الخليفة الذي وعظه القاضي من على المنبر !!...
تدور أحداث هذه الواقعة : في القرن الرابع الهجري .. في الأندلس هذه المرة ..
حيث تولى قضاء مدينة قرطبة : العالم الرباني : (المُنذر بن سعيد) رحمه الله عام 339 هـ ..
وظل في القضاء مدة الخليفة (الناصر) .. وظل فيه فترة خلافة ابنه : (الحَكم المستنصر) أيضا ً.. إلى
أن توفاه الله عز وجل عام 355 هـ ..
وحدث في وقته : أن الخليفة الناصر رحمه الله : قد انشغل انشغالا ًكبيرا ًفي بناء مدينة (الزهراء) ...
والتي بالغ كثيرا ًفي الإشراف عليها وزخرفتها وتنميقها وإتقان قصورها ..
إلى أن تخلف مرة ًعن صلاة الجُمعة في المسجد الكبير الجامع بقرطبة خلف (المُنذر بن سعيد) ..
وحزن لذلك القاضي العالم الرباني (المُنذر) .. ولا سيما أنه لم يرَ الانشغال ببناء هذه المدينة الجديدة
وزخرفتها : لم يرَ ذلك مُسوغا ًمقبولا ًلانشغال الخليفة عن صلاة الجُمعة في الجامع الكبير بالعاصمة :
لما في ذلك من أثر كبير على الرعية !!......
فلما حضر الخليفة الناصر لصلاة الجُمعة في الجامع الكبير بعد انتهائه من بناء مدينة (الزهراء) :
صعد القاضي العالم (المُنذر بن سعيد) المنبر (وكان هو إمام الجُمعة وخطيبها) ..
فذكر في بداية خطبته قول الله عز وجل :
" أتبنون بكل ريع ٍ: آية ًتعبثون ؟!.. وتتخذون مصانع : لعلكم تخلدون ؟!.. وإذا بطشتم :
بطشتم جبارين ؟!.. فاتقوا الله وأطيعون .. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون .. أمدكم بأنعام ٍ
وبنين .. وجناتٍ وعيون .. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " الشعراء 128 : 135 ..
ومضى في خطبته على هذا المنوال من التذكير الخاشع .. والموعظة المؤثرة .. والقول البليغ :
حتى أثر في النفوس والقلوب .. وما زال بالناس : حتى أخذ منهم الخشوع كل مأخذ .. وحتى
ضج المسجد على سعته بالبكاء !!.. بما فيهم الخليفة الناصر نفسه .. والذي تأثر أيما تأثر بالكلمات
التي اخترقت نفسه وقلبه كالسهام الماضية ... فبكى وندم على ما فعل ...
وهذا هو ثمرة (الصدق) و(الورع) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ولا سيما من عالم ٍعامل كـ
(المُنذر بن سعيد) رحمه الله ...
لحظة ........
فالقصة لم تنتهي بعد ..........!
فالخليفة الناصر (وبرغم تأثره بالخطبة البليغة) : فلم يستطع التحكم في نوازع نفسه التي أصابها ما أصابها
من التعريض الصريح لشخصه من القاضي (المُنذر) في الخطبة .. وأزعجت نفسه أن الرعية قد لاحظوا وعرفوا
ذلك أيضا ً.. فشكا ذلك لولده (الحَكم) وقال له :
والله لقد تعمدني (مُنذر) بخطبته : وما عنىَ بها غيري .. فأسرف عليّ .. وأفرط في تقريعي .. ولم يحُسن
السياسة في وعظي ..
فأقسم الخليفة الناصر على هذا : ألا يُصلي خلف (المُنذر) صلاة الجمعة مرة ًأخرى .. وصار بالفعل يُصليها
خلف (أحمد بن مطرف) صاحب الصلاة بقرطبة : وذلك بجانب الصلاة في (الزهراء) ..
وعند ذلك قال له ابنه (الحَكم) :
وما الذي يمنعك من عزل (مُنذر) عن الصلاة بك إذا كرهته ؟!...
وهنا .....
