ترجع أذرعا ًفي أذرع :
لكانت هي داري يومئذٍ في محلة باب البصرة مِن بغداد !!..
---
وجاء يومٌ صحراويٌ : كأنما طلعت شمسه مِن بين الرمل
لا مِن بين السحب !!.. ومرت الشمس على داري في بغداد :
مرورها على الورقة الجافة المُعلقة في الشجرة الخضراء !
فلم يكن عندنا شيءٌ يُسيغه حلق آدمي !.. إذ لم يكن في الدار
إلا ترابها وحجارتها وأجذاعها !.. ولي امرأة ٌ: ولي منها
طفلٌ صغير .. وقد طوينا على جوع : يخسف بالجوف خسفا ً
كما تهبط الأرض !.. فلتمنيت حينئذٍ لو كنا جرذانا : فنقرض
الخشب !.. وكان جوع الصبي : يزيد المرأة ألما ًإلى جوعها !
وكنت بهما : كالجائع بثلاثة بطون خاوية !..
---
فقلت في نفسي : إذا لم نأكل الخشب والحجارة : فلنأكل
بثمنها !.. وجمعت نيتي على بيع الدار : والتحول عنها ..
وإن كان خروجي مِنه كالخروخ مِن جلدي : لا يُسمى إلا
سلخا ًوموتا ً(لشدة تعلقه بداره) .. وبت ليلتي : وأنا كالمثخن
(أي المجروح) حُمل مِن معركة ! فما يتقلب إلا على جراح :
تعمل فيه عمل السيوف والأسنة التي عملت فيها !..
---
ثم خرجت بغلس ٍلصلاة الصبح : والمسجد يكون في الأرض :
ولكن السماء تكون فيه (كناية عن قرب الله تعالى مِن عباده
في بيوته المساجد) فرأيتني عند نفسي : وكأني خرجت مِن
الأرض ساعة (أي مِن همومه وأحزانه) !.. ولما قضيت
الصلاة : رفع الناس أكفهم يدعون الله .. وجرى لساني بهذا
الدعاء :
" اللهم بك أعوذ أن يكون فقري : في ديني !.. أسألك النفع
الذي يُصلحني بطاعتك !.. وأسألك بركة الرضا بقضائك !..
وأسألك القوة على الطاعة : والرضا يا أرحم الراحمين " !
---
ثم جلست أتأمل شأني .. وأطلتُ الجلوسَ في المسجد :
حتى إذا ارتفع الضحى وابيضت الشمس : جاءت حقيقة
الحياة !.. فخرجت أتسبب (أي ألتمس الأسباب) لبيع الدار ..
وانبعثت (أي انطلقت) : وما أدري أين أذهب ؟!.. فما سرت
غير بعيد : حتى لقيني (أبو نصر الصياد) .. وكنت أعرفه
قديما ً.. فقلت : يا أبا نصر ! أنا على بيع الدار .. فقد ساءت
الحال .. وأحوجت الخصاصة (أي أحوجني الفقر لبيعها) !
فأقرضني شيئا ً: يُمسكني على يومي هذا بالقوام مِن
العيش : حتى أبيع الدار وأوفيك ..
---
فقال : يا سيدي !.. خذ هذا المِنديل إلى عيالك : وأنا على
أثرك لاحقٌ بك إلى المنزل .. ثم ناولني منديلا ً: فيه رقاقتان
بينهما حلوى !.. وقال : إنهما والله بركة الشيخ ...
قلت: وما الشيخ وما القصة ؟...
(وهنا : قد قمت بحذف قصة (أبو نصر الصياد) مع (بـِشر
الحافي) رحمه الله : لعدم الإطالة كما أخبرتكم) ....
---
قال (أحمد بن مسكين) : وكنت مِن الجوع بحيث لو أصبت
رغيفا ً: لحسبته مائدة ًقد نزلت مِن السماء !..
وأخذت الرقاقتين : ومضيت إلى دراي ....
---
فلما كنت في الطريق : لقيتني امرأة ٌمعها صبيّ ! فنظرت
المرأة إلى المنديل وقالت : يا سيدي ! هذا طفلٌ يتيمٌ
جائع ٌ: ولا صبر له على الجوع ! فأطعمه شيئا ًيرحمك الله !
فوجدت الطفل وقد نظر إليّ نظرة ً: لا أنساها !..
حسبت فيها خشوع ألف عابد : يعبدون الله تعالى منقطعين
عن الدنيا ! بل : ما أظن ألف عابدٍ يستطيعون أن يُخرجوا
للناس نظرة ًواحدة : كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع :
يسأل الرحمة !.. إن شدة الهم : لتجعل وجوه الأطفال كوجوه
القديسين في عين مَن يراها مِن الآباء والأمهات ! ربما لعجز
هؤلاء الصغار عن الشر الآدمي ! ولانقطاعهم إلا مِن الله
والقلب الإنساني !.. فيظهر وجه أحدهم وكأنه يصرخ بمعانيه
يقول : يا رباه !.. يا رباه !..
