التسميات

الثلاثاء، 24 يوليو 2012

ماذا تعرف عن الليبرالية .. 


بقلم : عبد الرحيم بن صمايل السلمي ..

المقدمة 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
فإن موضوع "الليبراليةله أهمية كبيرة في الدراسات الفلسفية والواقعية من جهتين :
الأولى الغموض الذي يحيط بالمصطلح في نفسه وعدم تصور الكثير لدلالته ومفهومه .
الثانية تأثر كثير من أبناء المسلمين به , وكثرة الكلام حوله بعلم وبدون علم في أحيان كثيرة .


وقد كان جيل النهضة – كما يسمونه – ممن شارك في دعوة المسلمين إليه ونصحهم به, وصوَّر أن نهضة الغرب وقوة حضارته المادية كانت بسبب اعتناق هذا المذهب الفلسفي , فكثر المطبلون له من كافة أطياف المجتمع .
وما هذه المعاناة التي نعاني منها في البلاد الإسلامية مثل القوانين الوضعيَّة , والفساد الأخلاقي , وانتشار الإلحاد , وترويج مذاهب الكافرين إلا إفرازا لهذا المذهب الفاسد .
وربما تميَّز هذا المذهب عن غيره في قربه من التطبيق العملي , وكونه سيال يحمل مذاهب متعددة مع بقائه على وصفه كمذهب فكري

وبعد سقوط الشيوعية كآيديولوجية كانت تهدد الفكر الليبرالي الغربي اغتر الغربيون كثيرا بمبدأ )الليبرالية (وصاروا يبشرون به في كل محفل ويزعمون أنه هو خيار الإنسانية الوحيد فوظفوا طاقاتهم الفكرية والإعلامية بدعم سياسي واقتصادي رهيب لنقل هذا النور !! الى الإنسانية كلها .


ولعل أبرز نتاج فكري يدل على الغرور الكبير بهذا المبدأ عند الغربيين كتاب )نهاية التاريخ( لمؤلفه فرانسيس فوكوياما وهو أمريكي الجنسية ياباني الأصل , وقد ظهر فيه بوضوح مدى الغرور الكبير بهذا المنهج (الليبراليةحيث اعتبرها فوكوياما نهاية التاريخ الإنساني وليس الأمريكي فحسب .
ولقد أستغل الغربيون الليبراليون الإمكانيات الكبيرة المتاحة لديهم لنقل هذا المذهب إلى أقصى الدنيا وصناعة الحياة الإنسانية على أسسه ومبادئه عن طريق القوة السياسية والإقتصادية وتوظيف وسائل الإتصالات التي تمكنهم من مخاطبة كل الناس وفي كل الأرض .

ولعل من أبرز نتائج الليبرالية في مجال الإقتصاد (العولمةوما تحمله من مضامين فكرية وقيم أخلاقية وأنماط حضارية وهي تحمل الرغبة الغربية في السيطرة في كل اتجاه : الحربي والسياسي والقيمي والحضاري والإقتصادي .
فضلا عما تحمله من الدمار للإنسانية في معاشها الدنيوي وقد ظهرت آثار الرأسمالية في الحياة الغربية قبل مرحلة العولمة التي هي تعميم للرأسمالية على العالم كله .

مما جعل البعض يعتبر القرن الحادي والعشرين هو قرن المفكر الشيوعي (كارل ماركس) لما يرى من تكدس الثروة بيد طبقة من الناس وانتشار الفقر والعوز في الناس وأخذ الأموال من البشر بأي طريق ، والتفنن في احتكار السلع الضرورية وتجويع البشر وإذلالهم باسم الحرية الإقتصادية .


لقد أصبح من الواضح الجلي تأثير العالم الغربي في الحياة الإنسانية في كافة المجالات , ونحن المسلمين جزء من هذا العالم الذي يتلقى التأثير من الغرب في كل وقت , بل ربما نكون نحن معنيين بهذا التأثير أكثر من غيرنا لأننا – مع ضعفنا وهواننا على الناس – أمة منافسة في قوة الدين الذي نحمله وهذا ما جعل هنتجتون في مقاله (صراع الحضاراتيرشح المسلمين للصراع في المرحلة الحالية والقادمة كبديل للشيوعية بعد سقوطها أكثر من الجنس الأصفر (الصين واليابان ودول شرق وجنوب أسيا) لأن الدين الذي يحمله المسلمون فيه من عوامل البقاء والقدرة على الصراع وإمكان التفوق والصعود مرة أخرى ما يلاحظه أي مراقب في الحركة التاريخية والمسيرة الواقعية له.

والدعوة الإسلامية إذا استطاعت أن تواجه المشكلات الداخلية فيها - مثل التفرق والفوضوية ومخالفة الهدي النبوي وغيرها – فان أكبر ما يواجهها هو التيار الليبرالي في البلاد الإسلامية .
ولهذا كان من الضروري دراسة الفكر الليبرالي ومعرفة حقيقته وأبعاده لمعرفة كيفية التعامل معه وإدارة المعركة معه بنجاح , فكانت هذه الدراسة المختصرة التي تؤدي جزءا من المطلوب , وأتمنى من الأخوة القراء التواصل معي فيما يفيد في خروج البحث في صورته القادمة ولكل مَن أهدى لي ملاحظة أو تصحيح أو فائدة أو توثيق الشكر والدعاء بالأجر والثواب .



وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
كتبهعبد الرحيم بن صمايل السلمي
------- 

المبحث الأول : مفهوم الليبرالية .