ظهرت أصالة معدن الخليفة بأخلاق الإسلام .. وغلب الدين على نوازع النفس فقال زاجرا ًلولده :
لا أ ُم لك !!.. (وهي كلمة كناية عن الاستنكار الشديد) أمِثلَ (المُنذر بن سعيد) في فضله وخيره وعلمه :
يُعزل لإرضاء نفس ٍناكبةٍ عن الرُشد : سالكةٍ غير القصد ؟!!.. هذا ما لا يكون ...
وإني لأستحيي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجُمعة : شفيعا ًمثل (مُنذر) في ورعه وصدقه ...
ولكن أحرجني : فأقسمت (يقصد هنا بقسمه ألا يُصلي خلفه الجُمعة) .. ولوددت أن أجد سبيلا ًإلى كفارة
يميني بمُلكي !!.. بل يُصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى .. فما أظننا نعتاض عنه أبدا ً....
انتهى ..
------------
والواقعة نجدها مسطورة ًفي كتب مثل (منتقى نفحة الأنفس) لابن غالب وغيرها كما ذكر الدكتور عبد الباقي
جزاه الله خيرا ًفي تعليقه .....
------------
ولا يسعني هنا إلا أن أقول :
ما أحوج الأمة لمثل هذه المنارات الشامخة اليوم : لتـُنير لنا ظلمات الجهل والنفاق بين العالم والسلطان !!.....
ولا يسعني أيضا ًقبل الختام :
أن أذكر أن هذا القاضي العالم الجليل (المُنذر بن سعيد) : كان شديدا ًفي الحق .. دائم النصح للخليفة في السر
والعلن .. وبرغم كونه ظاهريا ً: إلا أنه كان لا يفتي إلا بمذهب الإمام مالك رحمه الله ..
وهو العالم الذي اشتهرت قصته بين الكثيرين للأسف (من غير أن يعرفوا اسمه) : صاحب الموقف الشهير عندما
أخذ الخليفة الناصر يتباهى بين وزرائه وأقاربه وخدمه : بإسرافه في البناء والتشييد :
حيث كان ينوي بناء سقف القبيبة : قراميدَ مُغشاة ذهبا ًوفضة !!.. فسأل مَن حوله مُفتخرا ً:
" هل رأيتم أو سمعتم ملكا ًكان قبلي : فعل مثل فعلي هذا : أو قدر عليه ؟! " ..
وكان فن العمارة الأندلسي في أوجه ذلك الوقت ...
فقالوا :
" لا يا أمير المومنين .. وإنك لواحدٌ في شأنك كله .. وما سبقك إلى مُبتدعاتك هذه ملكٌ رأيناه .. ولا انتهى
إلينا خبره " !!...
ولكنه عندما التفت ليسأل القاضي (الُمنذر بن سعيد) نفس السؤال :
فلم يتمالك هذا الأخير أن بكى ثم أقبل عليه قائلا ً:
" والله يا أمير المومنين .. ما ظننت أن الشيطان لعنه الله : يبلغ منك هذا المبلغ !!.. ولا أن تـُمكنه من قلبك
هذا التمكين : مع ما آتاك الله من فضله ونعمته !!.. وفضلك به على العالمين : حتى يُنزلك منازل الكافرين ...
إلى آخر ما قاله هذا العالم الرباني القاضي .. والذي ذكر للخليفة الناصر من ضمن ما ذكر : قول الله تعالى :
" وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً (أي في الرغبة في الكفر) : لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ : سُقُفًا مِّن
فَضَّةٍ (أي لمزيد إغوائهم على ما اختاروه لأنفسهم من الكفر : لكي يكون حسابهم أشق من بعد التنعيم) !!..
وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ !!.. وَلِبُيُوتِهِمْ : أَبْوَابًا وَسُرُرًا : عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ !!.. وَزُخْرُفًا !!.. وَإِن كُلُّ ذَلِكَ : لَمَّا
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .. وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ : لِلْمُتَّقِينَ " الزخرُف 33 : 35 ..
حتى انتهى أمر الخليفة الناصر أخيرا ًبهذا الوعظ الشديد : إلى أن قام بنقض ما نوى من سقف القبيبة !!!!!...
رحم الله أولئك العلماء .. وهؤلاء السلاطين ......!