---
وخــُيلَ إليّ حينئذٍ : أن الجنة : قد نزلت إلى الأرض تعرض
نفسها : على مَن يُـشبع هذا الطفل وأمه !.. والناس عُميٌ :
لا يُبصرونها : وكأنهم يمرون بها في هذا الموطن :
مرور الحمير بقصر الملك ! لو سألتهم عنه : لفضلت عليه
الإصطبل الذي هي فيه !....
ولكني تذكرت امرأتي وابنها : وهما جائعان منذ الأمس !..
غير أني لم أجد لهما في قلبي : معنى الزوجة والولد ! بل :
معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها ! فأسقطتهما عن قلبي :
ودفعت ما في يديّ للمرأة وقلت لها : خذي وأطعمي ابنك ..
ووالله : ما أملك بيضاء ولا صفراء : وإن في داري :
لمَن هو أحوج إلى هذا الطعام !!.. ولولا هذه الخلة بي
(أي ظروف فقري الآن) : لتقدمت إليك بما يُصلِحك !..
فدمعت عيناها .. وأشرق وجه الصبي بالبسمة .. ولكن :
طمّ على قلبي ما أنا فيه .. فلم أجد لدمعتها معنى الدمعة !
ولا لبسمته معنى البسمة !...
---
وقلت في نفسي : إذا صبرت أنا : فمَن لزوجتي وابني بمثل
صبري واحتسابي الأجر مِن الله ؟ وكيف لي بهما ؟!..
ومشيت وأنا منكسرٌ منقبض ..
وكانت الشمس قد انبسطت في السماء : وذلك وقت الضحى
الأعلى .. فمِلت ناحية : وجلست إلى حائطٍ أ ُفكر في بيع
الدار : ومَن الذي يبتاعها .. فأنا كذلك : إذ مرّ (أبو نصر
الصياد) وكأنه مُستطار فرحا ً!.. فقال : يا (أبا محمد) :
ما يُجلسك ههنا : وفي دارك الخير والغنى !.. قلت :
سبحان الله !.. قال :
إني لفي الطريق إلى منزلك : ومعي ضرورة القوت أخذتها
لعيالك : ودراهم استدنتها لك : إذا رجل يستدل (أي يسأل)
الناس على أبيك أو أحدٍ مِن أهله : ومعه أثقال وأحمال !
فقلت له : أنا أدلك .. ومشيت معه أسأله عن خبره وشأنه
عند أبيك .. فقال :
---
إنه تاجر مِن البصرة : وقد كان أبوك أودعه مالا ًمِن ثلاثين
سنة ! فأفلس وانكسر المال : ثم ترك البصرة إلى خراسان ..
فصلح أمره على التجارة هناك .. وأيسر بعد المحنة ..
واستظهر بعد الخذلان .. وأقبل جَده بالثراء والغنى !.. فعاد
إلى البصرة .. وأراد أن يتحلل (أي مِن الدين الذي استدانه
مِن أبيك) فجاءك بالمال : وعليه ما كان يربحه في هذه
الثلاثين سنة !.. ومع ذلك أيضا ًطرائف وهدايا !!!!..
---
قال (أحمد بن مسكين) : وانقلبت إلى داري : فإذا مالٌ جم ٌ
وحالٌ جميلة !.. فقلت : سبحان الله :
فلو أن هذا الرجل لم يلق في وجهه (أبا نصر الصياد) في
هذه الطريق : في هذا اليوم : في هذه الساعة :
لما اهتدى إليّ !.. فقد كان أبي مغمورا ًلا يكاد يعرفه أحدٌ
وهو حيّ : فكيف به ميتا ًمِن بعد عشرين سنة ؟!!..
---
وآليت على نفسي : ليعلمن الله تعالى شكري لهذه النعمة ..
فلم تكن لي هِمة : إلا البحث عن المرأة المحتاجة وابنها :
فكفيتهما .. وأجريت عليهما رزقا ً(أي جعلت لهما مالا ً
ثابتا ًكل حين) .. ثم اتجرت في المال : وجعلت أربه (أي
أزيده) بالمعروف والصنيعة والإحسان : وهو مُقبلٌ :
يزداد ولا ينقص : حتى تمولت وتأثلت ....
------------
(( وإلى هنا : لم تنتهي القصة يا إخواني ! بل إن شئتم قولوا :
ما تبقى مِن سطور ٍآتية : هو لبُ الحكاية فتابعوا ))
----
وكأني قد أعجبتني نفسي (أي لكثرة فعلي للخير والصدقات)
وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي !.. ورجوت
أن أكون : قد كـُـتبت عند الله في الصالحين !......