من الصعوبة بمكان تحديد تعريف دقيق لليبرالية , وذلك بسبب تعدد جوانبها ,وتطورها من جيل إلى جيل.
يقول الأستاذ وضاح نصر :
"تبدو بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم الليبرالية أمراً صعباً وربما عديم الجدوى . وفي حال تحديد الليبرالية نجد أن هذا التحديد لا ينطبق على عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين سيموا بسمة الليبرالية
(الموسوعة الفلسفية العربية - المجلد الثاني – القسم الثاني – ص / 1155)
وقد قررت موسوعة لالاند الفلسفية الالتباس الحاصل في مفهوم الليبرالية ؛ فجاء فيها : 
"نرى من خلال التعريفات السابقة مدى التباس هذا اللفظ . ومما يزيد في الالتباس استعماله الطارئ المتداول في أيامنا للدلّ على الأحزاب أو النزعات السياسيَّة
(موسوعة لالاند الفلسفية 2/725)

وفي الموسوعة العربية العالمية :
"وتعتبر الليبرالية مصطلحاً غامضاً لأن معناها وتأكيداتها تبدَّلت بصورة ملحوظة بمرور السنين"
(الموسوعة العربية العالمية 21/247)

وقال الدكتور يوسف القرضاوي :
"وأمثال هذه المصطلحات التي تدل على مفاهيم عقائدية ليس لها مدلول واحد محدد عند الأوربيين . لهذا تفسر في بلد بما لاتفسر به في بلد آخر, وتفهم عند فيلسوف بما لاتفهم به عند غيره , وتطبق في مرحلة بما لاتطبق به في أخرى .
ومن هنا كان اختلاف التعريفات لهذه المفاهيم , وكانت الصعوبة في وضع تعريف منطقي جامع مانع يحدد مدلولها بدقة . حتى اشتقاق كلمة "ليبرالي" نفسها اختلفوا فيه :هل هي مأخوذة من (ليبرتيالتي معناها الحرية كما هو مشهور أم هي مأخوذة من أصل أسباني ؟"
(الحلول المستوردة ص / 50 - 51)

ولكن لليبرالية جوهر أساسي يتفق عليه جميع الليبراليين في كافة العصور مع اختلاف توجهاتهم وكيفية تطبيقها كوسيلة من وسائل الإصلاح والإنتاج .
هذا الجوهر هو :
أن الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى , الباعث والهدف , الأصل والنتيجة في حياة الإنسان , وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق عليه"
(مفهوم الحرية – عبد الله العروي – ص/ 39)

يقول الأستاذ وضاح نصر : 
"وإذا كان لليبرالية من جوهر فهو التركيز على أهمية الفرد وضرورة تحرره من كل نوع من أنواع السيطرة والاستبداد , فالليبرالي يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه : تسلط الدولة )الاستبداد السياسي) وتسلط الجماعة (الاستبداد الاجتماعي) لذلك نجد الجذور التاريخيَّة لليبرالية في الحركات التي جعلت الفرد غاية بذاته , معارضة في كثير من الأحيان التقاليد والأعراف والسلطة رافضة جعل إرادة الفرد مجرد امتداد لإرادة الجماعة"
(الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد الثاني - القسم الثاني –1155)

وأهم ما يميز الأدبيات الليبرالية الكلاسيكية المعاصرة هو اهتمامها المفرط بمبدأ الحرية , حيث يفترض الفكر الليبرالي أن الحرية هي الغاية الأولى والرئيسيَّة التي يتطلع لها الفرد بطبيعته.
وأنه لا يوجد إجابة مطلقة للسؤال الفلسفي المشهور : ما هي الحياة المثلى للإنسان ؟ لأن لكل فرد الحق والحرية في اختيار أسلوب الحياة الذي يناسبه .
(مقال في صحيفة الأهرام العدد (132) إبريل 1998م : الليبرالية : نظرة نقدية – دينا سماته – ص / 47) 

إذن مبدأ الحرية وتحقيق الفرد لذاته تمثل نقطة انطلاق في الفكر الليبرالي بكل أطيافه , وفي كل المجالات المختلفة .
وقد ورد في موسوعة لالاند أن :
"هذا الاسم )الليبرالية (عينه يدل خاصة على العقائد التي تعتبر ازدياد الحرية الفردية من مثلها , والعقائد التي ترى أن الحد من دور الدولة هو بمنزلة وسيلة أساسية لهذه الحرية"
(موسوعة لالاند الفلسفية 2/726)

والأساس الفلسفي الذي ينطلق منه الفكر الليبرالي هو المذهب الفردي الذي يرى أن الحرية الفردية هدفاً وغاية ينبغي تحقيقهاوقد عُرِّفت الليبرالية مجموعة تعريفات بحسب المجال الذي تعرَّف من خلاله.
(انظر سلسلة تراث الإنسانية 4 / 473- 474)

يقول منير البعلبكي :
"والليبرالية تعارض المؤسسات السياسية والدينية التي تحد من الحرية الفردية ... وتطالب بحقه في حرية التعبير وتكافؤ الفرص والثقافة الواسعة".
(موسوعة المورد العربية 2 / 1050)

وفي المؤسسة العربية أن الليبرالية :
"فلسفة اقتصادية وسياسية تؤكد على الحرية والمساواة وإتاحة الفرص"
(الموسوعة العربية العالمية 21 / 24)

وهذا التعريف ليس تعريفاً دقيقاً لمذهب فلسفي تغيَّر مفهومه مع السنين بسبب التقلبات الفكرية والسياسية والاجتماعية .
والحقيقة أن التعريف الدقيق لهذا المصطلح هو تعريفه بحسب المجال الذي يُعرف من خلالهنعرفها على النحو التالي : ليبرالية السياسة وليبرالية الاقتصاد وليبرالية الأخلاق ... وهكذا . وهذا ما قامت به موسوعة لالاند الفلسفيّة .
وسيأتي تعريف كل نوع على حدة في مبحث مجالات الليبرالية . 
وإذا تتبعنا مراحل الليبرالية التي مرت بها نجد أنها على النحو التالي :
(انظر مفهوم الحرية – عبدالله العروي – ص / 39 –40 بتصرف)

(1) مرحلة التكوين ..
والمفهوم الأساسي في هذه المرحلة هو مفهوم ذات الإنسان باعتباره الفاعل صاحب الاختيار والمبادرة .

