التسميات

الثلاثاء، 23 يوليو 2013

ملف كامل عن تعدد الزوجات في الإسلام - شبهات وردود ..
من كتابه : المرأة بين الشريعة والقانون ..
للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ..


فكرة التعدد :
يشن الغربيون المتعصبون من رجال الدين والاستشراق والاستعمار حملة قاسية على الإسلام  والمسلمين  بسبب تعدد الزوجات !!! ويتخذون منها دليلاً على اضطهاد الإسلام للمرأة ، واستغلال المسلمين لها في إرضاء شهواتهم ونزواتهم .  والغربيون في ذلك مكشوفو الهدف ، مفضوحو النية ،متهافتو المنطق      .
1. 
فالإسلام لم يكن أول من شرع  تعدد الزوجات ، بل كان موجوداً في الأمـم القديمة كلها تقريباً : عند الأثينيين ، والصينيين ، والهنود ، والبابليين ،والآشوريين ، والمصريين ، ولم يكن له _ عند أكثر هذه الأمم _ حد محدود ، وقد سمحت شريعة    " ليكي " الصينية  بتعدد الزوجات إلى مائة وثلاثين امرأة ، وكان عند أحد أباطرة الصين نحو ثلاثين ألف امرأة  !!  
2. 
والديانة اليهودية كانت تبيح التعدد دون حد ، وأنبياء التوراة جميعاً بلا استثناء كانت لهـم زوجـات كثيرات ، وقد جـاء في التوراة أن نبي الله سليمان كان له سبعمائة امرأة من الحرائر ، وثلاثمائة من الإماء .
3. 
ولم يرد في المسيحية نصٌّ صريح يمنع التعدد ،  وإنما ورد فيه على سبيل الموعظة أن الله خلق لكل رجل زوجته ،وهذا لا يفيد -على أبعد الاحتمالات - إلا الترغيب بأن يقتصر الرجل في الأحوال العادية على زوجة واحدة ، والإسلام يقول مثل هذا القول، ونحن لا ننكره، ولكن أين الدليل على أن زواج الرجل بزوجة ثانية مع بقاء زوجته الأولى في عصمته يعتبر زنـًا ويكون العقد باطلاً ؟ .
ليس في الأناجيل نـص على ذلك ، بل في بعض رسائل بولـس ما يفيد أن التعدد جائز ،  فقد قال : “ يلزم أن يكون الأسقف زوجـاً لزوجة واحدة ”  ففي إلـزام الأسقف وحده بذلك دليل على جوازه لغيره .
وقد ثبت تاريخياً أن بين المسيحيين الأقدمين من كانوا يتزوجون أكثر من واحـدة ،  وفي آباء الكنيسة الأقدمين من كان لهـم كثير من الزوجات ، وقد كان في أقـدم عصور المسيحية  إباحة تعدد الزوجات في أحوال استثنائية وأمكنة مخصوصة .
قال وستر مارك Wester Mark)  ) العالم الثقة في تاريخ الزواج : ( إن تعدد الزوجات - باعتراف الكنيسة - بقي إلى القرن السابع عشر، وكان يتكرر كثيراً في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدولة ) .
ويقول أيضاً في كتابه المذكور : إن "  ديار ماسدت " ملك أيرلندة كان له زوجتان وسرِّيتـان  . اهـ  .. وتعددت زوجات الميروفنجيين غير مرة في  القرون الوسطى
وكان  لشرلمان زوجتان وكثير من السراري ، كما يظهر من بعض  قوانينه أن تعدد الزوجات لم يكن مجهولاً بين رجال الدين أنفسهم .
وبعد ذلك بزمن كان فيليب أوفاهيس ، وفردريك وليام الثاني البروسي : يبرمان عقد الزواج مع اثنتين بموافقة القساوسة اللوثريين ،وأقر مارتن لوثر نفسه تصرف الأول منهما كما أقره ملانكنون .
وكان لوثر يتكلم في شتى المناسبات على تعدد الزوجات بغير اعتراض ، فإنه لم يحرم بأمر من الله ، ولم يكن إبراهيم صلى الله عليه وسلم  - وهو مثل المسيحي الصادق  - يحجم عنه إذ كان له زوجتان . . نعم إن الله أذن بذلك لأناس من رجال  العهـد القديم في ظروف خاصة ولكن المسيحي الذي يريد أن يقتدي بهم  يحق له أن يفعل ذلك متى تيقن أن ظروفه تشبه تلك الظروف ، فإن تعدد الزوجات على كل حال أفضل من الطلاق .
وفي سنة 1650 ميلادية بعد صلح وستفاليا، وبعد أن تبين النقص في عدد السكان من جراء حروب الثلاثين  ، أصدر مجلس الفرنكيين بنورمبرج قراراً  يجيز للرجل أن يجمع بين زوجتين .. بل ذهبت بعض الطوائف المسيحية إلى إيجاب تعدد الزوجات ، ففي سنة 1531م نادى اللامعمدانيـون فيمونستر صراحة بأن المسيحي -  حـق المسيحي - ينبغي أن تكون له عدة زوجات، ويعتبر المورمون كما هو معلوم أن تعدد الزوجات نظام إلهي مقدس .
ويقول الأستاذ عباس العقاد :  ( ومن المعلوم  أن اقتنـاء السـراري كان مباحاً - أي في المسيحية - على إطلاقه كتعدد الزوجات ، مع إباحة الرق جملة في البلاد الغربيـة ، لا يحده إلا ما كان يحد تعدد الزوجات ، من ظروف المعيشة البيتية .         ومن صعوبة جلب الرقيقات المقبولات للتسري من بلادأجنبية ، وربما نصح بعض الأئمة - عند النصارى - بالتسري لاجتناب الطلاق في حالة عقم الزوجة الشرعية .
ومن ذلك ما جـاء في الفصل الخامس عشر من كتاب الزواج الأمثـل للقديـس أوغسطين ، فإنه يفضل التجـاء الزوج إلى التسري بدلاً من تطليق زوجته العقيم         
وتشير موسوعة العقليين إلى ذلك ، ثم تعود إلى الكلام عن تعدد الزوجات فتقول : إن الفقـيد الكبير جروتيوس دافع عن الآباء الأقدمين فيما أخذه بعـض الناقدين المتأخرين عليهم من التزوج بأكثر من واحدة ، لأنهم كانوا يتحرون الواجب ، ولا يطلبون المتعة من الجمع بين الزوجات .
وقال جرجي زيدان : ( فالنصرانية ليس فيها نص صريح يمنع أتباعها من التزوج بامرأتين فأكثر ، ولو شاؤوا لكان تعدد الزوجات جائزاً عندهم ، ولكن  رؤساءها القدماء وجدوا الاكتفاء بزوجة واحدة أقرب لحفظ نظـام العائلة واتحادها - وكان ذلك شائعاً في الدولة الرومانية - فلم يعجزهم تأويل آيات الزواج حتى صار التزوج بغير امرأة واحدة حراماً كما هو مشهور ) .
4. 
ونرى المسيحية  المعاصرة تعترف بالتعـدد في أفريقيا السوداء ، فقـد وجدت الإرسالية التبشيرية نفسها أمام واقع اجتماعي وهو تعدد الزوجات لدى الافريقيين الوثنيين، ورأوا أن الإصرار على منع التعدد يحول بينهم وبين الدخول في النصرانية، فنادوا بوجوب السماح للافريقيين المسيحيين بالتعدد إلى غير حد محدود ، وقد ذكر السيد نورجيه مؤلف كتاب "الإسلام والنصرانية في أوساط أفريقية" ( 92-98 ) هذه الحقيقة ثم قال :  " فقد كان هؤلاء المرسلون يقـولون إنه ليس من السياسة أن نتدخل في شؤون  الوثنيين الاجتماعية التي وجدناهم عليها ، وليس  من الكياسة أن نحرم عليهم التمتع بأزواجهم ما داموا نصارى يدينون بدين المسيح، بل لا ضرر من ذلك ما دامت التوراة وهي الكتاب الذي يجب على  المسيحيين أن يجعلوه أسـاس دينهم - تبيح هذا التعدد ، فضلاً عن أن المسيح قد أقر ذلك في قوله( لا تظنوا أني جئت لأهدم بل لأتمم  ) ا هـ .
وأخيراً أعلنت الكنيسة رسمياً السماح للأفريقيين النصارى بتعدد الزوجات إلى غير حد !!
5.
والشعوب الغربية المسيحية وجدت نفسها تجاه زيادة  عدد النساء على الرجال عندها - وبخاصة بعد الحربين العالميتين  - إزاء مشكلة اجتماعية خطيرة لا تزال تتخبط في إيجاد الحل المناسب لهــا ، وقد كان من بين الحلول التي برزت ، إباحة تعـدد الزوجات .
فقد حدث أن مؤتمراً للشباب العـالمي عقـد في " ميونخ " بألمانيـا عام 1948م  واشترك فيه بعض الدارسين المسلمين من البلاد العربية، وكان من لجانه لجنة تبحث مشكلة زيادة عدد النساء في المانيا أضعافاً مضاعفة عن  عدد الرجال بعـد الحرب  وقد استعرضت مختلف الحلول لهذهالمشكلة ، تقـدم الأعضاء المسلمون في هـذه اللجنة باقتراح إباحـة تعدد الزوجات ، وقوبل هذا الرأي أولاً بشيء من الدهشة والاشمئزاز ، ولكن أعضاء  اللجنة اشتركوا جميعـاً في مناقشته فتبين بعـد البحث الطويل أنه لا حل غيره ، وكانت النتيجة أن أقـرت اللجنة  توصية المؤتمر بالمطالبة بإباحة تعدد الزوجات لحل المشكلة .
وفي عام 1949م  تقدم أهالي " بون " عاصمة ألمانيا الاتحادية بطلب إلى السلطات المختصـة يطلبون فيه أن يُنـَص في الدستور الألماني على إباحة تعـدد الزوجات .
ونشرت الصحف في العام الماضي أن الحكومة الألمانية أرسلت إلى مشيخة الأزهـر تطلب منها نظام تعدد الزوجات في الإسلام ؛ لأنها تفكر في الاستفادة منه في حـل مشكلة زيادة النساء ، ثم أتبع ذلك وصول  وفـد من علماء الألمان  اتصلوا بشيخ الأزهر لهذه الغاية ، كما التحقت بعض الألمانيات المسلمات بالأزهر لتطلع  بنفسها على أحكام الإسلام في موضوع المرأة عامة وتعدد الزوجات خاصة .
وقد حدثت محاولة قبل هذه المحاولات في ألمانيـا أيام الحكم النازي لتشريع تعـدد الزوجات ، فقد حدثنا زعيم عربي إسلامي كبير أن هتـلر حدثه برغبته في وضـع قانون يبيح تعـدد الزوجات ، وطلب إليه أن يضع له في ذلك نظـاماً مستمداً من الإسلام ، ولكن قيام الحرب العالمية الثانية حالت بين هتلر وبين تنفيذ هذا الأمر .
وقـد سبق أن حاول " إدوارد السابع " مثل هذه المحاولة فأعـد مرسوماً  يبيح فيه التعدد ، ولكن مقاومة رجال الدين قضت عليه .
ثم إن المفكرين الغربيين الأحرار أثنوا على تعدد الزوجات ، وبخاصة عند المسلمين ، فقد عرض " جروتيوس " (Grotious) العالم القانوني المشهور لموضوع تعدد الزوجات فاستصوب شريعـة الآباء العبرانيين  والأنبياء في العهـد القديم  ، وقال الفيلسوف الألماني الشهير " شوبنهور " في رسالته كلمة عن النساء : " إن قـوانين الزواج في أوروبا فاسدة المبنى بمساواتها المـرأة بالرجل ، فقد جعلتنا نقتصـر على زوجة واحدة ، فأفقدتنا نصف حقوقنا، وضاعفت علينا واجباتنا، على أنها ما دامت أباحت للمرأة حقوقاً مثل الرجل كان من اللازم أن تمنحها أيضاً عقلاً مثل عقله. ..
إلى أن يقول : ولا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعـدد الزوجات زوجـاً يتكفل بشؤونها، والمتزوجات عندنا نفر قليل ، وغيرهن لا يحصين عدداً ، تراهن بغير كفيل         بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة ، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السفلى، يتجشمن الصعاب، ويتحملن شاق الأعمال، وربما ابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار، ففي مدينة لندن وحدها ثمانون ألف بنت عمومية ( أي عاهرة على عهد شوبنهور ) سفك دم شرفهن على مذبحة الزواج ضحية  الاقتصار على زوجة واحدة ، ونتيجة تعنت السيدة الأوربية وما تدعيه لنفسها من الأباطيل .
أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنـوع النساء بأسره ) ؟ إذا رجعنا إلى  أصول الأشياء لا نجد ثمة سبباً يمنع الرجل من التزوج بثانية إذا أصيبت امرأته بمـرض مزمن تألم منه ، أو كانت عقيما ً، أو على توالي السنـين أصبحت عجوزاً ، ولم تنجح المورمون ( وهي فرقة من البروتستانت تبيح تعـدد  الزوجات وتمارسه فعلاً ولها كنائسها المنتشرة في أوروبا وأمريكا) في مقاصدها إلا بإبطال هذه الطريقة الفظيعة طريقة الاقتصار على زوجة واحدة .
وتحدث ( غوستاف لوبون ) في كتابه " حضارة العرب " عن تعـدد الزوجـات عنـد المسلمين ، وهو الذي عاش بنفسه  سنوات طويلة في بلاد الشرق والإسلام فقال : " لا نذكر نظاماً اجتماعياً أنحى الأوروبيون عليه باللائمة كمبدأ تعـدد الزوجات، كما أننا لا نذكـر نظاماً أخطـأ الأوروبيون في إدراكه كذلك المبـدأ، فيرى أكثر مؤرخي أوروبا اتزاناً أن مبدأ  تعدد الزوجات حجر الزاوية في الإسلام ، وأنه سبب انتشار القرآن ، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشـأ عن هذه المزاعـم الغربية على العموم أصوات سخط ورحمة بأولئك البائسات المكدسات في دوائر الحريم فيراقبهن خصيانغلاظ ، ويُقتلن حينما يكرههن سادتهن !! فعلق لوبون قائلاً: ذلك الوصف مخالف للحق ، وأرجو أن يثبت عند القارئ الذي يقرأ هـذا الفصل بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوروبية جانباً ، أن مبـدأ تعدد الزوجات الشرقي نظـام طيب يرفع المستوى الأخـلاقي في الأمم التي تقول به ، ويزيد الأسرة ارتباطا ً، ويمنـح المرأة احتراماً وسعـادة لا تراها في أوروبا ، وأقول قبل إثبات ذلك : إن مبـدأ تعـدد الزوجات ليس خاصاً بالإسلام، فقد عرفه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور ( محمد) صلى الله عليه وسلم ، ولم تر الأمم التي  دخلت الإسلام فيه غنماً جديداً إذن، ولا نعتقد مع ذلك وجود ديانة قوية تستطيع أن تحول الطبائع فتبتدع أو تمنـع مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جـو الشرقيين وعروقهم وطـرق حياتهم .
إن تأثير الجو والعِرق من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى إيضاح كبير ، فبما أن تركيب المرأة الجثماني، وأمومتها، وأمراضها .. إلخ  . مما يكرهها على الابتعاد عن زوجها في الغالب .
وبما أن التأيم المؤقت مما يتعذر في جو الشرق ، ولا يلائم مزاج الشرقيين، كان مبدأ تعدد الزوجات لازمًا .
وفي الغرب ، حيث الجو والمزاج أقـل هيمنة ، لم يكن مبدأ الاقتصار على زوجـة  واحدة في غير القوانين ، لا ولم يكن في الطبائع حيث يندر !..
ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عنـد الغربيين ، مع أنني أبصر بالعكس ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننـا الكبيرة من احتجاجنـا عليهم ، ونظرهم إلى هذا الاحتجاج شزراً " .
ثم ينقل غوستاف لوبون ملاحظات العالم المتدين " لوبليه " في كتابه "عمال الشرق "         عن الضرورة التي  تدفع أرباب الأسر الزراعية في الشرق إلى زيادة عدد نسائهم ، وكون النساء في هذه الأسر هن اللائي يحرضن أزواجهن على البناء بزوجات أخر من غير أن يتوجعن .
وختم ذلك بقوله : " إن رأي الأوربيين ( في تعدد الزوجات ) ناشىء عن نظرهم إلى الأمر من خلال مشاعرهم ، لا من خلال مشاعر الآخرين . وقال: ( ويكفي انقضاء بضعة أجيال لإطفاء أوهام أو إحداثها ) .
ويقول وستر مارك في تاريخه : " إن مسألة تعدد الزوجات لم يفرغ منها بعـد تحريمه في القوانين الغربية ، وقد يتجدد النظر في هذه المسألة كرة بعد أخرى كلما تحرجت أحوال المجتمع الحديث فيما يتعلق بمشكلات الأسرة .
ثم تساءل : هل يكون الاكتفاء بالزوجة الواحدة ختـام النظم ، ونظـام المستقبل الوحيد في الأزمنة المقبلة ؟ .
ثم أجاب قائلاً : إنه سؤال أجيب عنه بآراء مختلفة، إذ يرى سبنسر أن نظام الزوجة الواحدة هو ختام الأنظمة الزوجية ، وأن كل تغيير في هذه الأنظمة لا بد أن يؤدي إلى هذه النهاية .

وعلى نقيض ذلك يرى الدكتور  Lepon أن القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد ، ويذهب الأستاذ إهرنفيل     Ehrenbel إلى حد القول بأن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء "        السلالة الآرية "        ،         ثم يعقب وستر مارك بترجيح الاتجاه إلى توحيد الزوجة إذا سارت الأمور على النحو الذي أدى إلى تقريره .
وإذا نحن حاكمنا الموضوع محاكمة منطقية بعيدة عن العاطفة وجدنا للتعدد حسناته وسيآته، وحسناته ليست من حيث التعدد ذاته ، فما من شك أن وحدة الزوجـة أولى وأقرب إلى الفطرة ، وأحصن للأسرة ، وأدعى إلى تماسكها ، وتحاب أفرادها ، ومن أجل ذلك كان هو النظام الطبيعي الذي لا يفكر الإنسان المتزوج العاقـل في العدول عنه إلا عند الضرورات، وهي التي تسبغ عليه وصف الحسن، وتضفي عليه الحسنات .
ضرورات التعدد:
والضرورات هنا تنقسم إلى اجتماعية وشخصية :
 ضرورات التعدد الاجتماعية :
أما الضرورات الاجتماعية التي تلجىء إلى التعـدد فهي كثيرة نذكر منها حالتين
لا ينكر أحد وقوعهما :
1. عند زيادة النساء على الرجال في الأحوال العادية ، كما هو الشأن في كثير من البلدان كشمال أوروبا ، فإن النساء فيها في غير أوقات الحروب  وما بعدها  تفوق الرجال بكثير ، وقد قال لي طبيب في دار للتوليد في هلسكني ( فنلندا ) إنه من بين كل أربعة أطفال أو ثلاثة يولدون يكون واحد منهم ذكراً والباقون إناثاً .
ففي هذه الحالة يكون  التعدد أمراً واجباً أخلاقياً واجتماعياً ، وهو أفضل بكثير من تسكع النساء الزائدات عن الرجال في الطرقات لا عائل لهـن ولا بيت يؤويهن ، ولا يوجد إنسان يحترم استقرار النظام الاجتماعي يفضل انتشار الدعارة على تعدد الزوجات ، إلا أن يكون مغلوباً على هواه ، كأن يكون رجلاً أنانياً يريد أن  يشبع غريزته الجنسية دون أن يحمل نفسه أي التزامات أدبية أو مادية نحو من يتصل بهن، ومثل هؤلاء خراب على المجتمع، وأعداء للمرأة نفسـها ، وليس مما يشرف قضية الاقتصار على زوجة واحدة أن يكونوا من أنصارهـا ، وحياتهم هذه تسخر منهم ومن دعواهم .
ومنذ أوائل هذا القرن تنبه عقلاء الغربيين إلى ما ينشأ من منع تعـدد الزوجات من تشرد النساء وانتشار الفاحشة وكثرة الأولاد غير الشرعيين ، وأعلنوا أنه لا علاج لذلك إلا السماح بتعدد الزوجات . فقد نشرت جريدة ( لاغوص ويكلي ركورد)، نقلاً عن جريدة ( لندن تروث) بقلم إحدى السيدات الإنجليزيات ما يلي : "       لقد كثرت الشاردات من بناتنا ، وعم البـلاء ، وقل الباحثون عن أسباب ذلك ، وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات ، وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزناً ، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وإن شاركني فيه الناس جميعاً ؟ لا فائدة إلا في العمل بمـا يمنع هذه الحالةالرجسة ، ولله در العالم الفاضل ( تومس ) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكامل الشفاء وهو : “ الإباحة للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بامرأة واحدة .. ( إن هذا التحديد بواحدة هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشـر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة )، ( أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلاًّ وعاراً وعالة على المجتمع ، فلو كان تعدد الزوجات مباحاً لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ما هم  فيه من العذاب الهون ، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن .. إن إباحة تعدد الزوجات تجعل كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين .
وتدل الإحصائيـات التي تنشر في أوروبـا وأمريكا على ازدياد  نسبة الأولاد غير الشرعيين زيادة تقلق الباحثين  الاجتماعيين ، وهؤلاء ليسوا إلا نتيجة عدم  اقتصار الرجل على امرأة واحدة ، وكثرة النساء اللاتي لا يجدن طريقاً مشروعاً للاتصـال الجنسي .
2. عند قلة الرجـال عن النسـاء قلة بالغة نتيجة الحروب الطاحنة، أو الكوارث العامة ، وقد دخلت أوروبا حربين عالميتين  خلال ربع قـرن ، ففني  فيهـا ملايين الشباب ، وأصبحت جماهير من النساء ما بين فتيات متزوجات ، قد فقدن عائلهن، وليس أمامهن - ولو وجدن عملاً -  إلا أن يتعرفن على المتزوجين الذين بقوا أحياء ، فكانت النتيجة أن عملن بإغرائهن على خيانة الأزواج لزواجاتهم ، أو انتزاعهم من أحضان زوجاتهم ليتزوجن بهم .
وقد وجدت النساء المتزوجات في هذه الأحوال من القلق وتجرع الهجـر والحرمان ما يفوق مرارة انضمام زوجة أخرى شرعية إلى كل واحدة منهن ، وقامت في بعض بلاد أوروبا - وخاصة في المانيا - جمعيات نسائية تطالب بالسماح بتعدد الزوجات، أو - بتعبير أخف وقعاً- في أسماع الغربيين وهو "        إلزام الرجل بأن يتكفل امرأة أخرى غير زوجته "          .
وضرورات الحـروب ونقصان الرجال فيها لا تدع مجالاً للمكابرة في أن الوسيلة الوحيدة لتلافي الخسارة  البالغة هو السماح بتعـدد الزوجات ، وهذا  الفيلسوف الإنجليزي سبنسر برغم مخالفته لفكرة تعدد الزوجات، يراها ضرورة للأمة التي يفنى رجالها في الحروب ،         يقول "        سبنسر" في كتابه أصول علم الاجتماع         :         ( إذا طرأت على الأمة حال اجتاحت رجالها  بالحروب ولم يكن لكل رجل من الباقين  إلا زوجة واحدة ، وبقيت نساء عديدات بلا أزواج ، نتج عن ذلك نقص في عدد المواليد لا محالة ، ولا يكون عددهم مساوياً لعدد الوفيات ، فإذا تقاتلت أمتان مع فرض أنهما متساويتـان في جميع  الوسائل المعيشية وكانت إحداهما لا تستفيد من جميع نسائها بالاستيلاد ، فإنها لا تستطيع أن تقاوم خصيمتها التي يستولد رجالها جميع نسائها ، وتكون النتيجة أن الأمة الموحدة للزوجات تفنى أمام الأمة المعددة للزوجات ) .
ضرورات التعدد الشخصية  :
هناك حالات كثيرة قد تلجىء الإنسان إلى التعدد ، نذكر منهـا على سبيل المثال:
1. أن تكون زوجته عقيماً ، وهو يحب الذرية ، ولا حـرج عليه في ذلك ، فحب الأولاد غريزة في النفس الإنسانية ، ومثل هـذا ليس أمامه إلا أحد أمرين:  إما أن يطلق زوجته العقيم، أو أن يتزوج أخرى عليها، ولا شك في أن الزواج عليها أكرم باخلاق الرجال ومرآتهم من تطليقها ؛ وهو في مصلحة الزوجة العاقر نفسها ، وقد رأينا بالتجربة أنها – في مثل هذه الحالة  –  تفضل أن تبقى زوجة ولها شريكة أخرى في حياتها الزوجية ، على أن تفقد بيت الزوجية، ثم لا أمل لها بعد ذلك فيمن يرغب في الزواج منها بعد أن يعلم أن طلاقها كان لعقمها، هذا هو الأعم الأغلب، إنها حينئذٍ مخيرة بين التشرد أو العودة إلى بيت الأب ، وبين البقاء في بيت زوجها ، ولهـا كل حقوق الزوجية الشرعية وكرامتـها الاجتماعية ، ولهـا مثل ما للزوجة الثانية من حقوق ونفقات .