تدور أحداث هذه الواقعة : في القرن الرابع الهجري .. في الأندلس هذه المرة ..
حيث تولى قضاء مدينة قرطبة : العالم الرباني : (المُنذر بن سعيد) رحمه الله عام 339 هـ ..
وظل في القضاء مدة الخليفة (الناصر) .. وظل فيه فترة خلافة ابنه : (الحَكم المستنصر) أيضا ً.. إلى
أن توفاه الله عز وجل عام 355 هـ ..
وحدث في وقته : أن الخليفة الناصر رحمه الله : قد انشغل انشغالا ًكبيرا ًفي بناء مدينة (الزهراء) ...
والتي بالغ كثيرا ًفي الإشراف عليها وزخرفتها وتنميقها وإتقان قصورها ..
إلى أن تخلف مرة ًعن صلاة الجُمعة في المسجد الكبير الجامع بقرطبة خلف (المُنذر بن سعيد) ..
وحزن لذلك القاضي العالم الرباني (المُنذر) .. ولا سيما أنه لم يرَ الانشغال ببناء هذه المدينة الجديدة
وزخرفتها : لم يرَ ذلك مُسوغا ًمقبولا ًلانشغال الخليفة عن صلاة الجُمعة في الجامع الكبير بالعاصمة :
لما في ذلك من أثر كبير على الرعية !!......
فلما حضر الخليفة الناصر لصلاة الجُمعة في الجامع الكبير بعد انتهائه من بناء مدينة (الزهراء) :
صعد القاضي العالم (المُنذر بن سعيد) المنبر (وكان هو إمام الجُمعة وخطيبها) ..
فذكر في بداية خطبته قول الله عز وجل :
" أتبنون بكل ريع ٍ: آية ًتعبثون ؟!.. وتتخذون مصانع : لعلكم تخلدون ؟!.. وإذا بطشتم :
بطشتم جبارين ؟!.. فاتقوا الله وأطيعون .. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون .. أمدكم بأنعام ٍ
وبنين .. وجناتٍ وعيون .. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " الشعراء 128 : 135 ..
ومضى في خطبته على هذا المنوال من التذكير الخاشع .. والموعظة المؤثرة .. والقول البليغ :
حتى أثر في النفوس والقلوب .. وما زال بالناس : حتى أخذ منهم الخشوع كل مأخذ .. وحتى
ضج المسجد على سعته بالبكاء !!.. بما فيهم الخليفة الناصر نفسه .. والذي تأثر أيما تأثر بالكلمات
التي اخترقت نفسه وقلبه كالسهام الماضية ... فبكى وندم على ما فعل ...
وهذا هو ثمرة (الصدق) و(الورع) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ولا سيما من عالم ٍعامل كـ
(المُنذر بن سعيد) رحمه الله ...
لحظة ........
فالقصة لم تنتهي بعد ..........!
فالخليفة الناصر (وبرغم تأثره بالخطبة البليغة) : فلم يستطع التحكم في نوازع نفسه التي أصابها ما أصابها
من التعريض الصريح لشخصه من القاضي (المُنذر) في الخطبة .. وأزعجت نفسه أن الرعية قد لاحظوا وعرفوا
ذلك أيضا ً.. فشكا ذلك لولده (الحَكم) وقال له :
والله لقد تعمدني (مُنذر) بخطبته : وما عنىَ بها غيري .. فأسرف عليّ .. وأفرط في تقريعي .. ولم يحُسن
السياسة في وعظي ..
فأقسم الخليفة الناصر على هذا : ألا يُصلي خلف (المُنذر) صلاة الجمعة مرة ًأخرى .. وصار بالفعل يُصليها
خلف (أحمد بن مطرف) صاحب الصلاة بقرطبة : وذلك بجانب الصلاة في (الزهراء) ..
وعند ذلك قال له ابنه (الحَكم) :
وما الذي يمنعك من عزل (مُنذر) عن الصلاة بك إذا كرهته ؟!...
وهنا .....