---
فنِمت ليلة ً: فرأيتني في يوم القيامة (أي في رؤيا منامية) :
والخلق يموج بعضهم في بعض !.. والهول : هول الكون
الأعظم على الإنسان الضعيف يسأل : عن كل ما مسه مِن
هذا الكون !.. وسمعت الصائح يقول :
يا معشر بني آدم ! سجدت البهائم شكرا ًلله أنه لم يجعلها
مِن آدم !.. ورأيت الناس وقد وسعت (أي كبرت في الحجم)
أبدانهم : فهم يحملون أوزارهم (أي ذنوبهم) على ظهورهم :
مخلوقة ًمُجسمة !.. حتى لكأن الفاسق على ظهره :
مدينة ًكلها مُخزيات (والمُخزيات هي الأعمال الفاضحة) !..
---
وقيل : وُضعت الموازين .. وجيء بي لوزن أعمالي !..
فجُعِلت سيئاتي في كفة : وأ ُلقيت سجلات حسناتي في
الأخرى : فطاشت السجلات : ورجحت السيئات !!.. وكأنما
وزنوا الجبل الصخري العظيم الضخم : بلفافةٍ مِن القطن !..
ثم جعلوا يُـلقون الحسنة بعد الحسنة مما كانت أصنعه :
فإذا تحت كل حسنةٍ : شهوة ًخفية ًمِن شهوات النفس :
كالرياء .. والغرور .. وحُب المحمدة عند الناس وغيرها !
فلم يسلم لي شيء !!.. وهلكت عني حُجتي : إذ الحُجة :
هي ما يُبينه الميزان ! والميزان : لم يدل إلا على أني فارغ !
---
وسمعت الصوت : ألم يبق له شيء ؟ فقيل : بقيَ هذا :
وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي ؟!..
فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها !...
---
فأيقنت أني هالك ! إذ أني كنت أتصدق بمائة دينار مرة ً
واحدة : فما أغنت عني !.. ورأيتها في الميزان مع غيرها :
شيئا ًمعلقا ًكالغمام : حين يكون ساقطا ًبين السماء والأرض :
لا هو في هذه !.. ولا هو في تلك !..
ووُضعت الرقاقتان .. وسمعت القائل يقول : لقد طار نصف
ثوابهما في ميزان (أبي نصر الصياد) !... فانخذلتُ انخذالا ً
شديدا ً(أي حزنا ًعلى ضياع نصف ثوابهما) : حتى لو
كـُسرت إلى نصفين : لكان أخف عليّ وأهون !.........
---
بيد أني نظرت : فرأيت كفة الحسنات قد نزلت منزلة ً:
ورجحت بعض الرجحان !!!.. وسمعت الصوت : ألم يبق
له شيء ؟!.. فقيل : بقي هذا :
وأنظر : ما هذا الذي بقي ؟!!.. فإذا جوع امرأتي وولدي
في ذلك اليوم !.. وإذا هو شيءٌ يوضع في الميزان !..
وإذا هو ينزل بكفةٍ ويرتفع بالأخرى : حتى اعتدلتا بالسوية !
وثبت الميزان على ذلك : فكنت بين الهلاك والنجاة !!!...
---
وأسمع الصوت : ألم يبق له شيء ؟!.. فقيل : بقي هذا :
ونظرت : فإذا دموع تلك المرأة المسكينة : حين بكت مَن أثر
المعروف في نفسها : ومِن إيثاري إياها وابنها على أهلي !
ثم وضعوا غرغرة عينيها في الميزان : ففارت ! فطمت كأنها
لـُجة : مِن تحت اللـُجة بحر !...
وإذا بفرحة الطفل اليتيم وابتسامته : ترجح بالكفة بأكملها :
لأنجو بفضل الله ورحمته !!!!!!!!!!!!!....
---------------------
-----------------------
إلى هنا انتهت القصة إخواني (أو هكذا أنهيتها خلافا ًعن الأصل)
والآن أخبروني ...
هل يشعر كل فاعل خير ٍمنكم (برغم كل ما قد يُقال له) :
بمثل ما شعرت به عند قراءتي لهذه القصة ؟!..
---
وأما إذا استمتعتم مثلي بجمال وسمو لغة القصة وبلاغة تصاويرها :
فيحسُن الختم هنا بإحدى مقولات (مصطفى صادق الرافعي)
رحمه الله : في دفاعه عن سمو أدب اللغة العربية في
مواجهة حملات التغريب العاتية في مصر إذ يقول :
" ربما عابوا على السمو الأدبي : أنه قليل !..... ولكن :
الخير كذلك !!!!....
وبأنه مُخالف (أي لغيره) !... و لكن : الحق كذلك !!..
وبأنه مُحيّر !... و لكن : الحُسن كذلك !!..
وبأنه كثير التكاليف (أي لا يستطيعه أي أحد) !.. ولكن :
الحرية كذلك !!.." ...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....