نحن لا نشك في أن المرأة الكريمة العاقلة تفضل التعـدد على التشرد ، ولهذا رأينا كثيراً من الزوجات العُقَّم يفتشن لأزواجهن عن زوجة أخرى تنجب لهم الأولاد .
2. أن تصـاب الزوجة بمرض  مُزمن أو مُعدٍ أو مُنَفِّر  بحيث لا يستطيع معه الزوج
أن يعاشرها معاشرة الازواج ، فالزوج هنا بين حالتين : إما أن يطلقها وليس في ذلك شيء من الوفاء ولا من المروءة ولا من كرم الأخلاق ، وفيه الضياع والمهانة للمرأة المريضة ، وإما أن يتزوج عليها أخرى ويبقيها في عصمته ، لها حقوقها الزوجية ولها الإنفاق عليها في كل ما تحتاج إليه من دواء وعلاج ، ولا يشك أحـد في أن هذه الحالة الثانية أكرم وأنبل ، وأضمن لسعادة الزوجة المريضة وزوجها على السواء .
3. أن يشتد كره الزوج لها بحيث لم ينفع معه علاج التحكيم والطلاق الأول ، ولا الثاني ، وما بينهما من ( هدنة ) العدة التي تمتد في كل مرة ثلاثة أشهر تقريباً ، وهنا يجد الزوج نفسه أيضاً بين حالتين :         إما أن يطلقها ويتزوج غيرهـا ، وإما أن يبقيها عنده ، لها حقوقها المشروعة كزوجة ، ويتزوج عليها أخرى، ولا شك أيضاً في أن الحالة الثانية أكرم للزوجة الأولى، وأكثر غرماً على الزوج، ودليل على وفائه ونبل خلقه ، وهو في الوقت نفسه أضمن لمصلحة الزوجـة خصوصاً بعـد تقدم السن وإنجاب الأولاد .


4. أن يكون الرجل بحكم عمله كثير الأسفار، وتكون إقامته في غير بلدته تستغرق في بعض الأحيان شهوراً ، وهو لا يستطيع أن ينقل زوجته وأولاده معه كلما سافر، ولا يستطيع أن يعيش وحيداً  في سفره تلك الأيام الطويلة ، وهنا يجد نفسه كرجل بين حالين ، إما أن يفتش عن امرأة يأنس بها عن غير طريق مشروع ، وليس لها حق الزوجة ، ولا لأولادها - الذين قد يأتون نتيجة اتصال الرجل بها -  حقـوق الأولاد الشرعيين ، وإمـا أن يتزوج أخـرى ويقيم معهـا إقامة مشروعة في نظـر الدين والأخلاق والمجتمع ، وأولادها منه أولاد شرعيون يعترف بهم المجتمع، وينشؤون فيه كراماً كبقية المواطنين ، وأعتقد أن المنطق الهادىء والتفكير المتزن ، والحل الواقعي، كل ذلك يفضل التعدد على الحالة الأولى .

5. بقيت حالة أريد أن أكون  فيها صريحاً أيضاً ، وهي أن يكون عنده  من القـوة الجنسية، ما لا يكتفي معه بزوجته، إما لشيخوختها، وإما لكثرة الأيام التي لا تصلح فيها للمعاشرة الجنسية  -  وهي أيام الحيـض والحمل والنفاس والمرض وما أشبهها - وفي هذه الحالة نجد الأولى والأحسن أن يصبر على ما هو فيه ، ولكن : إذا لم يكن له صبر فماذا يفعل ؟ أنغمض أعيننا عن الواقع ، وننكره كما تفعـل النعامة أم نحاول علاجه؟ وبماذا نعالجه ؟ نبيح له الاتصال الجنسي المحرم وفي ذلك إيذاء للمرأة الثانية التي اتصل بها، وضياع لحقوقها وحقوق أطفالها، عدا ما فيه من منافاة لقواعد الدين والأخلاق ؟ أم نبيح له الزواج منها زواجاً شرعياً  تصان فيه كرامتها ، ويعترف لها بحقوقها ، ولأولادهم بنسبهم الشرعي معه ؟
هنا تتدخل مبادىء الأخلاق والحقوق فلا تتردد في تفضيل الحالة الثانية على الأولى
ولا بد لي هنا من ذكر حديث جرى بيني وبين أحد الغربيين يلقي ضـوءاً على هذا الموضوع .
حين سافرت إلى أوروبا في عام 1956 موفداً من جامعة دمشق في رحلةاستطلاعية للجامعات والمكتبات العامة، كان ممن اجتمعت بهم في لندن "       البروفيسور أندرسون "    رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية الشرقية في معهـد الدراسات الشرقية في جامعة لندن ، وجرى بيننا - فيما جرى من الأحاديث - نقاش حول تعدد الزوجات في الإسلام  ، سألني أندرسون : ما رأيك في تعدد الزوجات ؟  قلت له: نظام صالح يفيد المجتمعات في كثير من  الظروف إذا نفذ بشروط !  ، قال: أنت إذاً على رأي محمد عبده بوجوب تقييده ؟
قلت: قريب من رأيه لا تماماً ، فإني  أرى أن يقيد بقدرة  الزوج على الإنفاق على الزوجة الثانية ليمكن تحقيق العدل بين الزوجات كما طلب الإسلام .
قال : وهل مثلك في هذا العصر يدافع عن تعدد الزوجات ؟ ،         قلت :  إني أسألك فأجبني بصراحة من كانت عنده زوجة فمرضت مرضاً معـدياً أو منفـراً لا أمل بالشفاء منه، وهو في مقتبل العمر والشباب فماذا يفعـل ؟ هـل أمامه إلا إحدى ثلاث خطوات : أن يطلقها ، أو يتزوج عليها ، أو أن يخونها ويتصل بغيرها اتصالاً غير مشروع ؟ قال : بل هناك رابعة ، وهي : أن يصبر ويعف نفسه عن  الحرام .
قلت : وهل كل إنسان يستطيع أن يفعل ذلك ؟  قال : نحن المسيحيين نستطيع أن نفعل ذلك بتأثير الإيمان في نفوسنا .     فتبسمت وقلت : أتقول هذا وأنت غربي ؟ أنا أفهم أن يقول هذا القول مسلم أو مسيحي شرقي ، فقد يستطيع أن يكف  نفسه عن الحرام ، لأن محيطه لا يهيئ له وسائل الاختلاطبالمرأة في كل ساعة يشاء وأنى يشاء، ولأن تقاليده وأخلاقه لا تزالان تسيطران على تصرفاته، ولأن الدين لا يزال له تأثير في بلاده، أما أنتم الغربيون الذين لم تتركوا وسيلة للاتصال بالمرأةوالاختلاط بها والتأثير عليها وإغوائها إلا فعلتم، حتى لم تعودوا تستطيعون أن تعيشوا ساعة من نهار أو ليل دون أن تروا المرأة أو تخالطوها ، منذ تغادرون البيت حتى تعودوا إليه ، أنتم الذين يضج مجتمعكم بالأندية والبارات والمراقص ، وتغص شوارعكم بالأولاد غير الشرعيين ...تدّعون أن دينكم يمنعكم من خيانة الزوجة المريضة ؛ وكيف ذلك وخيانات الزوجات الجميلات الصحيحات الشابات تملأ أخبارها  أعمدة  الصحف والكتب ، وتصك الآذان ، وتشغل دوائر القضاء ؟‍‍‍‍ ‍
قال : إنني أخبرك عن نفسي ، فأنا أستطيع أن أضبط نفسي وأصبر ..  قلت     : حسنا ً، فكـم تبلغ نسبة الذين يضبطون أنفسـهم من المسيحيين الغربيين أمثالك بالنسبة إلى الذين لا يصبرون  ؟ قال : لا أنكر أنهم قليلون جداً  .     
قلت : وهل ترى أن التشريع يوضع للقـلة التي يمكن أن تعد بعدد الأصابع ؟ أم للكثرة والجمهرة من الناس ؟ وما فائدة التشريع الذي لا يستطيع تطبيقه إلا أفراد محدودون ؟     فسكت وانتهت المناقشة فيما بيننا. أقول هذا لأبين أن الذين يزعمون بأن الغريزة الجنسية ليست  كل شيء في حياة الإنسان ،وأن هنالك قيماً أثمن وأغلى كالوفاء والصبر يحرص عليها الحر الكريم، وأن تبرير التعدد بالحاجة الجنسية هو هبوط بالإنسان إلى مستوى الحيوان ، هذا الكلام وأمثاله، كلام جميل، وخيال خصب، قيل في ظل غير هذه الحضارة، ومن غير هؤلاء الذين يتكلمون هذا الكـلام  …  لو قيل من عباد زهّاد تعف ألسنتهم وأقلامهم وأعينهم عما حرّم الله من زينة المرأة ومفاتناها : واهواء الحياة وشهواتها أما من أولئك فلا ، وخير لهـم أن يحترموا واقع الحيـاة التي تعيشها الإنسانية ، ويعالجوا مشاكلها بصراحة الحكيم المجرب ، لا بمراوغة المجادل المكابر .. 
   سؤال غريب
أما وقد ذكرت المبررات الشخصية والاجتماعية لتشريع تعـدد الزوجات ،  فإني أحب أن أتعرض لسؤال غريب سألتني إياه طالبة في الجامعة حين كنت أتحدث  إلى طلابي عن موضوع تعدد الزوجات، قالت : إذا كانت المبررات التي ذكرتموها تبيح تعدد الزوجات ، فلماذ لا يباح تعدد الأزواج عند وجود المبررات نفسها  بالنسبة إلى المرأة ؟
وكان جوابي فيه شيء من التلميح فهمته تلك  الفتاة ، وتفهمه أمثالها من  النساء ، وهو أن المساواة بين الرجل والمرأة في أمر التعدد مستحيلة طبيعة وخلقة؛ ذلك لأن المرأة في طبيعتها لا تحمل إلا في وقت واحد، مرة واحدة في السنة كلها، أما الرجل فغير ذلك ،  فمن الممكن أن يكون  له أولاد متعددون من نساء متعددات ، ولكن المرأة لا يمكن إلا أن يكون لها مولود واحد من رجل واحد .
فتعدد الأزواج بالنسبة إلى المرأة يضع نسبة ولدها إلى شخص معين ، وليس الأمـر كذلك بالنسبة إلى الرجل في تعدد زوجاته .
وشيء آخر وهو أن  للرجل رئاسة الأسرة في جميع شرائع العالم ، فإذا أبحنا للزوجة تعدد الأزواج فلمن تكون رئاسة الأسرة ؟ أتكون بالتناوب ؟ أم للأكبر سناً؟ ثم إن الزوجة لمن تخضع ؟ أتخضع لهم  جميعاً وهذا غير ممكن لتفاوت رغباتهم ؟ أم تخـص واحداً دون الآخرين، وهذا ما يسخطهم جميعاً، إن السؤال فيه من الطرافة أكثر مما فيه من الجدية !
مساوىء التعدد
وهنا نجد من الإنصاف أن نذكر مساوىء التعدد بعد أن ذكرنا محاسنه .
1. فمن أهم مساوئه ما ينشأ بين الزوجات من عداء  وتحاسد وتنافـس يؤدي إلى تنغيص عش الزوجية ، وانشغال بال الزوج بتوافه الخصام بين الزوجات ، مما يجعل حياته معهن جحيماً لا يكاد يطاق ، وحياتهن فيما بينهن نكداً لا يكاد ينتهي .
وقد اطلعت أثناء تبييض هذه المحاضرة على أبيات للمرحوم الشيخ عبد الله العلمي الغزي الدمشقي أوردها في تفسيره لسورة يوسف  -  الذي طبع  -         يصـور عذاب المتزوج باثنتين :
تزوجت اثنتين لفَـرْط  جهلي             وقد حاز البـلَى  زوج اثنتين
فقلت : أعيش بينهما   خَروفاً              أُنعّم بين أكـرم  نعجتــين
فجاء الأمر عكس الحال دوماً              عذاباً دائمــاً ببليتيـــن
رضا هذي يحرك سخط هذي              فما أخلو من احدى السخطتين
وكثيراً ما يهيج الشر بينهن أن إحداهن تكون أحب إلى قلب الزوج من الأخرى أو من أُخراهن ، فيكون الحسد الذي لا يغثأ حدته إلى حكمة الزوج ، وهيهات إلا من أوتي أخلاق النبيين وعقل الفلاسفة والحكماء‍ .