(2) مرحلة الاكتمال ..
ومفهومها الأساسي هو مفهوم الفرد العاقل المالك لحياته وبدنه وذهنه وعمله , وعلى أساس هذا المفهوم شيد علم الاقتصاد العقلي المخالف للاقتصاد الإقطاعي المتفكك , وشيد علم السياسة العقلية المبني على نظرية العقد , والمخالف لسياسة الاستبداد المترهل المنخور .


(3) مرحلة الاستقلال ..
ومفهومها الأساسي هو مفهوم المبادرة الخلاّقة من المحافظة على الحقوق الموروثة , والاعتماد على التطور البطيء , وهو تطور من العقل الخيالي إلى الملك الواقعي .


(4) مرحلة التقوقع ..
ومفهومها الأساسي هو مفهوم المغايرة والاعتراض وترك مسايرة الآراء الغالبة , لأن الخلاف والاعتراض يبعد عن التقليد ويولد الإبداع .
ليس الغرض من بيان مراحل الليبرالية تاريخ تطور الفكر الليبرالي بل تحديد منظومة الأفكار المختلفة التي يتبين من خلالها خطأ إعطاء تعريف واحد لهذه الفلسفة صاحبة المفاهيم المتعددة .


ويلاحظ (رانزوليأن هذه الكلمة تستعمل في إنكلترا خصوصاً بالمعنى الاقتصادي , بينما تكاد تستعمل دائماً في إيطاليا بالمعنى السياسي الديني .
انظر موسوعة لالاند الفلسفية 2 / 726)

ويحاول طوكفيل – أحد أقطاب الليبرالية في القرن التاسع عشر – أن يحدد معنى الحرية فيقول :
"إن معنى الحرية الصحيح هو أن كل إنسان نفترض فيه أنه خلق عاقلاً يستطيع حسن التصرف , يملك حقاً لايقبل التفويت في أن يعيش مستقلاً عن الآخرين في كل ما يتعلق بذاته وأن ينظم كما يشاء حياته الشخصية"
(الحالة الاجتماعية والسياسية في فرنسا سنة 1836م (ضمن المؤلفات الكاملة) 2 / 62)

ونظراً لكون الحرية مفهوماً عاماً يوصل إلى التعارض والتنازع بين الحريات المتناقضة فإن هيمون يتمنى أن توضع الليبرالية في مقابل النظرية الانفلاتية وهذا تغيير لمفهوم الحرية (الانفلات):
"وعندئذ يمكن أن تكون الأولى (الليبراليةمعتبرة بوصفها النظرية الأخلاقية والسياسية التي تتوق إلى حرية الفرد أيما توق , وتحدّ في الوقت نفسه من المطالبة أو الحصول على هذه الحريات عندما تغدو إباحيات مضرة بالآخر (بمعنى إعلان الحقوقفي المقابل يمكن للنظرية (الانفلاتيةأن تكون صورة للفردية التي لاتعترف بأي حد مألوف وقانوني للحرية الفردية فهي وحدها الحكم على حقوق الفرد وفقاً لقوته"
(موسوعة لالاند الفلسفية 2 / 726 – 727) 

ويقابل الليبرالية مجموعة من المصطلحات المناقضة لمفهوم الحرية بالمعنى الليبرالي مثل :
الاستبدادية  (autocrtisme)
(موسوعة لالاند الفلسفية 2 / 726)

والحكومة الأوتوقراطية : وهي الحكومة الفردية المطلقة المستبدة ,
و (autocratic) : أي حاكم استبدادي ..
(انظر : المورد – للبعلبكي – ص /75)

الخلاصة :
الليبرالية لها مفاهيم متعددة بحسب ما تضاف إليه , ويجمعها الاهتمام المفرط بالحرية وتحقيق الفرد لذاته واعتبار الحرية هدفاً وغاية في ذاتها .
فالليبرالية هي "نظرية الحرية" , وهي نظرية ذات أطياف متعددة وجوانب مختلفة , وبمقادير متفاوتة .
والحرية – وكما يلا حظ الباحث المدقق – مفهوم عام يمكن أن يعني به الحرية المطلقة دون معنى محددا , وقد يريد به البعض معنا ًمحددا معينا.

ولكن المفهوم الفلسفي لهذا المذهب الفكري هو الحرية المطلقة التي لا تحدها الحدود ولا تمنعها السدود الا ما كان فيها تجاوز لحريات الآخرين على قاعدة (تنتهي حريتك حيث تبدأ حريات الآخرين) ومن استعمل هذا المصطلح لغير هذا المفهوم الشمولي فهو غير مصيب في استعمال المصطلح في غير مجاله وكان الأولى به البحث عن لفظ يناسب معناه غير هذا المصطلح .
وهذا يكشف مدى تردد الليبراليين العرب بين مفهوم المصطلح الفلسفي وبين انتسابهم للإسلام المناقض له من الجذور والأصول .
------------

المبحث الثاني : الليبرالية عند جون ستوارت مل ..

(انظر النصوص المنقولة عن جون ستوارت مل : كتابه في الحرية ضمن سلسلة تراث الإنسانية (الجزء الرابع)

يعتبر ملْ من أبرز المفكرين الغربيين الذين نظّروا للفلسفة الليبرالية من خلال كتابه (في الحرية – on librty )
(قسم ستوارت مل كتابه في الحرية إلى خمسة فصول , أولها في فكرة الحرية , والثاني : حرية الفكر والمناقشة , والثالث : الفردية كعنصر من عناصر الحياة الطيبة , والرابع : حدود سلطة المجتمع على الفرد , والخامس : تطبيقات)

والذي أصبح المصدر الأساسي لفكر الليبراليين العرب من أمثال أحمد لطفي السيد , وطه حسين , وحسين هيكل !!..
(انظر مفهوم الحرية – عبدالله العروي – ص / 42)

أخذ مل موضوع الليبرالية من الجهة التطبيقية والاجتماعية ولم يناقشها من الناحية الفلسفية المجردة فيقول :
"لا يتناول هذا المقال ما يسمى حرية الإرادة , وهي التي تتعارض مع ما يدعى خطأ بفلسفة الضرورة , ولكنه بحث في الحرية المدنية الاجتماعية".
(انظر مفهوم الحرية – عبدالله العروي – ص / 42)

وقد تحدث مل عن حركة الفكر وقال عن المعتقدات الدينية :
"ولا أقول أن الاعتقاد بصدق العقيدة مدعاة للعصمة , بل إن ما أقوله إن ادعاء العصمة معناه إجبار الغير على قبول ما نراه في العقيدة دون أن نسمع رأيه فيها , ولا أستطيع أن أدعي العصمة حتى وإن كانت لحماية أعز معتقداتي".