ظهرت أصالة معدن الخليفة بأخلاق الإسلام .. وغلب الدين على نوازع النفس فقال زاجرا ًلولده :
لا أ ُم لك !!.. (وهي كلمة كناية عن الاستنكار الشديد) أمِثلَ (المُنذر بن سعيد) في فضله وخيره وعلمه :
يُعزل لإرضاء نفس ٍناكبةٍ عن الرُشد : سالكةٍ غير القصد ؟!!.. هذا ما لا يكون ...
وإني لأستحيي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجُمعة : شفيعا ًمثل (مُنذر) في ورعه وصدقه ...
ولكن أحرجني : فأقسمت (يقصد هنا بقسمه ألا يُصلي خلفه الجُمعة) .. ولوددت أن أجد سبيلا ًإلى كفارة
يميني بمُلكي !!.. بل يُصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى .. فما أظننا نعتاض عنه أبدا ً....
انتهى ..
------------
والواقعة نجدها مسطورة ًفي كتب مثل (منتقى نفحة الأنفس) لابن غالب وغيرها كما ذكر الدكتور عبد الباقي
جزاه الله خيرا ًفي تعليقه .....
------------
ولا يسعني هنا إلا أن أقول :
ما أحوج الأمة لمثل هذه المنارات الشامخة اليوم : لتـُنير لنا ظلمات الجهل والنفاق بين العالم والسلطان !!.....
ولا يسعني أيضا ًقبل الختام :
أن أذكر أن هذا القاضي العالم الجليل (المُنذر بن سعيد) : كان شديدا ًفي الحق .. دائم النصح للخليفة في السر
والعلن .. وبرغم كونه ظاهريا ً: إلا أنه كان لا يفتي إلا بمذهب الإمام مالك رحمه الله ..
وهو العالم الذي اشتهرت قصته بين الكثيرين للأسف (من غير أن يعرفوا اسمه) : صاحب الموقف الشهير عندما
أخذ الخليفة الناصر يتباهى بين وزرائه وأقاربه وخدمه : بإسرافه في البناء والتشييد :
حيث كان ينوي بناء سقف القبيبة : قراميدَ مُغشاة ذهبا ًوفضة !!.. فسأل مَن حوله مُفتخرا ً:
" هل رأيتم أو سمعتم ملكا ًكان قبلي : فعل مثل فعلي هذا : أو قدر عليه ؟! " ..
وكان فن العمارة الأندلسي في أوجه ذلك الوقت ...
فقالوا :
" لا يا أمير المومنين .. وإنك لواحدٌ في شأنك كله .. وما سبقك إلى مُبتدعاتك هذه ملكٌ رأيناه .. ولا انتهى
إلينا خبره " !!...
ولكنه عندما التفت ليسأل القاضي (الُمنذر بن سعيد) نفس السؤال :
فلم يتمالك هذا الأخير أن بكى ثم أقبل عليه قائلا ً:
" والله يا أمير المومنين .. ما ظننت أن الشيطان لعنه الله : يبلغ منك هذا المبلغ !!.. ولا أن تـُمكنه من قلبك
هذا التمكين : مع ما آتاك الله من فضله ونعمته !!.. وفضلك به على العالمين : حتى يُنزلك منازل الكافرين ...
إلى آخر ما قاله هذا العالم الرباني القاضي .. والذي ذكر للخليفة الناصر من ضمن ما ذكر : قول الله تعالى :
" وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً (أي في الرغبة في الكفر) : لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ : سُقُفًا مِّن
فَضَّةٍ (أي لمزيد إغوائهم على ما اختاروه لأنفسهم من الكفر : لكي يكون حسابهم أشق من بعد التنعيم) !!..
وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ !!.. وَلِبُيُوتِهِمْ : أَبْوَابًا وَسُرُرًا : عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ !!.. وَزُخْرُفًا !!.. وَإِن كُلُّ ذَلِكَ : لَمَّا
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .. وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ : لِلْمُتَّقِينَ " الزخرُف 33 : 35 ..
حتى انتهى أمر الخليفة الناصر أخيرا ًبهذا الوعظ الشديد : إلى أن قام بنقض ما نوى من سقف القبيبة !!!!!...
رحم الله أولئك العلماء .. وهؤلاء السلاطين ......!