2. إن هذا العداء ينتقل غالباً إلى أولاد الزوجات ، فينشأ الأخوة وبينهم من العداء والبغضاء ما يؤدي في الكثير الغالب إلى متاعب للأسرة ، وللأب خاصة ما يكون له أسوأ الآثار في استقرار الحياة الزوجية وسعادتها .
3. إنّ الزوج لا يمكنه العدل بين زوجاته في المحبة - كما أخبر الله تعإلى - مهما حرص على العدل في النفقة والمعاملة ، وفي ميل الزوج إلى زوجته  الجديدة إيحـاش لقلب زوجته الأولى ، وإيلام لها حيث تشعر أن زوجها كان لها خالصـاً ، فأصبح لها  من ينافسها في حبه وعواطفه ومسكنه ومأكله ومشربه . إن الحب لا يقبل مشاركة ولا مزاحمة ، فكيف يقر للزوجة الأولى قرار بعد هذا الشريك المزاحم الجديـد ‍، وأي عذاب هذا الذي تستطيع أن تتحمله ودونه كل عذاب ‍.
4. وقد قيل في مساوئ التعدد إنه سبب من أسباب تشرد الطفولة في بلادنا ، كما قيل مثله عن الطلاق ..  ولكن التدقيق في دراسة التشرد وأسبابه وأماكنه يرد هذه الدعوى ، ونذكر من ذلك أمراً بسيطاً ، وهو أن  التعدد في بلادنا كثيراً  ما يقع في الريف ، ويقصد منه أن يكون للأب أولاد كثيرون يساعدونه في زراعة الأرض التي يملكها، وهو لا يكون غالباً إلا من الموسرين كما تدل عليه الاحصاءات، ولا وجود للتشرد في الريف، ولا في أولاد الموسرين، وإنما هو موجود في المدن الكبرى وفي أولاد الفقراء ، وفي اليتامى وأبناء المجرمين والمشردين ، فللتشرد عوامل اجتماعية خاصة ليس تعدد الزوجات ولا الطلاق من أسبابه .
إن المساوىء الثلاثة الأولى هي التي تسلّم في مساوئ تعدد الزوجات ، ولكـن أي نظام لا مساوئ له ؟ ثم أي شيء في الدنيا يجري كما يحب كل إنسان ويهواه ؟‍‍‍‍ ‍ على أن التدين الصحيح والتربية الخلقية الكاملة يخففان كثيراً من هذه الأضرارحتى كأنها لا وجود لهـا .
إن نظام التعدد لا ينفذ غالباً إلا عند الضرورات ، وللضرورات أحكامها ، وهو في رأيي كالعملية الحربية فيها آلام ، وفيها ضحايا، ولكن إذا كانت لا بد منها، كانت دفاعاً مشروعاً يتحمل في سبيله كل تضحية وكل ألم ، وإذا لم تكن ضرورية  كانت عملاً جنونياً لا يقدم عليه عاقل ، وهذا هو تماماً موقف كل إنسان وكل مجتمع من قضية التعدد .
ثم إن شعور المرأة بالألم لمزاحمة زوجة أخرى لها، لا يدفعه منع التعدد فما دام الرجل يتطلع إلى امرأة أخرى ، فبماذا تحول زوجته دون انصراف عواطفه إلى تلك المرأة ؟ إنه يستطيع أن يخونها ، وأن يواصل تلك المرأة سراً ويعاشرها سراً ، وقد تعلم ذلك ولكنها لا تستطيع أن تفعل معه شيئا ً، كما هو الواقع في حياة الغربيين ، وفي حياة كثير من المنحرفين في بلادنا ..أليس الأكرم لها ولزوجها وللمرأة الأخرى أن يكون هذا اللقاء بعلمها ورضاها ، وأن يكون مشروعاً على سنة الله ورسوله .
والرجل الذي يقتصر على امرأة واحدة ولا يحب زوجته، ألا يؤلمها ذلك؟ ألا ينغص عيشها ؟ ألا يفقدها السعادة والهناء في حياتها الزوجية ؟ ولكنها  مـاذا تستطيع أن تفعل معه ؟ أتجبره على حبها ؟ هذا مستحيل ‍، أتحبسه في بيتها أتتوسل إليـه بالرقى والتعاويذ؟ إن الحب كما لا يقبل المزاحمة لا يقبل الإكراه فإذا ابتليت الزوجة بمن لا يحبها كان ذلك في الكتاب مقدوراً ، ولا سبيل إلى دفع عذابها النفسي وألمها بسبب ذلك، فأما أن تخسر الزوج كله بالطلاق، وإما أن تخسر نصفه بالتعدد، فأيهما أكثر خسارة لها وأشد إيلاما ً؟‍ .
التعدد نظام أخلاقي
إن نظام التعدد  - وخاصة نظامه في الإسلام  - نظام أخلاقي إنساني :
أما أنه أخلاقي فلأنه لا يسمح للرجل أن يتصل بأي امرأة شاء، وفي أي وقت شاء .
إنه لا يجوِّز له أن يتصل بأكثر من ثلاث نساء زيادة عن زوجته ، ولا يجـوز له أن يتصل بواحدة منهن سراً ، بل لا بد من إجراء العقد، وإعلانه ولو بين نفر محدود، ولا بد من أن يعلم أولياء المرأة بهذا الاتصال المشروع ويوافقوا عليه، أو ألا يبدو عليه اعتراضاً ، ولا بد من تسجيله  -         بحسب التنظيم الحديث - في محكمة مخصصة لعقود الزواج ، ويستحب أن يولم الرجل عليه ، وأن يدعو لذلك أصدقاءه، وأن يضرب له الدفوف مبالغة في الفرح والإكرام .
وأما أنه إنساني فلأنه يخفف الرجل به من أعباء المجتمع بإيواء امرأة لا زوج  لها، ونقلها إلى مصاف الزوجات المصونات المحصنات .
ولأنه يدفع ثمن اتصاله الجنسي مهراً وأثاثاً ونفقات تعادل فائدته الاجتماعية من بناء خلية اجتماعية تنتج للأمة نسلاً عاملاً .
ولأنه لا يخلي بين المرأة التي اتصل بها وبين متاعب الحمل وأعبائه، بل يتحمل قسطاً من ذلك ينفقه عليها أثناء حملها وولادتها .
ولأنه يعترف بالأولاد الذين أنجبهم هذا الاتصال الجنسي، ويقدمهم للمجتمع ثمرة من ثمرات الحب الشريف الكريم ، يعتز هو بهم ، وتعتز أمته في المستقبل بهم .
إن نظام التعدد يحدد للإنسان شهوته إلى قدر محدود، ولكنه يضاعف أعباءه ومتاعبه ومسؤولياته إلى قدر غير محدود .
لا جرم أنه نظام أخلاقي يحفظ الأخلاق ، إنساني يشرف الإنسان .
 تعدد الغربيين لا أخلاقي ولا إنساني
وأين هذا من التعدد الواقع في حياة الغربيين ؟ تحداهم أحد كتابهم أن يكون أحدهم وهو على فراش الموت يدلي باعترافاته للكاهن ، تحداهم  أن يكون فيهم واحـد لا يعترف للكاهن بأنه اتصل بامرأة غير امرأته ولو مرة واحدة في حياته .
إن هذا التعدد عند الغربيين واقع من غير قانون، بل واقع تحت سمع القانون وبصره
إنه لا يقع باسم الزوجات ، ولكنه يقع باسم الصديقـات والخليلات .
 إنه ليس مقتصراً على أربع فحسب ، بل هو إلى ما لا نهاية له من العدد .
إنه لا يقع علناً تفرح به الأسرة ، ولكن سراً لا يعرف به أحد .
إنه لا يلزم صاحبه بأية مسؤولية  مالية نحو النساء اللاتي يتصل بهن ، بل حسبه أن يلوث شرفهن ، ثم يتركهن للخزي والعار والفاقة وتحمل آلام الحمل والولادة غير المشروعة .
إنه لا يلزم صاحبه بالاعتراف بما نتج عن هذا الاتصال من أولاد ، بل يعتبرون غير شرعيين ، يحملون على جباههم  خزي السفاح ما عاشوا ، لا يملكون أن يرفعـوا بذلك رأساً .
إنه تعدد قانوني من غير أن يسمى تعدد الزوجات ، خالٍ من كل تصرف أخلاقي، أو يقظة وجدانية ، أو شعور إنساني         .
إنه تعدد تبعث عليه الشهوة والأنانية، ويفر من تحمل كل مسؤولية، فأي النظامين ألصق بالأخلاق ، وأكبح  للشهوات ، وأكرم  للمرأة ، وأدل على  الرقي ، وأبر بالإنسانية ؟
شغب الأوربيين
بعد هذا يحق لك أن تتعجب من إثارة الغربيين للضجة على الإسـلام والمسلمين حول تعدد الزوجات ، ونتساءل :
ألا يشعرون في قرارة أنفسهم بأنهم ليسوا على حـق في إثارة هذه  الضجة على الإسلام ؟
ألا يشعرون بأنهم حين يضجون من تفكك الأسرة، وتكاثر الأولاد عاماً بعد عام، يعترفون ضمناً بأنهم لا يستطيعون أن يقتصروا على امرأة واحدة ؟
ألا يشعرون بأن من يقتصر على أربع خير ممن يجد كل ليلة زوجة؟ وأن من يلتزم نحو من يتصل بها بمسؤوليات أدبية ومالية أنبل ممن يتخلى أمامها عن كل مسؤولية؟
ألا يشعرون أن إنجاب مليون ونصف مليون ولد سنوياً في أمريكا وحدها بصـورة مشروعة أكرم وأحسن للنظام الاجتماعي من إنجابهم بصورة غير مشروعة ؟
في اعتقادي أنهم يشعرون بذلك لو تخلوا عن غرورهم من جهة، وتعصبهم من جهة أخرى .
أما الغرور فهو اعتقادهم أن كل ما هم عليه حسن وجميل، وأن ما عليه غيرهم من الأمم والشعوب  -         وخاصة المستضعفة منها  -         سيء وقبيح .
وأما التعصب فهو هذا الذي ما يزالون يتوارثونه جيلاً بعد جيل ضد الإسلام ونبيه وقرآنه .
حين كنت في دبلن ( ايرلندا ) عام 1956 زرت مؤسسة الآباء اليسوعيين فيهـا، وجرى حديث طويل بيني وبين الأب المدير لها، وكان مما قلته له : لماذا تحملون على الإسلام ونبيه وخاصة في كتبكم المدرسية ، بما لا يصح أن يقال في مثل هذا العصر الذي تعارفت فيه الشعوب والتقت الثقافات ؟     ..     فأجابني : نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج تسع نساء  !..     قلت له هـل تحترمون نبي الله داود ، ونبيه سليمان ؟     قال : بلى !  وهما عندنا من أنبياء التوراة !
قلت : إن نبي الله داود كان له تسع وتسعون زوجة ، أكملهن  بمائة بالـزواج من زوجة قائده اوريا كما يقولون ، ونبي الله سليمان كانت له  - كما جاء في التوارة - سبعمائة زوجة من الحرائر ، وثلاثمائة من الجـواري وكنّ أجمل أهل زمانهن ، فلم يستحق احترامكم من يتزوج ألف امرأة، ولا يستحق احترامكم من يتزوج تسعاً؟ ثمانٍ منهن ثيبات ، وأمهات ، وبعضهن عجائز، والتاسعة هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوجها طيلة عمره؟ فسكت قليلاً وقال : لقد أخطأت التعبير أنا أقصد أننـا
نحن الغربيين لا نستسيغ الزواج بأكثر من امرأة، ويبدو لنا أن من يعدد الزوجات غريب الأطوار ، أو عارم الشهوة !
قلت : فما تقولون في داود وسليمان وبقية أنبياء بني إسرائيـل الذين كانوا جميعاً معددين للزوجات بدءاً من إبراهيم عليه السلام ؟  فسكت ولم يحر جواباً         .
تشريع التعدد في القرآن
جاء في القرآن الكريم في أول سورة النساء ( وإن خفتُم ألا تُقسطوا في اليتـامي فانكحوا ما طاب لكم من النساء مَثنى وثُلاث ورُباع ، فإن خفتم  أن لا تعـدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانُكم ذلك أدنى ألا تعولوا  ) . النساء:3 .