ويقيد مل الحرية حتى لا تصبح انفلاتية متناقضة فيقول :
"كلما تعين ضرر واقع أو محتمل, إما للفرد وإما للعموم ينزع الفعل الذي يتسبب في الضرر من حيّز الحرية ليلحق بحيّز الأخلاق أو بحيّز القانون".

ويقول :
"إن ما يخص الفرد وحده هو من حقوقه , ومايخص المجتمع فهو حق للمجتمع".

ويرى مل أن الدولة لابد أن يكون لها حَدّ معين تقف عنده لينمو رصيد الحرية عند الأفراد سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو غيره وأنه بدون ذلك سيتحول الأمر إلى استبداد حتى لو كان هناك حرية في مجال معين أو انتخاب تشريعي.
(سيأتي تفصيل رأي الليبراليين في الدولة والاقتصاد في مبحث مجالات الليبرالية)

يقول مل :
"إذا كانت الطرق والسكك والبنوك ودور التأمين والشركات بالمساهمة والجامعات والجمعيات الخيرية كلها تابعة لإدارة الحكومة , وإذا أصبحت – زيادة على ماسبق – البلديات والجماعات المحلية مع مايترتب عنها اليوم من مسؤوليات , أقساماً متفرعة عن الإرادة المركزية, إذا كانت الحكومة هي التي تعيّن موظفي تلك المصالح وتكافؤهم بحيث يعود أملهم في تحسين معاشهم معقوداً عليها , إذا حصل كل هذا , حينئذ تصبح الحرية اسماً بلا مسمى , رغم المحافظة على حرية الصحافة وعلى انتخاب المجلس التشريعي بالاقتراع العام".
ورغم أن الديمقراطية من إفرازات الليبرالية إلا أن مل ينتقد الديمقراطية لأنه يعتبرها هيمنة للأكثرية على حرية الأقلية ولو كان فرداً واحداً.
يقول ملْ:
"إن مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية.. بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية".

ويقول عن إنجلترا :
"ليست هذه البلاد وطناً لحرية الفكر".

وتوضيح ذلك :
أن من مقومات الليبرالية المهمة ضرورة الاعتراض والمغايرة لينمو بذلك الفكر الحر أما إذا كانت الأمور مسلمة لا تحتمل النقد يجمد الفكر ويضمحل الابتكار.
يقول :
"عندما نقبل أن تكون المبادئ مسلمات لاتحتمل النقد , وأن تكون المسائل الكبرى التي تهم البشر موضحة بدون نقاش محدد , حينذاك يضمر النشاط الفكري الذي طبع الفترات الذهبية من تاريخ الإنسان".

ويعتبر ذلك من أبرز صور الاستبداد لأن مخالفة الجمهور وحيوية النقاش وبلورة الشخصية الفردية هي أساس التطور والتقدم والتحديث , ومن لم يكن كذلك فلا تاريخ له بالمعنى الحقيقي .
يقول مل:
"إن القسم الأكبر من الإنسانية لا يملك تاريخاً بالمعنى الحقيقي لأنه يئن تحت وطأة الاستبداد".

الدين في كتاب ستوارت ملْ ..
(النقول المنقولة عن كتاب (في الحرية)مأخوذة من مفهوم الحرية – للعروي – ص / 46 وقد صور العروي أن كلام (ملْ) هو نقد للإسلام .ويبدو أنه استنتاج من المؤلف , وأن ملْ لم ينص على نقد الإسلام باسمه بل بالآراء التي توحي بذلك (هذا ما أراه)

يرى ملْ أن المجتمع الديني غير ليبرالي لأنه مجتمع في نظامه للحكم فردي استبدادي , ونظامه الاجتماعي العام مؤسس على الإجماع في الرأي وعلى تحريم النقد والنقاش المفتوح
(مفهوم الحرية – عبدالله العروي – ص / 46)

وهو ينتقد كل دين أو مجتمع متشدد في قوانينه الأخلاقية والدينية أي التي يضعها فوق النقاش . بما في ذلك المجتمع اليوناني في زمن نهضة العلوم , والإصلاح الديني (البروتستانت) والمجتمع الإنجليزي والأمريكي .
ويصرح ملْ بنقد الدين في اعتراضه على تحريم تجارة الخمر ,فيقول :
"إن التحريم يمس حرية الفرد لأنه يفترض الفرد لا يعرف مصلحته"

وكذلك تحريم أكل لحم الخنـزير , فيقول :
"إن للمسلمين الحق في تجنبهم لحم الخنـزير لأنهم يعافونه , لكنهم عندما يحتقرون غيرهم ممن لا يعافه ويأكله , فإنهم يمسون بحرية ذلك الغير".

وهو يعارض فكرة الحسبة لأنه يعتبر ذلك وضعاً للنفس في موضع الإله , يقول :

"إن الناس عندما ينهون غيرهم عن المنكر يعتقدون أن الله لا يكره فقط من يعصي أوامره , بل سيعاقب أيضاً من لم ينتقم في الحال من ذلك العاصي".