وجاء في السورة نفسها ( ولن تستطيعوا ألا تعدلوا بين النسـاء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ، وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيما) النساء:129.
تفيد هاتان الآيتان بمجموعهما _كما فهمهما جمهور المسلمين من عهد الرسـول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين وعصور الاجتهاد فما بعدها _ الأحكام التالية        :
1. إباحة تعدد الزوجات حتى الأربع ، فلفظ "    انكحوا "    وإن كان لفظ أمر إلا أنه هنا للإباحة لا للإيجاب ، وعلى ذلك جمهور المجتهدين في مختلف العصور لا نعلم في ذلك خلافاً ، ولا عبرة بمن خالف ذلك من أهل الأهواء والبدع فذهبوا إلى أن الآية تفيد إباحة التعدد بأكثر من أربع ، وهذا ناشئ عن جهلهم ببلاغة القرآن وأساليب البيان العربي ، ومن جهلهم بالسنة كما قال القرطبي رحمه الله .
2. أن التعدد مشروط بالعدل بين الزوجات ، فمن لم يتأكد من قدرته على العدل "       لم يجز "       له أن يتزوج بأكثر من واحدة ، ولو تزوج كان العقد صحيحاً بالإجماع ولكنه يكون آثماً .
وقد أجمع العلماء  -  وأيده تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله  -  أن المراد بالعدل المشروط هو العدل المادي في المسكن واللباس والطعام والشراب والمبيت وكل ما يتعلق بمعاملة الزوجات مما يمكن فيه العدل .


3. أفادت الآية الأولى اشتراط القدرة على الإنفاق على الزوجة الثانية وأولادها، بناءً على تفسير قوله تعالى ( ألا تعولوا ) أن لا تكثر عيالكم ، وهذا هو التفسير المأثور عن الشافعي رحمه الله .

قال البيهقي في "       أحكام القرآن "        الذي  جمعه من كلام الشـافعي رحمه الله في مصنفاته :        وقوله : ( ألا تعولوا ) أي لا يكثر من تعولون إذا اقتصر على واحدة، وإن أباح له أكثر منها( ص260). وهذا يفيد ضمناً اشتراط القدرة على الإنفاق لمن أراد التعدد ، إلا أنه شرط ديانة لا قضاء .
4. وأفادت الآية الثانية أن العـدل في الحب بين النسـاء غير مستطاع وأن على الزوج ألا يميل عن الأولى كل الميل فيذرها كالمعلقة، لا هي زوجة ولا هي مطلقة، بل عليه أن يعاملها باللطف والحسنى بما استطاع ، عسى أن يصلح قلبها ويكسب مودتها .
وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية كما ذكرناه ، فكان حين  يعدل بين زوجاته يقول: [ اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما لا أملك ] يعني بذلك حبه لعائشة رضي الله عنها أكثر من غيرها من زوجاته .
فهم خاطىء متهور
وقد حاول بعض الناس ممن لا علم لهم بالشرع، ولا بالكتاب والسنة أن يزعموا أن القرآن يمنع التعدد في آيتيه السابقتين، لأن الآية الأولى تشترط إباحة التعدد بالعدل بين الزوجات ، والآية الثانية تقطع باستحالة العدل بينهن، فكأن التعدد مشروط بما يستحيل إمكانه ، فهو ممنوع .
ولا ريب في أن قليلاً من النظر يرد هذه الدعوى لأمور كثيرة منها :
أولاً : أن العدل المشروط في الآية الأولى هو غير العدل المقطوع باستحالته في الآية الثانية .
فالعدل المشروط في الأولى هو العـدل الذي  يمكن للزوج  أن يفعله ، وهو العدل المادي في مثل المسكن والمبيت واللباس والطعام وغير ذلك .
والعدل المقطوع بعدم استطاعته هو العدل الذي لا يمكن في الواقع للزوج أن يفعله  وهو العدل المعنوي في الحب والمكانة القلبية ، فما تزوج الثانية إلا وهو معرض عن الأولى بسبب من الأسباب ،  فكيف يعدلها بها ويساويها معها في حبه وعواطفه؟
وعلى هذا فلا تعلق بين العدلين في الآيتين ، إلا من حيث إنه عـدل بين الزوجات ! ويكون تعليق التعدد بالعدل المادي بين الزوجـات لا يزال مشروطاً وقائماً ، فمن علم أنه لا يعدل بينهن كان آثماً في التعدد ، وإذا تزوج فلم يعدل كان آثماً .
وأما عدم عدله في حبه بينهن فلا يؤاخذه الله عليه إلا إذا أفرط في الجفاء، وبالغ في الانصراف .
ثانيا : إن نص الآية الثانية قاطع بالمراد من العدل الذي لا يستطيعه الإنسان ، وهو الحب ، وذلك أن الله تبارك وتعالى بعد أن علم  طبيعة النفس الإنسانية ، وأنهـا لا تستطيع العدل بين الأولى والثانية ، خاطبه بما يستطيع، فنهاه عن أن يميل عن الأولى كل الميل ، فيذرها كالمعلقة ومعنى ذلك أن الميل "       بعض "      الميل جائز ، بل هو الذي لا بد أن يقع وهو مما لا يحاسب الله عليه الزوج .
ولذلك ختم الآية الكـريمة بقوله : ( وإن تصلحوا وتتقـوا فإن الله كان غفـوراً رحيماً) وهذا حث آخر للزوج على أن يصلح الوضع فيما بينه وبين زوجته الأولى  ويتقي الله في أمرها فلا يهجرها ويسيء عشرتها ، وأنه إن فعل ذلك فإن الله يغفر له ما يكون منه من ميل إلى  زوجته الثانيـة أكثر من الأولى ، وأن  الله رحيـم بتلك الزوجة ، بما سيلقي في قلب زوجها من وجوب العدل معها وحسن معاملته لها .
ثالثاً : لو كان الأمر كما زعمه هؤلاء لما كان لقوله تعالى: ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) معنى ، ولا أدى إلى غرض ولكـان الأولى أن يمنع التعدد رأسا وبلفظ واحد ، لا أن يبيح التعدد ويعلقه بشرط مستحيل ، فهذا عبث من الكلام يصان عنه أي واحد من العقلاء ، فكيف بكلام رب العالمين ، الذي هو الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة والبيان العربي المبين ؟ ..
أليس مثل ذلك  – في دعواهم  – كمثل من قال : أبحت لك أن تسلك هذه الطريق أو هذه الطريق ، أو هذه الطريق ، ولكن من المستحيل عليك أن  تسلك إلا طريقـاً واحداً لكذا وكذا ؟  ما معنى مثل هذا الكلام ؟ وما فائدته ؟ وهل يقع مثل هذا في قانون ؟ أو دستور أو كتاب علمي فضلاً عن كتاب رب العالمين .
رابعا : من المعلوم في الدين بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم  مفسر لكتاب الله، وأنه لا يفعل حراماً، ولا يسمح بحرام ولا يقر عليه، وقد ثبت أن العرب الذين دخلوا في الإسلام كان منهم كثيرون  تحتهم أكثر من أربع زوجات ، منهم من كان عنده ست، ومنهم من كان عنده ثمان، ومنهم من كان عنده عشر، ومنهم من كان عنده ثمان عشرة .. وهكذا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار كل واحـد أربعاً من زوجاته ويفارق سائرهن ، ولو كـان التعدد حـراماً بنص هاتين  الآيتين لأمرهم أن يختاروا واحدة منهن ويفارقوا سائرهن .
ومن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عدّد زوجاته، وأن أصحابه قد عددوا الزوجات في حياته وعلى مسمع منه وعلم ، ولم ينكر عليهم ، فإذا قيل : إن تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خـاص به -  مع أن خصوصيته في الزيادة على الأربع ، لا في الزيادة على واحدة بإجماع المسلمين - فكيف أقر النبي تعدد زوجات أصحابه ، وكيف رضي بذلك وسكت عنه ؟
لا أعتقد عاقلاً يزعم أن الصحابة والتابعين وجماهير المسلمين خلال أربعة عشر قرناً لم يفهموا هاتين الآيتين حق الفهم ، وأن الله ادّخـر هذه الفضيلة لأصحاب هـذا الفهم ، إن قال أحد مثل هذا فقد حكم  بنفسه على عقله !...
في اعتقادي أن الذين قالوا مثل هـذا ليسوا من الجهل  والغباوة إلى هذا الحـد ، ولكنهم بين فريقين : بين مخلص حسن النية رأى شـدة هجوم الغربيين على نظام التعدد في الإسلام ، فظن أنه بمثل هذا القول يخلص الإسلام مما يتهمونه به ، ومثل هذا ضعيف الإيمان ، ضعيف الشخصية ، لا يثق بما عنده، ويخشى ما عند أعدائه، فينهزم أمامهم لأول حملة مصطنعة .. وأرى أن عصر هؤلاء قد ولّى، وأن الغربيين قد أصبحوا بحـاجة إلى ترميم بنيانهم المتداعي، فلم يعودوا يصلحون للهجوم على الناس ..  ولم يعودوا يخيفون من يهاجمون ...
وبين آخر سيئ النية يريد أن يخدع  المسلمين عن دينهم ، فيزين لهم التبرؤ مما فعله رسولهم وصحابته وجماهير الملايين المسلمين في أربعة عشر قرناً، بحجة أنهم لم يفهموا القرآن كما ينبغي ، ومثل هذا مهتوك  الستر لا يمكن أن يخدع أحداً ، وقد أصبح المسلمون من الثقة بدينهم والوعي لدسائس خصومهم بما لا تنطلي عليهم مثل هذه الدسائس ، ولا هاتيك التحريفات !
أثر الإصلاح الإسلامي في التعدد
جاء الإسلام ونظام التعدد شائع في كل شرائع العالم وشعوبه تقريباً ولكنه لم يكن له حد ولا نظام . فكان أول إصلاح في هذا النظام أن قصره على أربع زوجات ، وهو إصلاح عظيم الشأن إذا علمنا أن بعض الناس ، بل بعض الأنبـياء السابقين كانت لهم مئات الزوجات .
وكان مما عمله أن شدد فيه على العدل بين الزوجات ، عدلاً مادياً إلى أقصى حدود المستطـاع ، وقد بنى الفقهـاء المسلمون على هذا المبدأ أحـكاماً في نهاية السمو الأخلاقي الذي لا مثيل له حتى في أخيلة الفلاسفة والحكماء .
وإن تعجب فمن صنيع النبي صلى الله عليه وسلم في مرضـه الذي توفي فيه : كان يحرص على أن يبيت عند كل  زوجة ليلة كما يبيت عند الأخرى ، وكان من شدة مرضه لا يستطيع المشي، فكان يحمل من بيت زوجة إلى بيت زوجة أخرى حتى إذا ثقل عليه المرض ، استأذن زوجاته في أن يظل عند عائشة تمرّضه، فلما اذن له وعلم رضاهن بذلك انتقل إلى بيت عائشة وظـل عندها حتى توفي بعد ليالٍ صلوات الله وسلامه عليه !
أنا لا أرى تعبيراً عن إنسانية الإسلام وأخلاقيته ومثاليته في تعدد الزوجات أبلغ من هذا المثال ...
وكان من إصلاح الإسلام في هذا الأمر أن ربَّى ضمير الزوج المسلم على خوف الله ومراقبته ، ورغبته في ثوابه إن نفذ أوامره ، وخشيته من عذابه إن خالفها ، وبذلك كان مع زوجاته لا رجلاً مستعلياً مستبداً يتحكم  بهن كما يشاء ، بل مؤمناً حاكماً على ضميره ، مراقباً بنفسه لنفسه فيما يكون قد  قصر من حق نحو إحدى  زوجاته أو أساء من معاملة .
ومثل هذه التربية تجعل التعدد  -  حين تقتضيه ظروف الإنسان الشخصية أو ظروف المجتمع العامة  - قليل المساوىء، قليل الأضرار فلا بيت تنهكه العداوات، ولا أولاد تفرق بينهم الخصومات ، وكل ما في الأمر غيرة لا بد منها تكبح الزوجـة المسلمة جماحها بأدب الإسلام ، وتعفى آثارها بحسن طاعتها لزوجها وقيامها بحقه ...
ونشأ البيت  الإسلامي في العصور الأولى ، تعمره الفضيلة ، ويملؤه الحب ، ويشيع في جنباته الوفاء والإخلاص ، لا فرق في ذلك بين  البيت ذي الزوجة الواحـدة ، وهو الأكثر ، وبين البيت ذي الزوجتين ، وهو الغالب في التعدد ، وبين البيت ذي الزوجات الثلاث أو الأربع ، وهو القليل في حالات التعدد .
وكان للتعدد أثره في حروب الفتح ، فمن المعلوم أن المعـارك الإسلامية مع أعداء الإسلام استمرت منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فدولة  الخلفاء الراشدين فالأمويين ، فعهد غير قصير من أيام العباسيين ، مرحلة امتدت أكثر من مائتي سنة ، تتلاحق لها المعارك في الشرق  والغرب والشمال والجنوب ، وفي المعارك ضحايا من شهداء ومشوهين وأسرى ومفقودين ، ومع ذلك فلم يشك  الجيش الإسلامي يوماً من تناقص المحاربين ! ولقد خاضت أوروبا معركتين خلال ربع قرن، ففني من رجالها عشرات الملايين ، وأصبحت لها مشكلتها الاجتماعية الكبرى :نقصـان الرجـال وكثرة النساء ، فكيف استطاع المسلمون أن يواصلوا الحروب أكثر من مائتي سنة، ثم واصلوا الحروب بعد ذلك في غزوات التتار ، وفي غزوات الصليبيين ، وفيما بعد ذلك دون أن يشكوا نقصاً في الرجال ، وكثرة في النساء ؟
في اعتقادي أن لنظام تعدد الزوجات والتسري أثراً كبيراً في هذه النتيجة، ولمن شاء من الباحثين أن يدلنا على سبب غير هذين .
المسلمون اليوم والتعدد
منذ أفاق المسلمون  على ضجيج  الحضارة الغربية تصك آذانهم ، وعلى جيوشـها وحكوماتها تسيطر على شؤونهم ومقـدراتهم ، وعلى كتبها وعلومها  تغزو عقولهم وأفكارهم ، وعلى مستشرقيها ومبشريها يحاولون النيل من دينهم  وتراثهم ، تنـبه المفكرون فيهم إلى وجوب إصلاح المجتمع الإسلامي وتنقيته من الشوائب ، وإنهاضه من كبوته ، وبعثه من رقاده .
ومما كثر جدلهم فيه "تعدد الزوجات "، وهو أمر كان فاشياً شيئاً ما في ذلك الحين ، ثم أخذ يتقلص شيئاً فشيئاً لعوامل كثيرة ، وهو منتشر في بعض الأقطـار الإسلامية أكثر منه في أقطار أخرى ، فهو في مصر مثلاً أكثر منه في بلاد الشام، وقد يكون في تركيا أقل منه في الشام وهكذا .
ولقد كان التعدد يومئذ _ نتيجة جهل المسلمين ، وبُعدهم عن أحكام الإسـلام _ يؤدي إلى أضرار كثيرة في الاسرة والمجتمع، مما لا علاقة له بنظام التعدد في الإسلام، بل بأخلاق المسلمين أنفسهم .
إزاء هذا وإزاء حملات الغربيين الشديدة على نظام التعدد في الإسلام  فكر عدد من المصلحين الإسلاميين في معالجة أضرار التعدد بأساليب شتى ، وكان  أقوى من تكلم في ذلك ، وأبعدهم أثرا ً، هو الاستاذ الإمام  الشيخ  محمد عبده _ رحمه الله _ فقد كتب كثيراً في أضرار التعدد كما كان عليه في أيامه ، وكان شاهد مساوئه بنفسه ، وقد تعـرض له في دروسه في التفسير التي كان يلقيها في الجامع الأزهـر  ويدونها حينئذ تلميذه وحامل علمه ا لسيد رشيد رضا رحمه الله ، فكان  ينشـرها في مجلته "    المنار "       ثم نقل شيئاً منها في تفسيره ( ج 4 ص349 ).
قال الأستاذ الإمام في تفسيره : "   فمن تأمـل الآيتين _ اللتين ذكرناهما من سـورة النساء  _  علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام  أمر مضيق فيه أشد التضييق ، كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة  بإقامة العدل ، والأمن من الجور ، وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد ، جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعـدد الزوجات ، فإن البيت الذي فيه زوجتان  لزوج واحد  لا تستقيم له حال ، ولا يقوم فيه نظام ، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت ، كأن كل واحد منهم عدو الآخر، ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عـدو ، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ، ومن البيوت إلى الأمة .
ثم قال : كان للتعدد في صدر الإسلام فوائد أهمها صلة النسب والصهر الذي تقوى بالعصبية ، ولم يكن له من الضرر مثل ما له الآن ؛ لأن الدين كان متمكناً في نفوس النساء والرجال ، وكان أذى الضرَّة لا يتجاوز ضرتها ، أما اليوم فإن الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها إلى والده ، إلى سائر أقربائه ، فهي تغري بينهم العـداوة والبغضاءن تغري ولدها بعداوة اخوته، وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها  وهو بحماقته يطيع أحب نسائه إليه ، فيدب الفساد في العائلة كلها "              ...
إلى أن يقول : "       وناهيك بتربية المرأة التي لا تعرف قيمة الزوج ولا قيمة الولـد ، وهي جاهلة بنفسها ، وجاهلة بدينها لا تعرف منه إلا خرافات وضلالات تلقفتـها من أمثالها ، يتبرأ منها كل كتاب منزل ، وكل نبي مرسل ، فلو تربى النسـاء تربية دينـية صحيحة يكون بها الدين هو صاحب السلطان  الأعلى على قلوبهن ، بحيث يكون هو الحاكم على الغيرة ، لما كان هناك  ضرر على الأمة من تعدد الزوجات ، وإنما يكون ضرره قاصراً عليهن في الغالب ، أما والأمر على ما نرى ونسمع ، فلا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات  فيها ، فيجب على  العلماء النظر في هذه المسألة - خصوصاً الحنفية منهم - الذين بيدهم الأمر ، وعلى مذهبهم الحكم ، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم ، وأن من أصوله منع الضرر والضرار ، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله ، فلا شك وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة ، يعني على قاعـدة : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
قال : وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعاً عند الخوف من عدم العدل
ثم قال السيد رشيد بعد ذلك : هذا ما قاله الاستاذ  الإمام في الدرس الأول  الذي فسر فيه الآية  .
ثم قال في الدرس الثاني        : "       تقدم أن إباحة تعدد الزوجات  مضيقة قد اشترط فيها ما صعب تحققه فكأنه نهى عن كثرة الأرواح ، وتقدم أنه يحرم على من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة ، ولا يفهم منه كما فهم بعـض المجاورين ( طلاب بالأزهر )  أنه لو عقد في هذه الحالة يكون العقد باطلاً أو فاسداً فإن الحرمة عارضة لا تقتضي بطلان العقد ، فقد يخاف الظلم ، وقد يظلم ثم يتوب فيعدل ، فيعيش عيشاً حلالاً "          . أ هـ .
من هذا يتبين لك :
أولاً : أن الاستاذ الإمام لا يرى في نظام  تعـدد الزوجات كما جاء في الإسلام ، وكما طبقه المسلمون الأولون أي ضرر بالمجتمع .
ثانياً : أنه يرى في التعدد الذي شاهد آثاره بنفسه مضار تتعدى الأسرة إلى المجتمع .
ثالثاً : أنه يرى وجوب تشريع يحول دون الأضرار التي يلحقـها تعدد الزوجات بالمجتمع .
ولم يفصح رحمه الله عما يراه بخصوص هذا التشريع ، هل هو منع التعدد؟ أم تقيده بقيود تقلل من وقوعه ومن أضراره ؟ .
ونحن لا نظن مطلقاً  أنه كان يرى منع التعدد - ولو أن في كلامه ما يمكن أن يفهم منه ذلك لمن أراد أن يفهم  -  فمنع التعدد  تغيير لأحكام الله ، وحيلولة  بين الأمة وبعض الأفرد وبين الاستفادة من هذا التشريع حيث تقتضي الضرورات ذلك ،ولا نعتقد أن الأستاذ الإمام رحمه الله يرى هـذا ، ولو أنه رأى هذا لكان رأيه مردوداً عليه ، فشرع الله أحق أن يتبع ، والله أعلم بالحكمة في تشريعه ، وإساءة استعمال أي تشريع لا تقتضي إلغاءه ، بل تقتضي منع تلك الإساءة ..
محاولات لمنع التعدد أو تقييده :
المهم أن هذه الصرخات كان لها صداها فيما بعـد في نفوس المخلصين من رجال التشريع ، واستغلها بعد ذلك المبشرون والمستعمرون والمتزلفون إليهم ، فقامـوا بحملات مركزة بغية حمل الحكومات الإسـلامية على إصدار تشريع يمنع تعـدد الزوجات أو يقيده تقييداً يشبه إلغاءه .
في مصر
يحكي لنا العلامة الجليل الأستاذ محمد أبو زهرة  في كتابه "        محاضـرات في عقد الزواج وآثاره "       (ص 127) أنه بعد نحو من عشرين سنة من وفاة الأستاذ الإمام وجدت مقترحات تتضمن تقييد تعدد الزواج ، قضائياً ، بقيدين وهما : العدالة بين الزوجات ، والقـدرة على الإنفاق ، وكان ذلك في اللجنة  التي أُلفت  في أكتوبر 1926م ، إذ قدمت مشروعاً مشتملاً على ذلك ، ولكن بعد الفحص والتمحيص والمجاوبات المختلفة بين رجال الفقه ورجال الشورى، رأى أولياء الأمر العدول عن ذلك ، وجاء المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 خالياً منه .
وفي سنة 1943 همَّت وزارة الشئون الاجتماعية المصـرية أن تنشر المقبور ، لأن وزيرها إذ ذاك ظن أنه يصلح للحياة ، ولكنه عدل وشيـكاً عما هم به فكان  له بذلك فضل .
ثم جاء من بعد ذلك وزير آخر ، وجعل من  أعظم ما يعنى به هذه  المسألة ، فأعاد نشر ذلك الدفين ، وهمَّ بأن  يقدمه لدار النيابة ليأخذ سـيره ، ولكنه بعد أن خطا بعض الخطوات ، ونبه إلى ما فيه من خطر اجتماعي - وممن كتب في ذلك  الأستاذ أبو زهرة نفسه في مجلة القانون والاقتصاد في العددين الأول  والثاني للسنة الخامسة عشرة        -  أعاده إلى حيث كان .
وبعد أن طبع الأستاذ أبو زهرة كتابه هذا ، أعيد الجدل مرة أخرى في العام الماضي 1961م. على صفحات الصحف ، وقد أيدت عناصر مختلفة منع التعدد أو وضع القيود له ، وعارضه علماء الإسلام وعلى رأسهم العلامة الشيخ أبو زهرة معارضة قوية .
ومن الطريف أن رئيس تحرير مجلة كبرى في القاهرة - آخر ساعة - وهو الأستاذ محمد التابعي كتب مقالاً مدعماً بالاحصاءات  الرسمية عن تركيـا وكيف أن منع التعدد قانوناً لم يمنع الشعب التركي من التعـدد  فعلاً ، وقد انتهى فيه إلى أن أي تشريع يمنع التعدد سيلقى الفشل الذي لقيه قانون منع التعدد في تركيا، وقد نقلت إحدى الصحف اليومية الكبرى - الأخبار - هذا المقال برمته في شهر أيلول ( سبتمبر ) من العام الماضي على ما أذكر .
في تونس
أما في تونس فقد صدر قانون بمنع التعدد تماماً ، وفرض عقوبة على من يتزوج أكثر من واحدة ، ومن المعروف عن الحاكم هناك أنه غربي النزعة والثقافة والاتجاه .
وقد كان لقرار منع التعدد صدى مختلف الأثر : ففي الأوساط الإسلامية  والعلمية كان له صدى مؤسف بالغ الدلالة على الاتجاه الفكري الذي تساق إليه  تونس في عهدها الاستقلالي ، وفي الأوساط الاستعمارية  والنسائية كان له صدى  مستحب حيث نعت هذا الإجراء بأنه خطوة تقدمية في سبيل تحرير المرأة التونسية !

في الباكستان
وقد جاءت أنباء الباكستان أخيراً تفيد بأن  رئيس  جمهوريتها السيد " أيوب خان " أصدر قانوناً - بصفته الحاكم العسكري - يضع قيوداً شديدة جداً للزواج بأكثر من واحدة ، منها أن يعرض ذلك على مجلس عائلي ، وأن يدفع مبلغاً ضخماً من المال، إلى غير ذلك مما لا نستطيع الإفاضة فيه لأننا لم نطلع على نص القانون كما هـو ، وإنما وافتنا أنباء الصحف بمعلومات مقتضبة موجزة جداً عنه .