ومن الطريف أن ستوارت ملْ يعود إلى الاعتراف بأهمية الحسبة ويناقض نفسه لمّا طرح الأسئلة التالية :
"هل يجوز السماح ببيع السم أو التبغ أو الخمر ؟ هل يسمح للمرء أن يبيع نفسه لغيره ؟ هل يجب إجبار المرء على التعلم ؟ هل يجب تحديد النسل ؟


ولنقارن الآن بين قول ملْ الآتي وبين إنكاره مفهوم الحسبة بأنه اتهام للإنسان أنه لا يعرف مصلحته يقول :
"في كل قضية من القضايا السابقة إن عدم تدخل الدولة قد يؤدي إلى أن يضر المرء نفسه بنفسه : أن يبقى جاهلاً أو أن يبذر ماله أو أن يسمم أقرباءه أو أن يبيع نفسه , ولكن إذا تدخلت الدولة ومنعت بعض الأنشطة , فسيكون المنع بالنسبة للرجل العاقل تجنياً على حقه في التصرف الحر".
ويقول :

إذا كانت الدولة مسؤولة على تغذية الفقراء فلها الحق أن تحد النسل , أما إذا تركت الناس ينجبون كما شاؤوا فليس عليها أن تعيل الفقراء" !!..
(حول الاقتصاد السياسي (عن مفهوم الحرية ص 531)


وهنا يناقض ملْ نفسه في عدة قضايا : 
- في تدخل الدولة للمصلحة لأنه ليس كل إنسان يعرف مصلحة نفسه .
- في إبطال قاعدة أن الإنسان يعرف مصلحته ولا يحتاج إلى وصاية .
- في إنكار مبدأ الحسبة وتقييد الحريات المطلقة.
----------

المبحث الثالث : نشأة الليبرالية وتطورها ..


نشأة الليبرالية وجذورها ..

نشأت الليبرالية في التغيرات الاجتماعية التي عصفت بأوربا منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، وطبيعة التغير الاجتماعي والفكري يأتي بشكل متدرج بطيء. 
وهي لم تتبلور كنظرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع على يد مفكر واحد، بل أسهم عدة مفكرين في إعطائها شكلها الأساسي وطابعها المميز. 
فالليبرالية ليست اللوكية ( نسبة إلى جون لوك 1632 – 1704 )، أو الروسووية ( نسبة إلى جان جاك روسو 1712-1778 ) أو الملّية ( نسبة إلى جون ستوارت ملْ 1806-1873 )، وإن كان كل واحد من هؤلاء أسهم إسهاماً بارزاً أو فعالاً في إعطائها كثيراً من ملامحها وخصائصها"
(الموسوعة الفلسفية العربية الجزء الثاني – القسم الثاني – ص / 1155)

وقد حاول البعض تحديد بداية لبعض مجالاتها .. ففي موسوعة لا لاند الفلسفية :
"الليبرالي ( أول استعمال للفظة ) هو الحزب الأسباني الذي أراد نحو 1810م أن يدخل في أسبانيا من الطراز الإنكليزي"
( موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726 )

ويذكر الأستاذ وضاح نصر: " أن الليبرالية في الفكر السياسي الغربي الحديث نشأت وتطورت في القرن السابع عشر، وذلك على الرغم من أن لفظتي ليبرالي وليبرالية لم تكونا متداولتين قبل القرن التاسع عشر.
( الموسوعة الفلسفية العربية الجزء الثاني – القسم الثاني ص 1156 )

قال منير البعلبكي :
" الليبرالية (liberalism) فلسفة سياسية ظهرت في أوربا في أوائل القرن التاسع، ثم اتخذت منذ ذلك الحين أشكالاً مختلفة في أزمنة وأماكن مختلفة "
( موسوعة المورد العربية 2/1050 )

والظاهر من تاريخ الليبرالية أنها كانت رد فعل لتسلط الكنيسة والإقطاع في العصور الوسطي بأوربا ، مما أدى إلى انتفاضة الشعوب ، وثورة الجماهير ، وبخاصة الطبقة الوسطي.والمناداة بالحرية والإخاء والمساواة، وقد ظهر ذلك في الثورة الفرنسية. وقد تبين فيما بعد أن هناك قوى شيطانية خفية حولت أهداف الثورة وغايتها ..
( انظر : الموسوعة الفلسفية العربية )

وبهذا يتضح لنا أن الليبرالية في صورتها المعاصرة نشأت مع النهضة الأوربية ثم تطورت في عصور مختلفة إلى يومنا هذا. 
ويرد بعض الباحثين جذور الليبرالية إلى ديمقراطيّ أثينا في القرن الخامس قبل المسيح، والرواقين في المراحل الأولى من المسيحية، ثم حركة الإصلاح البروتستانتية ..
( انظر : الموسوعة الفلسفية العربية الجزء الثاني – القسم الثاني ص 1156 )

وقد ذكر البعلبكي أن في حركة الإصلاح الديني توجهاً ليبرالياً فقال :
" كما يطلق لفظ الليبرالية كذلك على حركة في البروتستانتية المعاصرة تؤكد على الحرية العقلية "
( موسوعة المورد العربية 4/1050 )

يقول الدكتور علي بن عبد الرزاق الزبيدي:
" ومن الصعب تحديد تاريخ معين لنشأة الليبرالية فجذورها تمتد عميقة في التاريخ "
( مقال : في الدول الليبرالية – مجلة المؤرخ العربي العدد 35، ص / 71 )

ويعتبر جون لوك من أوائل الفلاسفة الليبراليين وفلسفة تتعلق بالليبرالية السياسية.
-------


تطور الليبرالية : 
أخذت الليبرالية أطواراً متعددة بحسب الزمان والمكان وتغيرت مفاهيمها في أطوارها المختلفة ، وهي تتفق في كل أطوارها على التأكيد على الحرية وإعطاء الفرد حريته وعدم التدخل فيها. 
ويمكن أن نشير إلى طورين مهمين فيها: 