وقد قوبل هذا القانون في الباكستان في الأوساط العالمية الإسـلامية وفي الأوساط الشعبية بالسخط والاستنـكار ، كما قوبل من السيدات المثـقفات ثقافة  أجنبية وأمثالهن من المثقفين كذلك باستحسان وسرور ، وقد أيدته  الصحف الاستعمارية والأوساط التبشيرية وأثنت عليه كثيراً .
أما في سوريا
فقد جاء في قانون الأحوال الشخصية الذي صدر بتاريخ 17/9/1953 ما يلي في باب الأهلية :
وهذا كما نرى تقييد للتعدد بقيد واحد ، وهو قدرة المتزوج بواحدة على الانفاق على الزوجة الأخرى ، وأن للقاضي "       ألا يأذن "        بهذا العقد إذا تحقق عدم القدرة المالية .
وهذا النص صريح في أنه عند عدم القدرة تكون سلطة القاضي في عدم الإذن فقط  ولم يتعرض القانون لعدم صحة العقد ، وذلك يدل على  أن العقـد صحيح تترتب عليه آثاره الشرعية ، وهذا يتفق مع الأحكام  الفقهية المجمع عليها ، ولكن صاحب العقد يتعرض للعقوبات المالية  _ كأي عقد من عقود الزواج _ لا يسجل في المحكمة الشرعية .
مناقشة للمنع
نريد أن نذكر أمراً واحداً قبل الدخول في مناقشة هذه المحاولات وهي أنه  لا توجد في العالم الإسلامي الآن مشكلة تعرف بمشكلة  تعدد الزوجات ، فالاحصاءات التي تنشر عن الزواج والطلاق في البلاد العربية الإسلامية تدل على أن نسبة المتزوجين بأكثر من واحدة نسبة ضئيلة جداً لا تكاد تبلغ الواحد بالألف .
والسبب في ذلك واضح ، وهو تطور الحياة الاجتماعية ، وارتفاع مستوى المعيشة، وازدياد نفقات الأولاد في معيشتهم  وتعليمهم والعناية بصحتهم ، يضاف إلى ذلك أن الزوج لم يعد متفرغاً  - كما كان من قبل -  لشئون الأسرة ومشكلاتها ، فهو مع زوجة واحدة وأولاده منها لا يكاد يتفرغ  تفرغاً كافياً  للإشـراف على شؤونهم والقيام بواجباتهم ، فكيف يضيف إلى هذا أعباء جديدة ومشاكل جديدة ؟
ثم إن التعدد كان يقع غالباً في الريف ، في الأسر الغنية رجاء أن يكون لرب الأسرة أولاد يكفون لزراعة أراضيه والقيام على  شؤونها ، وقد كان الأولاد يرضـون أن يقيموا في الريف مع أبيهم على جهلهم أو على شيء قليل من العلم .
أما الآن فقد انتشر التعليم ، ولم يعـد ابن القرية الذكي الطموح ليرضى أن يظـل مزارعاً طيلة حياته مهما غلّت له أرضه من غـلات ، بل يريد أن يتعـلم  ويدخل الجامعة ويتوظف ويقيم في المدينة ، ولهذا  كثرت هجرة أبناء القرى إلى المدن هجرة تقلق بال الباحثين الاجتماعيين .
ويضاف إلى هذا  قوانين الإصلاح الزراعي التي أخذت تحدد الملكية الزراعية بما لا يترك في أيدي المالكين أراضي شاسعة كما كان الأمر من قبل .
كل هذه العوامل وغيرها _ من انتشار الوعي الاجتماعي والصحي والحضاري _ أدى إلى انخفاض نسبة تعـدد الزوجات ، وسينخفض كلما ازدادت هذه العوامل رسوخاً في مجتمعنا ، فليس التعدد عندنا الآن من الأهمية بالمكان الذي تثار من أجله كل هذه الضجة ، اللهم إلا من راغبين في الشهرة بأنهم تقدميون  ، وأنهم متحررون . وهي لا تكلفهم  إلا بضع كلمات في مقالة ، أو سطراً واحداً في قانون  يصدرونه حين يكونون في الحكم  .
ومن أجل هذا لا نرى فيما فعلته تونس والباكستان وتحاول أن تفعله بعض البلدان الأخرى إلا مجـرد استرضاء للغربيين ؛ إثباتاً لتحـرر هؤلاء المسؤولين من سيطرة عقائدهم وتراثهم عليهم ، وهو في الوقت ذاته دليل تهافت الشخصية ، واحتـقار الذات ، وتـرامٍ على أقدام المتعصبين الغربيين لاستجلاب عطفهم وثنائهم وثنـاء صحفهم ومبشريهم ومستشرقيهم على حساب أمتنا وكرامتنا وديننا .
انني لست أخشى من انتشار تعدد الزوجات أو بقـاء نسبته كما هي ، بقـدر ما أخشى انعدامه في مجتمعنا  الإسلامي ، ذلك أن من الملاحظ إعراض الشـباب عن الزواج ، ورغبة المتزوجين في عدم الإكثار من النسل ، وهذا يؤدي في المستقبل إلى عدم تكاثرنا بالنسبة للأمم الأخرى ، وبخاصة للأمم المجاورة لنا ، وفيها أمم تناصبنا العداء ، وتزيدنا أضعـافاً مضاعفة في السكان أو دولة        - كإسرائيل -        تحـاول بكل جهدها أن تزيد من عدد  سكانها بإغراء اليهود على الهجرة إليها وتخشى كل الخشية من زيادة سـكان البلاد العربيةالمجاورة لها وبخاصة مصر التي بلغ تعـداد سكانها خمسين مليوناً ، وهذا ما يرعب إسرائيل والاستعمار .
فعوضاً عن التفكير في تشجيع الزواج وتكثير النسل  بأية طريقة مشروعة ، نحاول أن نعمل بأيدينا على إنقاص عددنا ، مأخوذين بأكثر النظريات الخاطئة التي يشيعها الغربيون        -  عن سوء نية أو حسن نية  -  هي من فوائد تحـديد النسل ، ومضار التعدد ، والخطر الذي سيَدهم العالم يوماً ما نتيجة تكاثر السـكان ، وهو خطـر المجاعة .
إن الغربيين قد يقولون هذا صادقين  بالنسبة إلى رقعة  أرضهم ، وعـدد سكانهم ، ولكننا نحن العرب ، نحن المسلمين ، نسكن مساحات شاسعة من الأرض، لم نستثمر من خيراتها حتى الآن إلا الأقل الأقل مما تحتويه ، فلو استـثمر استثماراً  علمياً فنياً لاتسعت لأضعاف عدد سكانها الآن ..  فالتهديد بخطر المجاعة من تكاثر السـكان لست أدري بماذا أصفه  - على قلة خبرتي في هذا الموضوع  -  ولكني أحس إحساساً عميقاً بأن مثل هذا الكلام لا ينبغي أن يقال لنا، وأن جهات استعمارية أو صهيونية تروجه ، ولا ينبغي لنـا أن نصغي اليه قبل أن  نستنفذ كل إمكانيات أرضنا الطيبة الخيرة الغنية ...
إننا في سوريا مثلاً نشكو من قلة السكان بالنسبة لأراضينا الواسعة الشاسعة التي لم تستثمر بعد ، فهل يجوز التفكير بمنع تعـدد الزوجات ، والتعدد يمدنا حتماً بأعداد من الأيدي العاملة لا يمنحنا إياها نظام الزوجة الواحدة !
وأعتقد أن ما يقال عن بلادنا في سوريا  يقال عن كثير من بلادنا في غيرها ، فقـد أعلن مدير البنك الدولي أن ثروات العراق  تكفي لأن يعيش فيها سبعون مليوناً في مستوى من العيش لا يقل عن أمريكا ، هذا مع العلم بأن عدد سكان العراق حالياً سبعة ملايين فقط       .
فالتسرع في سَنِّ التشريعات التي تؤدي إلى أضرار بالغة في مستقبل الأمة عددياً أو عسكرياً أو وطنياً أو غير ذلك ، تسَـرُّع  هو في مصلحة خصـومنا الذين لهـم مؤسسات علمية خفية منبثة بيننا لا يشعر  بها كثير من المسؤولين ، فليتقوا الله فإن المؤامرات كثيرة ، والأعداء أيقاظ ، والحيل واسعة ، والخداع محكم ، والمتنـبهين قليلون .
مناقشة التقييد :
ليس هنالك قيود يمكن أن توضع لتعـدد الزوجات وهي مستقاة من الشريعة إلا قيدين اثنين       :
ا لقيد الأول : العدل بين الزوجات ، وهذا _ كما رأينا _ شرط صريح في القرآن لإباحة التعدد ، لا لصحته ، بإجماع العلماء ، وقد مر بنا قول الاستاذ الإمام محمد عبده في ذلك .
فلو جعل شرطاً قانونياً لسماح القاضي بالزواج بامرأة ثانية لمن عنده زوجة واحدة، كيف يمكن للقاضي أن يتحقق من ذلك ؟
هل للعدل أمارات سابقة ؟ هل يمكن أن يثبت ذلك بالشهادة؟ هل يكتفي فيه بيمين الزوج أنه سيعدل ؟ هل هو مما تجري فيه الفراسة ؟ وهل يكون القضاء بالفراسة ؟! هل يسأل القاضي أقرباء الزوج وأصدقاءه عن خلق الزوج في العدالة وعدمـها ؟ وهل يمكن أن يحكم القاضي بشهادتهم في ذلك؟ ثم كيف يمكن أن نمنع عقداً لمحظور لم يوجد بعد !  ولا سبيل إلى التحقيق من وجوده في المستقبل ؟ !!
نحن مع الأستاذ الجليل أبي زهرة في أن العدل الذي جعل شرطاً دينـياً لا يمكن أن يجعل شرطاً قانونياً يتوقف عليه السماح بالتعدد أو عدمه       .
القيد الثاني : القدرة على الإنفاق على الثانية مع الأولى ، والقدرة على الإنفاق على أولاده منهما أو منهن       .
وقد قلت: إن هذا الشرط يستفاد ضمناً من قوله تعالى :" ذلك أدنى ألا تعـولوا " على تفسيرها بألا تكثر عيالكم ، كما ذهب إلى ذلك الشافعي رحمه الله .
ويستفاد أيضاً منه اشتراط العدالة ، فإن الذي لا يستطيع الإنفـاق على زوجتـيه وعلى أولاده منهما لا بد له من أن ينفق على إحداهما دون الأخرى ، فتنتفي بذلك العدالة المشروطة ديناً ، ولا بد له من أن يهمل الإنفـاق على بعض أولاده وهـذا تفريط يحال بينه وبين أسبابه .
إن هذا الشرط ممكن ، ويستطيع القاضي أن يتأكد منه ، بالسؤال عن قدرته المالية، ومعرفة دخله وإيراده ، فإذا وجـده  قادراً على الإنفاق على زوجتيه وأولادهما لم يكن هنالك مانع من السماح له بإجراء هذا العقد .
ونحن في هذا نخالف الأستاذ الجليل أبا زهرة في ادعائه بأنه شـرط لا يمكن التحقق منه كالعدالة ، فالواقع أن هنالك فرقاً واضحاً بينهما ، ذلك أن العدالة أمر معنوي مغيب لا يعرف إلا عند المعاملة ، أما القدرة  المالية فهي أمر مادي يمكن أن تعرف حالا ً، ولها أدلة تثبتها بكل سهولة ، ودعوى  الأستاذ أبي زهـرة بأنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم  وصحابته أنهم تحروا في القدرة على الإنفاق  يجاب بأن المعيشة في عصورهم كانت بسيطة ، وكانت الأرزاق على الأولاد وغيرهم  جارية فلا خوف من الضياع .
ونرى في هذا الشرط منعاً لإساءة استعمال التعدد في بعض حالاته، حين يقدم بعض الناس على التزوج بأكثر من واحدة ، لشهوة عارمة، أو رغبة في التفَكُّه أو الانتقام من زوجته الأولى ، وهو غير قادر على الإنفاق على البيتين معاً، فتضيع الزوجتان ، ويهمل الأولاد ، وتتشرد الأسرة .
إن مثل هذه الحالة سفَهٌ محض ، وتستطيع الدولة أن تمنعـها دون أن تقف مكتوفة الأيدي ، كما تتدخل في أمر كل سفيه  فتحدّ من تصرفاته ، وتمنع عنه وعن غيره الضرر والأذى .