أولاً : الليبرالية الكلاسيكية : 
يعتبر جوك لوك ( 1704م ) أبرز فلاسفة الليبرالية الكلاسيكية، ونظريته تتعلق بالليبرالية السياسية، وتنطلق نظريته من فكرة العقد الاجتماعي في تصوره لوجود الدولة، وهذا في حد ذاته هدم لنظرية الحق الإلهي التي تتزعمها الكنيسة. 
وقد تميز لوك عن غيره من فلاسفة العقد الاجتماعي بأن السلطة أو الحكومة مقيدة بقبول الأفراد لها ولذلك يمكن بسحب السلطة الثقة فيها ..
( انظر العلمانية – سفر الحوالي – ص /214 ، وانظر تفصيل نظرية لوك في ذلك : الموسوعة الفلسفية الجزء الثاني – القسم الثاني ص /1156-1157 )

وهذه الليبرالية الإنكليزية هي التي شاعت في البلاد العربية أثناء عملية النقل الأعمى لما عند الأوربيين باسم الحضارة ومسايرة الركب في جيل النهضة كما يحلو لهم تسميته. 
يقول القرضاوي :
" وهي التي يمكن أن يحددها بعضهم بـ" ليبرالية ألوكز" وهي التي أوضحها جوك لوك وطورها الاقتصاديون الكلاسيكيون ، وهي ليبرالية ترتكز على مفهوم التحرر من تدخل الدولة في تصرفات الأفراد،سواء كان هذا في السلوك الشخصي للفردأم في حقوقه الطبيعية أم في نشاطه الاقتصادي آخذاً بمبدأ دعه يعمل"
( الحلول المستوردة ص 51 )

وقد أبرز آدم سميث (1790م) الليبرالية الاقتصادية وهي الحرية المطلقة في المال دون تقييد أو تدخل من الدولة.
وقد تكونت الديمقراطية والرأسماليّة من خلال هذه الليبرالية، فهي روح المذهبين وأساس تكوينها، وهي مستوحاة من شعار الثورة الفرنسية " دعه يعمل " وهذه في الحرية الاقتصادية " دعه يمر " في الحرية السياسية. وسيأتي التفصيل في مجالات الليبرالية. 

ثانياً : الليبرالية المعاصرة : 
" تعرضت الليبرالية في القرن العشرين لتغيّر ذي دلالة في توكيداتها. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأ العديد من الليبراليين يفكرون في شروط حرية انتهاز الفرص أكثر من التفكير في شروط من هذا القيد أو ذاك. وانتهوا إلى أن دور الحكومة ضروري على الأقل من أجل توفير الشروط التي يمكن فيها للأفراد أن يحققوا قدراتهم بوصفهم بشراً. 
ويحبذ الليبراليون اليوم التنظيم النشط من قبل الحكومة للاقتصاد من أجل صالح المنفعة العامة. وفي الواقع، فإنهم يؤيدون برامج الحكومة لتوفير ضمان اقتصادي، وللتخفف من معاناة الإنسان. 
وهذه البرامج تتضمن : التأمين ضد البطالة ، قوانين الحد الأدنى من الأجور ، ومعاشات كبار السن ، والتأمين الصحي. 
ويؤمن الليبراليون المعاصرون بإعطاء الأهمية الأولى لحرية الفرد ، غير أنهم يتمسكون بأن على الحكومة أن تزيل بشكل فعال العقبات التي تواجه التمتع بتلك الحرية. 
واليوم يطلق على أولئك الذي يؤيدون الأفكار الليبرالية القديمة : المحافظون "
( الموسوعة العربية العالمية 21/248 )

ونلاحظ أن أبرز نقطة في التمايز بين الطورين السابقين هو في مدى تخل الدولة في تنظيم الحريات ، ففي الليبرالية الكلايسيكية لا تتدخل الدولة في الحريات بل الواجب عليها حمايتها ليحقق الفرد حريته الخاصة بالطريقة التي يريد دون وصاية عليه ، أما في الليبرالية المعاصرة فقد تغير ذلك وطلبوا تدخل الدولة لتنظيم الحريات وإزالة العقبات التي تكون سبباً في عدم التمتع بتلك الحريات. 
وهذه نقطة جوهرية تؤكد لنا أن الليبرالية اختلفت من عصر إلى عصر ، ومن فيلسوف إلى آخر ، ومن بلدٍ إلى بلدٍ ، وهذا يجعل مفهومها غامضاً كما تقدم. 
وقد تعرف الليبرالية تطورات أخرى في المستقبل ، ولعل أبرز ما يتوقع في الليبرالية هو التطور نحو العولمة التي هي طور ليبرالي خطير وسيأتي الإشارة إليه في المبحث الرابع. 
-----------


المبحث الرابع : مجالات الليبرالية ..

تعددت مجالات الليبرالية بحسب النشاط الإنساني . وذلك أن الليبرالية مفهوم شمولي يتعلق بإدارة الإنسان وحريته في تحقيق هذه الإرادة فكل نشاط بشري يمكن أن تكون الليبرالية داخلة فيه من هذه الزاوية ، وبهذا الاعتبار. 
" إن خصوصية الليبرالي عامة أنه يرى في الحرية أصل الإنسانية الحقّة وباعثة التاريخ. وخير دواء لكل نقص أو تعثر أو انكسار "
( مفهوم الحرية – العروي –ص /511 )

وأبرز هذه المجالات شهرة : المجال السياسي ، والمجال الاقتصادي. 

أولاً : ليبرالاية السياسة ..
في موسوعة لالاند الفلسفية:
" الليبرالية: مذهب سياسي يرى أن من المستحسن أن تزاد إلى أبعد حد ممكن استقلالية السلطة التشريعية والسلطة القضائية بالنسبة إلى السلطة الإجرائية التنفيذية ، وأن يعطى للمواطنين أكبر قد من الضمانات في مواجهة تعسف الحكم".
( موسوعة لا لاند الفلسفية 2/725 )
ويقول منير البعلبكي :
" الليبرالية liberalism فلسفة سياسية ظهرت في أوربا في أوائل القرن التاسع عشر.. تعارض المؤسسات السياسية والدينية. التي تحد من الحرية الفردية ، وتنادي بأن الإنسان كائن خيّر عقلاني ، وتطالب بحقه في التعبير وتكافؤ الفرص والثقافة الواسعة "
( موسوعة المورد العربية 4/1050 )

وتعتبر الديمقراطية من النظم الليبرالية التي تسعى لإعطاء الفرد حقوقه وهي نوع من التطبيق العلمي للفكر الليبرالي. يقول الدكتور حازم البيلاوي :
" فنقطة البدء في الفكر الليبرالي هي ليس فقط أنها تدعو للديمقراطية بمعنى المشاركة في الحكم ، ولكن نقطة البدء هو أنه فكر فردي يرى أن المجتمع لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفراد التي يسعى كل فرد فيها إلى تحقيق ذاته وأهدافه الخاصة "
( مجلة آفاق الإسلام – عدد 4-عام 1994م )

وقد أعطت الديمقراطية كنظام سياسي جملة من الحريات السياسية مثل : حرية الترشيح ، وحرية التفكير والتعبير ، وحرية الاجتماع ، وحرية الاحتجاج ، كما أعطت جملة من الضمانات المانعة من الاعتداء على الأفراد وحرياتهم مثل : ضمان الاتهام ، وضمان التحقيق ، وضمان التنفيذ، وضمان الدفاع"
( انظر تفصيل ذلك في : مذاهب فكرية معاصرة – للأستاذ محمد قطب – ( الديمقراطية) )

"وقد أدّت الثورات الليبرالية إلى قيام حكومات عديدة تستند إلى دستور قائم على موافقة المحكومين.وقد وضعت مثل هذه الحكومات الدستورية العديد من لوائح الحقوق التي أعلنت حقوق الأفراد في مجالات الرأي والصحافة والاجتماع والدين.كذلك حاولت لوائح الحقوق أن توفر ضمانات ضد سوء استعمال السلطة من قبل الشرطة والمحاكم"
( الموسوعة العربية العالمية 21/248 )

ومع ذلك فإن الليبرالية تطالب من الدول الديمقراطية مزيداً من الحريات تطالب بالتخفف من السلطة على الأفراد ليحصل بذلك الفرد على حريته.
ويرى سبنسر أن وظائف الدولة يجب أن تحصر في الشرطة والعدل والدفاع العسكري بمواجهة الأجنبي ..
( الموسوعة العربية العالمية 21/248 )

ويظهر من ذلك المطالبة بغياب الدولة إلا فيما يتعلق بالحماية العامة للمجتمع ، وهذا هو رأي الليبراليين الكلاسيكيين. وقد انقرض هذا الرأي في الليبرالية المعاصرة التي جنحت إلى اعتبار الحرية الفردية هدفاً ولو بتدخل الدولة . بينما كان المذهب الأساسي عند الكلاسيكيين المطالبة بغياب الدولة مهما تكن نتائجه على الفرد ..
( انظر : موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726 )

وقد اختلف الليبراليون الكلاسيكيون مع الديمقراطيين في مَن يملك حق التشريع العام ؟ فالديمقراطيون يرون أن الأكثرية هي التي تقرر وتشرع وتمسك بزمام السلطة. أما الليبراليون فقد اهتموا بحماية الفرد من الأذى، وأن هذا هو مهمة القانون بدل التشديد على حق الآخرين بسبب الأكثرية ، وهذه من نقاط التصادم بينهم ..
( الموسوعة الفلسفية العربية الجزء الثاني – القسم الثاني – ص /1160 )

ولكن الليبرالية اختلفت في الواقع المعاصر عمّا كانت عليه سابقاً.
ويمكن أن نطلق على التوجه الجديد ( الليبرالية الجديدة ) وبرروا ذلك بأنه نتيجة لعدم مسايرة الليبرالية التقليدية للتطور الذي شهده العالم كان ذلك هو السبب في ولادة ليبرالية جديدة تتلاءم وظروف المجتمع الجديد ، وهي ليبرالية ما بعد الحرب العالمية الثانية ..
( مقال : في الدولة الليبرالية – مجلة المؤرخ العربي – عدد 35- ص/73 )

والفرق بينهما فيما يتعلق بالسياسة هو
أن دور الدولة في ظل النظرة الجديدة يجب أن يكون أكبر ، فلها مهمة أساسية هي تحديد الإطار القانوني للمؤسسات التي يدور فيها النشاط الاقتصادي ، وقد حدد منظرو الليبرالية الجديدة دور الدولة الذي يجب أن تقوم به بما يلي :- 

1- أن تعمل كل جهدها ضد التضخم والانكماش. 
2- أن تحد بشكل معتدل من سلطة الاحتكار وبشكل تتابعي. 
3- أن تؤمم فقط الاحتكارات التي لا يمكن للقطاع الخاص. 
4- أن تتحمل كافة الخدمات العامة. 
5- أن تعطي الفرص والموارد بالتساوي.
6- أن تطبق التخطيط التأثيري من أجل التقليل من المخاطر التي قد تحدث.
7- أن تطبق التخطيط المركزي عندما يقتضي أن يكون هناك عمل تغير بنائي. 
8- أن تتدخل عندما يكون هناك خلل في ميكانيكية السوق ..
( انظر مقال : في الدولة الليبرالية – مجلة المؤرخ العربي – عدد 35-ص/73 )
-----

ثانياً : ليبرالية الاقتصاد ..
الليبرالية الاقتصادية:
" مذهب اقتصادي يرى أن الدولة لا ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية ، ولا وظائف تجارية ، وأنها لا يحقّ لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم. بهذا المعنى يقال غالباً ليبرالية اقتصادية"
 موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726 )