وبعد هذه المناقشة أرى  أن موقف القانون السوري هو أعدل المواقف وأحـكمها وقد وقف في ذلك  موقفاً وسطاً  بين المانعين ، وفي ذلك ما فيه من العـدوان على شريعة الله والتضييق على مصلحة الأمة وبعض الأفراد ، وبين المطلقين الذين يمنعون أي قدر منه ، وفي هذا ما فيه من فسح المجال لبعض السفهاء لاستعمال هذا الحق في غير موضعه ، فتضيع الزوجات والأولاد .
ولست أرى الذهاب إلى أبعد من ذلك في هذا الموضوع ، والعناية بالتربية الدينـية وتنمية الوعي الاجتماعي كفيـلان  بحسن استعمال هذا الحـق حين يستعمل عند الضرورة ، دون إضرار بالمجتمع أو اساءة إلى وحدة الأسرة وتماسكها .
إنني أنا شخصياً ممن لا يفكر في الزواج إلا بزوجة واحدة ، وقـد قلت في بعض ما كتبت : "     أقـوى الناس على تحمل المتاعب من يتزوج اثنتين ، وأسـرع الناس إلى الهلاك من يتزوج ثلاثاً ، وأقرب الناس إلى الجنون من يتزوج أربعًا ، وليس في إباحة الله لنا ذلك ما يحملنا على التعرض للمتاعب من غير ضرورة ملجئة "           .
وشريعة الله حين أباحت التعدد إنما تركت الباب مفتوحاً لمعالجة الضرورات الفردية والاجتماعية ، ولم ترغب في ذلك ولم تنفر، لأن طبيعة الإنسان تغني عن الترغيب أو التنفير من ذلك ، ففي فطرة كل إنسان أن لا يتحمل طائعاً مختاراً إلا زوجة واحدة، وأن لا يهدأ ولا يستقر إلا بذلك ، ولكن التشريع الخالد ما وجـد فيه الناس جميعاً حاجاتهم ، وما وجدت فيه الأمم طلِباتها في مختلف ظروفها وأحوالها .
فليس في ترك التعدد مباحاً  كما هو في الشريعة ترغيب للناس في ذلك ، وهذا هو الواقع المشاهد ، ولكن في تضييقه أو منعه حيلولة دون معالجة مشكلات خاصة تجد علاجها في التعدد ، ومنع الأمة في ظرف من الظروف الطارئة من حل  مشكلة من مشكلاتها التي لا علاج لها إلا بالتعدد ، والتشريع الحكيم  هـو الذي يترك الباب مفتوحاً لمعالجة المشاكل ولا يوصد الباب دونها .
إذا كانت بعض الأمم تفكر في الاستفادة من نظـام التعـدد عندنا  لمعالجة أخطر مشكلاتها الاجتماعية بعد الحـرب ، أفلسنا نحن معرَّضين لمثل ما تعرضت له هذه الأمم  ؟! ألسنا نتهيأ - حكومات وشعوباً - لخوض معارك طاحنة مع اسرائيل، ونحن نعلم أننا لن نخوضها مع إسرائيلوحدها ، وقد لا نخوضها نحن وحدنا ، فالحـرب المقبلة ربما كانت أخطر حروب تخوضها أمتنا في تاريخها الطويل، إنها ستكون أخطر من معاركنا مع التـتار ، ومن معاركنا مع الصليبيين ، ومن معاركنا مع  الفـرس والروم ، وأنا لا أشك أن أمتنا بعد هذه الحروب أو في هذه الحـروب ، ستجد في نظام التعدد أكبر عون لها على بقائها صامدة في المعركة ، تمـدها بقوافل المجاهدين عشرات فعشرات ، وتعوض بعد الحرب ما أفنته الحرب من شباب ورجال .. لست أقول هذا خيالا ً، إنني أرى بوادره منذ الآن ، وليس من الحكمة أن نضـع أيدينا على أعيننا لئلا نرى الحقائق .
        أرى خلل الرماد وميضَ نار ٍ                    ويوشك أن يكون لها ضِرام ُ
ومن ناحية أخرى نرى إسرائيل تحاول أن تحشر في الأرض المحتلة من فلسطين - على ضيق رقعتها -       عشرات الملايين ، وهي  غير حاسبة لمشـكلة معيـشة هذه الملايين حساباً ، مع أن إمكانياتها الزراعية ضيقة ، بل كل همها أن تكثر من تعداد  سكانها  ضاربة بعرض الحائط كل ما يقال عن وجوب تحديد النسل ، احتياطاً لمعيشة سكان الأرض ، حيث يرى بعض خبراء التغذية أن الأرض ستصبح في يوم ما عاجزة  عن تأمين القوت لسكان كوكبنا الأرضي !!!  إنها _ وهي ذات الرقعة الضيقة والموارد الزراعية المحدودة _ لا تهتم إلا بحشر أكثر عدد ممكن فيها من يهود العالم لأغراض سياسية عدوانية .
فكيف نستجيز لأنفسنا - نحن سكان البلاد العربية خاصة -       أن نخدع بالنظريات التي يروجها علماء من اليهود  أنفسهم ، حول وجوب تحديد النسل ، مع أن أراضيـنا واسعة ، تتسع  لعشرة أضعاف سكانها  الحاليين  -       حتى مصر التي يقال : إن مشكلة تكاثر السكان فيها يحتم التفكير في منع تعدد الزوجات والأخذ بمبدأ تحديد النسل - إذا استخدمت ثرواتها الطبيعية  الظاهرة والدفينة ، وحشدت كل طاقات إمكانياتها البشرية والفكرية ، وأقيمت الصناعات المختلفة ما بين مدنية وعسكرية .
ومثل ذلك يقال عن باكستان بالنسبة لجارتها الهند التي يبلغ  سكانها خمسة أضعاف سكان باكستان أو أكثر ، وهي في مشكلات مع الهند لا يؤمن معـها يوماً أن تقع الحرب بينهما ، فأية جريمة هذه التي يحاول المسؤولون فيها أن يضعوا عراقيل تؤدي إلى منع تعدد الزوجات بدلاً من أن يفكروا في الوسائل التي تؤدي إلى كثرة سكانها مع رفع مستواهم المعاشي ؟ وليس ذلك بمستحيل إذا صدقت العزائـم واستخدم العلم في تنمية الثروة القومية .
وأرى أن أختم هذا البحث بكلمة قيمة للأستاذ العقاد       قالها في كتابه "      المـرأة في القرآن الكريم ". ص 137.
وحَسْبُ الشريعة أن تقيم الحدود ، وتوضح الخطة المثلى بين الاختيار والاضطرار ، وأما ما عدا ذلك من التصرف بين الناس ، فشأنه شـأن جميع المباحات التي يحسن الناس وضعها في مواضعها ، أو يسيئون العمل والفهـم فيها ، على حسب أحوال الأمم والمجتمعات من الارتقاء والهبوط ، وعلى المعـرفة والجهل ، ومن الصـلاح والفساد ، ومن الرخاء والشدة ، ومن وسائل المعيشة على التعميم .
فالمباحات الاجتماعية والفردية كثيرة  تأذن بها الشريعة ، ولكنها لا تأخـذ  بأيدي الناس ليحسنوا تناولها والتصرف فيها ، فليس أكثر من الطعام المباح ، وليس  أكثر من أضرار الطعام بمن يستبيحونه على غير وجهه ، وبالزيادة أو النقص في مقداره ، وبالخلط بين ما يصلح  منه للسليم ، وما يصلح منه للمـريض ، وما يطيب منه في موعد ، ولا يطيب في موعد سواه ، وإنه لمن الشطط على الشرائع  - وعلى الناس - أن ننتظر من الشارع حكماً قاطعاً في كل حالة من هذه  الحالات ، لأن الضرر من فرضها على من يتولاها بغير بصيرة ، أوخم وأعظم من تركها للتجربة والاختيار.
إن الممنوع من تعدد الزوجات لا حيلة فيه للمجتمع إلا بنقض بناء الزواج، وإهدار حرماته جهرة أو في الخفاء .
أما المباح من تعدد الزوجات ، فالمجتمعات موفـورة الحيلة في إصلاح عيوبه ، على حسب أحوالها الكثيرة من أدبية ومادية ، ومن اعتدال أو اختلال في  تكوين أسرها وعائلاتها وسائر طبقاتها .
فالتربية المهذبة كفيلة بالعلاقة الصالحة بين الزوج والزوجة ، فلا يحمد  الزوجُ نفسُه علاقة بينه وبين امرأته لا تقوم على العطف المتبادل ، والمودة  الصـريحة ، والمعاونة الثابتة في تدبير الأسرة، ولا يتهيأ له جو البيت على المثال الذي يرتضيه مع زوجتين تدعوه إلى الجمع بينهماداعية من دواعي الأثرة ، والانقياد للنزوات .
وقد ينشأ لتعدد الزوجات في حالتي الغنى والفقر على السواء :
فالغني يستطيع أن ينفق على بيوت كثيرة، ولكنه لا يستطيع أن يجد غنياً مثله يعطيه بنته ، ليجمع بينها وبين ضرة تنازعها ، ولو اعتلتها في معيشة أخـرى ، وقد يشق عليه أن ينفق على الزوجات الغنيات بما تتطلبه هذه النفقة  من السعة والإسراف ، وإذا وجد النساء الفقيرات فلعلها حالة لا تحسب  إذ ذاك من أحوال الاضطـرار بالنسبة لمن يقبلن عليها من الزوجات .
والفقير قد يحتاج إلى كثرة النسـاء والأبناء لمعاونته على العمل - ولا سيما العمل الزراعي -       ولكنه يهاب العالة ، ويحجم عما يجهده من تحصيل النفقة والمأوى .
والمجتمع يحق له أن يشترط الكفاية في الزوج لتربية أبنائه ، ويتوخى لذلك  دستوراً يحافظ على حرية الرجال والنساء ، ولا يخل بحقوقهم في التراضي على الزواج حتى اتفقت رغبتهم عليه ، وليس من العسير تسويغ ذلك الدستور من جانب المجتمع ، لأن الأزواج المقصرين يجنون عليه ، ويحملونه تبعات كل كفالة للأبناء، يعجز عنها الآباء والأمهات .
ومن حسنات السماح بتعدد الزوجات عند الضرورة ، أن يكون  ذريعة من ذرائع المجتمع لدفع غوائل العيلة والفـاقة عند اختلال النسبة العددية بين الجنسين ، فإذا كان هذا  العارض من العوارض التي تخطر لرجل في علم "      ليبون "      أنه يستـلزم القوانين لتداركه ، فليس افتراضه في الشريعة باطـلاً يقضي عليه بالعبث في جميع الظروف ، ويحق للمجتمع  أن يرجع إليه في تقدير تلك الظروف ، فلا تصـطدم عقائد الدين ودواعي المصلحة بين جيل وجيل "      ا هـ .
وأخيراً فإنني أعلن بكل صراحة أنني من أعداء منع تعدد الزوجات تشريعاً وقانوناً ، أو وضع العقبات في طريقه ، وإن كنت من أنصـار وحـدة  الزوجية في حـياتي الشخصية، ولا غرابة في ذلك ولا تناقض ، فإن الإنسان العاقل يختار الحياة الأفضل  والمشرع الحكيم يختار لأمته القانون الأشمل .
فأنا لا أدعو إلى أن يعدد كل متزوج الآن زوجاته ، ولكنني أدعو لجعل مبدأ التعدد مسموحاً به من غير قيود  - ما عدا قيد القدرة على الإنفاق -       ليستطيع من تُلجِـؤُه ظروفه الخاصة إلى التعدد ، ولتستطيع الأمـة في حالة الحروب والأزمات التي يقل فيها الرجال ويكثر النساء أن تستفيد من تشريع التعدد بما يسد به نقص الرجال ، وتكفل به حياة النساء ، ويحال بينهن وبين التشرد والتسكع ، وإغواء  المتزوجين ، وإغواء غير المتزوجين  وبذلك تحفظ كرامتهن ، ويصان المجتمع من كثرة الفواحش وازدياد الأولاد غير الشرعيين _ كما يقع الآن تماماً في أوروبا _  فقـد أصبحت مشكلة تكاثر الأولاد غير الشرعيين مشكلة اجتماعية وإنسـانية حملت كثيراً من المفكرين عندهم على أن ينادوا بوجوب  الاعتـراف بهؤلاء وإلحاقهم بآبائهم وأن يكون لهم في القانون حقوق الأولاد الشرعيين ... ولو أنهم أباحوا التعدد لما وصلوا إلى هذه الحالة .