ويلاحظ أن هذا التعريف واقع على الليبرالية الكلاسيكية قبل التحول الكبير الذي تم في الليبرالية الجديدة على نحو ما سيأتي. 
ويقول البعلبكي :
" ويطلق لفظ الليبرالية أيضاً على سياسة اقتصادية نشأت في القرن التاسع عشر متأثرة بآراء آدم سميث بخاصة ، وأكدت على حرية التجارة وحرية المنافسة ، وعارضت تدخل الدولة في الاقتصاد"
( موسوعة المورد العربية 2/1050 )

والليبرالية الاقتصادية وثيقة الصلة بالليبرالية السياسية ، ويعتقد الليبراليون أن الحكومة التي تحكم بالحد الأدنى يكون حكمها هو الأفضل.. ويرون أن الاقتصاد ينظم نفسه بنفسه إذا ما ترك يعمل بمفرده حراً ، ويرون أن تنظيمات الحكومة ليست ضرورية ..
( انظر الموسوعة العربية العالمية 21/248 )

وأبرز النظم الاقتصادية الليبرالية هو نظام " الرأسمالية " التي رتّب أفكاره عالم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث في كتابه ( ثروة الأمم ). 
ويدخل في الحرية التي يطالب بها الليبراليون حرية حركة المال والتجارة ، وحرية العمل وحرية التعاقد ، وحرية ممارسة أي مهنة أو نشاط اقتصادي آخذاً من الشعار الشهير للثورة الفرنسية " دعه يعمل دعه يمر." 

كما أن الذي يحكم قواعد اللعبة الاقتصادية وقيمها هو سوق العرض والطلب دون أي تقييد حكومي أو نقابة عمالية. فللعامل الحرية في العمل أو الترك كما لصاحب رأس المال الحرية المطلقة في توظيف العدد الذي يريد بالأجرة التي يريد..
( انظر الليبرالية المتوحشة ص/41 )

ولكن سبق أن ذكرنا أن المفهوم الليبرالي تغير وبرزت الليبرالية الجديدة عل السطح بعد الحرب العالمية الثانية بسبب الأزمات الاقتصادية الخانقة والكساد وذلك لتمركز رأس المال وظهور الاحتكارات الصناعية الضخمة ، وانهيار قاعدة الصرف بالذهب وأزمة الثورات العمالية في ألمانيا مما جعل الحكومات تتدخل لإنعاش الاقتصاد فتغيرت الأيديولوجية الليبرالية إلى القول بأهمية تدخل الحكومة لتنظيم السوق ..
( انظر المصدر السابق ص/47-51 )

وقد فصّل صاحب كتاب " الليبرالية المتوحشة " كيفية تدخل الدولة لإنعاش الاقتصاد وإصلاح السوق ، وبهذه المرحلة تغيب شمس الليبرالية الكلاسيكية حيث أبطل الواقع فكرة إصلاح السوق لنفسه لتبرز إلى السطح الليبرالية الجديدة بقوة. 
وقد أطيل النفس في مراحل الاقتصاد الليبرالي في الكتاب سابق الذكر، ونقد فكر الليبرالية الجديدة واقعياً ببيان انحدار الازدهار الاقتصادي الذي حققته الرأسمالية بعد الحرب الكونية الثانية ، فبدأت معدلات النمو الاقتصادي في التراجع وارتفعت معدلات البطالة والطاقة المعطلة ، وانخفضت معدلات نمو الإنتاجية..
( انظر : نفس المصدر السابق )
ولعل أبرز تطور جديد في الليبرالية المعاصرة هو " ليبرالية العولمة " ومن دلالتها الفكرية : العودة إلى الليبرالية الكلاسيكية كمفهوم ، وذلك أن من أبرز معالم العولمة : التخفيف من التدخل الحكومي في انتقال المال عبر الحدود والأسوار السياسية ، وذلك لتحقيق أعلى الأرباح ، فقد طبّقت الفلسفة الليبرالية عملياً عن طريق الشاويش السياسي الذي يحمي هذه الفكرة القديمة في الضمير الغربي. 

لقد أصبح الاقتصاد وسيلة سياسية للسيطرة ، ونقل الثقافات الحضارية بين الأمم ، ولهذا فالأقوى اقتصادياً هو الأقوى سياسياًّ ولهذا اقتنعت الدول الغربية بهذه الفلسفة مع مشاهدتها لآثار الرأسمالية على الشعوب الفقيرة ، ومن خلال اللعبة الاقتصادية يمكن أن تسقط دول ، وتضعف أخرى. 

وجذر العولمة الفكري هو انتفاء سيادة الدول على حدودها ومواطنيها فضلاً عن عدم سيطرتها عل النظام الاقتصادي الحر الذي كان يطالب به الليبراليون الكلاسيكيون. 
يقول رئيس المصرف المركزي الألماني هناس تيتمار في فبراير من عام 1996م أمام المنتدى الاقتاصادي في دافوس :
" إن غالبية السياسيين لا يزالون غير مدركين أنهم قد صاروا الآن يخضعون لرقابة أسواق المال ، لا ، بل إنهم صاروا يخضعون لسيطرتها وهيمنتها"
( انظر في العلاقة بين الليبرالية والعولمة : كتاب " فخ العولمة " ومنه أخذت النصوص السابقة )

وسوف يكون قادة العالم في المرحلة القادمة ( العولمة ) هم أرباب المال ، وسدنة المؤسسات الاقتصادية الكبرى. 
والعولمة مبنية على نظرية اقتصادية ينصح بها عدد من الخبراء والاستشاريين الاقتصاديين. ويقدمونها دون ملل للمسئولين عن إدارة دفة السياسة الاقتصادية على أنها أفضل نهج وهي (الليبرالية الجديدة new liberalisms) وشعار هذه النظرية (ما يفرزه السوق صالح ، أما تدخل الدولة فهو طالح)
( انظر في العلاقة بين الليبرالية والعولمة : كتاب " فخ العولمة " ومنه أخذت النصوص السابقة )

وهذا صريح في إعادة ترميم الليبرالية الكلاسيكية والارتداد إليها بعد التغير الذي حصل بعد الحرب العالمية
الثانية.